جورج أبيض ورموز المسرح التونسي

جورج أبيض ورموز المسرح التونسي

العدد 736 صدر بتاريخ 4أكتوبر2021

عزيزي القارئ .. أعترف لك الآن بأن المقالات الأربع السابقة لم تكن مدرجة في خطة كتاباتي – التي ستبدأ من هذه المقالة – لأن خطتي كانت مبنيّة على عنوان رئيسي هو «العلاقات المسرحية بين مصر وتونس»!! ولكن ما نشرته من معلومات في المقالات السابقة له أهمية تاريخية وبحثية؛ ولكنها معلومات فنية في أمور تتعلق بالغناء والطرب والإذاعة، ولم ترتبط بالمسرح بصورة مباشرة! ولو لم أكتبها الآن ضمن هذا المشروع، فلن أكتبها مستقبلاً – رغم أهميتها - لعدم إتاحة فرصة أخرى للحديث الموسع في العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس.
وبناءً على ذلك فالمتوقع الآن أنني سأكتب عن العلاقات المسرحية بين مصر وتونس، منذ مجيء «سليمان القرداحي» وتوثيق دوره في إنشاء المسرح العربي في تونس، ثم الحديث عن «الشيخ سلامة حجازي» وزيارته المهمة إلى تونس .. إلخ هذه البدايات التي شكّلت نشأة المسرح العربي في تونس!! وللأسف هذا التوقع غير وارد؛ لأنه ضد أسلوبي في التأريخ والتوثيق، ويبتعد تماماً عن مشروعي العلمي، الذي أعتمد فيه دائماً على «الجديد» غير المنشور!! وبناءً على ذلك، فلن أقترب من القرداحي أو الشيخ سلامة حجازي، وسأقترب قليلاً من «جورج أبيض» لأن جديداً يُمكنني أن أضيفه حول جهوده!
وعدم اقترابي من القرداحي والشيخ سلامة راجع إلى أن كتابات رصينة سبقتني إليهما، وكتبت بإسهاب ودقة توثيقية عن دورهما المسرحي في تونس، مثل: المنصف شرف الدين في كتابه «تاريخ المسرح التونسي» المنشور عام 1972، ومحمد مسعود إدريس في كتابيه «دراسات في تاريخ المسرح التونسي» المنشور عام 1993، و«في تاريخ المسرح التونسي: نصوص ووثائق» المنشور عام 2007، والدكتور محمد عبازة في كتابه «تطور الفعل المسرحي بتونس من النشأة إلى التأسيس» المنشور عام 1997. 
وبناء على ذلك سأتحدث في مقالاتي القادمة عن «يوسف وهبي، فاطمة رشدي، منيرة المهدية، نجيب الريحاني، بديعة مصابني، ببا عز الدين، الفرقة القومية»، وسيكون الختام مطولاً حول جهود «زكي طليمات»!! وهذه الأسماء ربما تثير سؤالين الآن في ذهن القارئ، الأول: هل هذه الأسماء ذهبت إلى تونس بالفعل وعرضت فنها هنا؟ والسبب في إثارة هذا السؤال أن المعروف والمشاع في الكتابات عن العلاقات المسرحية بين مصر وتونس، أنها محصورة في اسمين فقط، هما «فاطمة رشدي، وزكي طليمات»!! والسؤال الثاني: هل من جديد يُمكن أن نقرأه في المقالات القادمة حول هذه الأسماء ودورها في تونس؟! الإجابة عن هذا السؤال – أو عن السؤالين معاً - صعبة الآن؛ ولكنني أستطيع أن أضمن لك عزيزي القارئ أنك ستقرأ تفاصيل جديدة .. لم تقرأها من قبل!
رحلة أبيض الأولى
أغلب الكتابات التي أرخت ووثقت جهود «جورج أبيض» في تونس، اعتمدت فقط على رحلته الأولى التي قام بها في أوائل عشرينيات القرن الماضي؛ بوصفها رحلة محددة إلى تونس! ولكن جريدة «المقطم» أبانت عن تفاصيل لهذه الرحلة، قالت عنها في إبريل 1921: «سافر يوم السبت الأستاذ جورج أبيض وجوقه في رحلة عظمى يقوم بها في جهات أمريكا الشمالية والجنوبية وتونس وبلاد العرب وطرابلس الغرب والجزائر. وستدوم هذه الرحلة نحو سنة ونصف يبرز فيها الأستاذ جورج أبيض وجوقته في الخارج، ولدى المهاجرين الشرقيين في أمريكا، آثار الفن التمثيلي. وقد جرى الاتفاق مع شركة سينماتوغراف في أمريكا على صنع فيلم شرقي عربي، وتأسيس شركة سينماتوغرافية شرقية في مصر وسورية، لإدخال التمثيل العربي في السينما. وعدد الجوق الذي سافر 27 ممثلاً وممثلة ومغنياً ومغنية، فضلاً عن القسم الموسيقى الجامع للطرب الكامل».
