العدد 569 صدر بتاريخ 23يوليو2018
لم تكن حركة الجيش الثورية، التي قادها تنظيم الضباط الأحرار في فجر 23 يوليو 1952، مجرد حركة فئة تبحث عن مصالحها الفئوية الخاصة، ولا انقلابا مسلحا تستهويه السلطة لذاتها ويسعى لتغيير الحاكم، دون تغيير لنظامه، وإنما كانت، ودون غض النظر عن المصالح الفئوية والشكل المسلح لها، حركة طليعية أشمل، تحمل نبض الشارع، وطموحات هذا الشعب وأحلام مثقفيه، كانت حركة لتحقيق (الفكر) في (فعل) حقيقي، قادتها مجموعة شابة لا تحمل في البداية نظرية محددة، بقدر ما كانت تحمل إيمانا وطنيا خالصا، ورغبة عامة في التجاوز، وفكرا رافضا للواقع المتخثر، ولقياداته المتصارعة المتهاوية، طارحة ذلك الفكر بعموميته في مبادئها الستة الشهيرة، بعد نحو أعوام ثلاثة من قيامها بتلك الهبة الثورية، مبلورة الملامح المتكاملة لها عن مسيرتها الفعلية على أرض الواقع.
وتلقف الشعب المتعطش للثورة، هذا (الفعل المسلح) ليحوله إلى (فعل ثوري) يستخدم السلاح والقانون والثقافة فيه لطرد المستعمر الإنجليزي، وضرب القوى الرجعية والمستغلة، وإعادة بناء المجتمع على أسس جديدة، وإذا ما كانت هذه الثورة قد جاءت في موعدها التاريخي، واحتضنها الشعب وسار بها، فقد فوجئ بها مسرحنا المصري، الذي هيمنت عليه عقلية الأربعينات المقيدة بفكرة المسرح المرفه عن متلقيه؛ جنودا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ونخبا خرجت من هذه الحرب ثرية على حين غفلة، وتطلبت من المسرح أن يشغلها لسويعات الفرجة عن هموم الواقع، ولأن الواقع العملي أسبق دائما في التحقيق من العقليات المتسيدة، فقد وقع مسرح ما بعد الثورة كرؤية فكرية وكصياغة جمالية في حيره بين انتمائه الآيديولوجي للفئات الاجتماعية التي كان يعبر عنها ويخاطبها بلغتها قبل قيام الثورة، وبين الاتجاه الجديد للمجتمع نحو طبقاته الوسطى والدنيا بفئاتها العاملة، التي عجز المسرح عن أن يعبر عنها، أو يتنبأ بحركتها على أرض الواقع، ببحثه عن القوانين الموضوعية التي تحكم واقع بداية الخمسينات، ومن ثم كان على المسرح