وبعد عودة أبيض، أشارت جريدة «الأهرام» - في سبتمبر 1922 - إلى أنه «مثّل في حفلة أقيمت في تونس حضرها صاحب السمو الباي، فسرّ كثيراً لما شاهده من رقي التمثيل، وطلب الأستاذ أبيض فأنعم عليه بوسام الاجتهاد من رتبة «أوفيسيه». ومن الواضح أن جورج أبيض ظل في رحلته هذه ما يقرب من الثلاثة أعوام. وعند عودته نشرت جريدة «السياسة» حواراً معه في سبتمبر 1923، علمنا منه أنه زار الجزائر وتونس وليبيا وسوريا وفلسطين. فحاورته الجريدة حول التمثيل في هذه البلاد، فجاء حواره مهماً، لأننا علمنا منه أشياء جديدة عن علاقة هذه البلدان بالمسرح، حيث قال عن نهضة المسرح:
«إنها لم تبلغ في بلد من البلاد ما بلغته في مصر. على أن نهضة التمثيل كبيرة في الأقطار التونسية والاهتمام به عظيم. وقد لاقى الأستاذ أبيض إقبالاً كبيراً لأن أهل تونس يشعرون بما للتمثيل من فائدة وهم يقدرونه حق قدره. أما الجزائر فالتمثيل العربي فيها ميت واللغة العربية ميتة، فكان الناس لا يكادون يفهمون الإعلانات التي تقدم إليهم باللغة العربية. على أن الأستاذ أبيض وجد مساعدين له في شخصيّ الأمير خالد الجزائري، والقائد حمود العضو بالمجلس البلدي، فكانا يهديان الناس إلى مشاهدة التمثيل، حتى بدأوا يشعرون بقيمة هذا الفن الذي هو خير واسطة لحملهم على تقدير لغتهم الأصلية. وما برح الأستاذ أبيض أرض الجزائر إلا وقد تكونت جمعية للتمثيل. وفي طرابلس الغرب نهضة تمثيلية لا بأس بها، وهي خير من بلاد الجزائر بكثير، وكان الأهالي يقبلون على التمثيل. ومما دُهش له الأستاذ أبيض أنه لاحظ أن ثلث المتفرجين تقريبا كانوا من الضباط الإيطاليين، وهم طبعاً لا يفهمون اللغة وإن كانوا يعرفون الروايات. وقد أعجبوا بالأستاذ أبيض إعجاباً كبيراً، وحضر الحاكم لمشاهدته، وأقام له الإيطاليون وليمة. ولا ريب في أن النهضة التمثيلية كبيرة ببيروت، وقد ذهب الأستاذ أبيض إلى يافا خمس مرات فكان المسرح في كل مرة يغص بجمهور لا يقل عن ألف ومائتي شخص. أما في داخلية البلاد السورية كدمشق مثلاً فإن الأهالي يميلون إلى التمثيل؛ ولكنهم يفضلون عليه الغناء، ويودون لو كان والتمثيل مقترنين. وسألناه عن الروايات التي وجدت إقبالاً خاصاً في مختلف البلاد، فقال: إن أهل تونس أعجبوا بروايات «أوديب الملك، والممثل كين، وهملت» ولم تعجبهم رواية «لويس الحادي عشر». وكان أهل الجزائر يفضلون الروايات ذات الموضوع العربي، وقد سروا بمشاهدة «ثارات العرب» وأعجبوا إعجاباً كبيراً برواية «فتح بيت المقدس»».
رحلة أبيض الثانية
أغلب الكتابات التي أرخت للمسرح في تونس، أشارت سريعاً إلى جهود جورج أبيض المسرحية في تونس من خلال رحلته الأولى في أوائل عشرينيات القرن الماضي؛ بوصفها الرحلة الوحيدة لأبيض إلى تونس! والحقيقة أن هناك رحلة أخرى قام بها أبيض إلى تونس عام 1932، ربما تكون أهم من رحلته الأولى، وأثرها الفني كان كبيراً! وهذه الرحلة أخبرتنا بتفاصيلها مجلة «الصباح» في سبتمبر 1932، وملخصها يتمثل في الآتي:
إن جورج أبيض كان أستاذاً في «معهد فن التمثيل»، بوصفه أول معهد تمثيلي في مصر والعالم العربي، وتم افتتاحه عام 1930، ولكنه تحول إلى «قاعة محاضرات» في عام 1932، وكانت الدراسة تبدأ في سبتمبر. هنا قدّم أبيض طلباً لوزارة المعارف بتأجيل عمله في التدريس بقاعة المحاضرات إلى شهر ديسمبر؛ لأنه سيسافر إلى تونس لمدة ثلاثة أشهر في مهمة فنية تعليمية! وأوضحت المجلة بعض تفاصيل هذه المهمة، قائلة: «إن الحكومة التونسية استدعته إلى الحضور لتعليم جمعية تمثيلية، ويشترك في إحياء 20 حفلة معها مقابل 250 جنيهاً، تُدفع له من خزينة الحكومة، ويخصص له أيضاً نصف إيراد كل حفلة تقام. فنرجو للأستاذ جورج سفراً سعيداً كما نرجو أن تكون دعايته لمصر خير دعاية للفن المصري».
وبعد أسبوع من سفر جورج أبيض إلى تونس، أضافت المجلة تفاصيل جديدة – عن مهمة جورج – منها أن الاتفاق مع «جمعية المستقبل التمثيلي» التي يرأسها «بشير المتهني» ينص على قيام جورج أبيض بتمثيل مسرحياته المعروفة، مثل: «عطيل، ولويس الحادي عشر، وسفيرو تورللي» .. إلخ، وأنه المسئول عن توفير ملابس هذه المسرحيات، وأن يشترك بتمثيل أدوار البطولة، ويُعلم أفراد جمعية المستقبل التمثيلي الأدوار التي يعهد بها إليهم.
هذه هي جهود جورج أبيض المسرحية في تونس، أما أثرها فلم نقرأ عنه إلا في عام 1951، عندما زار جورج أبيض تونس للمرة الثالثة – وربما الأخيرة – فكتب الصحفي التونسي «محمد المرزوقي» رسالة، نشرتها له مجلة «الفن» المصرية في مايو 1951، تحت عنوان «قطب الممثلين جورج أبيض بك .. ينشئ جيلاً فنياً في تونس»، تحدث فيها عن تلاميذ جورج أبيض من التونسيين، قائلاً:
«أحمد بوليمان» بدأ حياته التمثيلية عام 1908 عند تأسيس «جمعية النجمة»، ثم أسس مع نابغة تونس المرحوم محمد بورقيبة «الجوق التونسي». ولما حضر جورج أبيض بك إلى تونس انضم إليه أحمد بوليمان واشترك معه في التمثيل في جميع الروايات، وقد كان للأستاذ جورج أبيض بك الفضل في إحياء جمعيات التمثيل، فانضمت تحت إدارته «الآداب والشهامة» تحت اسم «جمعية التمثيل العربي» وكان أحمد بوليمان من معاضديه الخُلّص، ومثّل تحت إدارة جورج أبيض بك فأبدع وهنأه على تفوقه في الأدوار التي أسندت إليه، وأحمد بوليمان يتقن رسم المناظر المسرحية وقد ألف بعض الروايات الهزلية منها «عم عثمان التياس» و«حيل جحا» و «بنت الشهبندر» وغيرها وهو الآن يقوم بعمل «الماكياج» لجميع الجمعيات في تونس وهو الوحيد الذي يملك جميع الملابس التاريخية العربية والأفرنجية.
«علالة الصفا يحيى» أحد أبطال التراجيدي المشهورين وقد اشترك في جمعية الآداب على أثر انبعاث التمثيل من جديد، وقد تلقى مبادئه الأولى على يدي المرحوم الشيخ إبراهيم الأكودي. وفي عام 1921 أسندت إدارة «الآداب» إلى الأستاذ جورج أبيض بك، فتلقى على يديه أصول الفن، واشترك في التمثيل فظهر فيما يقرب من ثلاثة وعشرين دوراً نال فيها الإعجاب والتقدير. وله «حنجرة» كحنجرة الأستاذ جورج أبيض بك، وقد أسس علالة الصفا بعد عودة جورج أبيض بك، فرقة «المستقبل التمثيلي» عام 1925 وظهر نبوغه في تمثيل عدة أدوار منها «الراهب برنات» في رواية فتح بيت المقدس، و«أبو قابوس» في رواية شهامة العرب، و«عمو ناصر» في رواية عايدة، و«سيزار» في رواية روي بلاس، و«تيمورلنك» في رواية تيمورلنك. وفي عام 1937 أسس جمعية «نجمة الضواحي» لكنه انصرف عنها بعد سنوات إلى أعماله الخاصة، ثم اشترك بعد ذلك في جمعية «اتحاد كواكب التمثيل» لكنه لم يلبث أن تخلى عنها إلى شئونه الخاصة.
«صالح الزواوي» هوى فن التمثيل في صغره عندما كان طالباً في المدرسة، ثم اشترك في جمعية «الآداب» وتتلمذ على يدي المرحوم الشيخ إبراهيم الأكودي، ثم كان في مقدمة من انضموا إلى جورج أبيض بك، ولازمه طوال مدة وجوده في تونس، ثم اشترك في جمعية «التمثيل العربي» وجمعية «المستقبل» وجمعية «الاتحاد المسرحي» وجمعية «تونس المسرحية» وقد مثل أدواراً هامة منها «كارلو» في رواية شهداء الوطنية و«هملت»، و«خالد» في رواية الكاهنة و«المركيز روجيني» في رواية اليتيمتين و«أنطونيو» و«حمدان» وهو الآن المدير الفني لجمعية «الرعد التمثيلي» وأحد مؤسسي «الجمعية القومية للمسرح والسينما» والمدير الفني لها.
«محمد بدر» أحد مؤسسي الجمعية القومية للمسرح والسينما وعضو بإدارتها، عمل تحت لواء الأستاذ جورج أبيض بك كممثل طوال سنتين قضاهما في تونس، واختاره عزته من بين نخبة من الملقنين لتلقين رواية «الكابورال سيمون»، لما توسمه فيه من المقدرة والكفاءة، وصار لا يعتمد إلا عليه في تلقين الروايات الهامة واختاره كمساعد لعميد التمثيل في تونس المرحوم الشيخ إبراهيم الأكودي في تعليم الممثلات. يتفانى في خدمة فنه، ولا يهمه في حياته سوى التمثيل، عمل في عدة جمعيات منها جمعية تونس المسرحية والجمعية القومية للمسرح والسينما.
«البشير الرحال» ممثل الكوميديا الأول في تونس بكل ما في هذا من معنى. مثل مع الأستاذ جورج أبيض ونال تقديره، وهو ممثل محبوب من كافة الطبقات الشعبية، له لون يختص به ولا يشاركه فيه أحد. لا يعتمد على الملقن أبداً، يخلق الحوادث والنكت كان في أول حياته الفنية يمثل أدوار الدراما لكنه نزل إلى ميدان الكوميديا وإن كان حنينه يعاوده أحياناً إلى الدرام اشترك في جمعيات عديدة منها الاتحاد والتمثيل العربي ونجوم الفن، كما ألف روايات نالت النجاح منها «أنا أنت .. أنت أنا» و«ضحكة وألف دمعة» و«ياما وياما تحت الخامة» و«ولد الحنانة».
«علي النجار» كان من أوائل الممثلين، ومن الذين تتلمذوا على الأستاذ جورج أبيض بك. له مواهب فنية رائعة، مثل مع الأستاذ جورج أبيض دور الأسقف يوسف في رواية الكردينال ريشيليو ودور الراعي في رواية أوديب. وغير ذلك من الأدوار. أحد مؤسسي الجمعية القومية للمسرح والسينما.
«الطاهر بلحاج» جرى حب التمثيل في دمه منذ صغره، وتتلمذ على يدي الأستاذ جورج أبيض بك حتى أنك لو رأيته يمثل دور لويس الحادي عشر لخيل إليك أنك ترى جورج أبيض يمثل. وله جولات وصولات على خشبة المسرح، ومن أهم أدواره، لويس الحادي عشر وياجو في عطيل. ويوليوس قيصر وقلب الأسد في رواية صلاح الدين. تخصص في تمثيل أدوار الدرام وعمل في جمعيات كثيرة منها، الاتحاد المسرحي واتحاد كواكب التمثيل والنادي الأفريقي والرابطة التمثيلية وشغل فيها منصب المدير الفني.


سيد علي إسماعيل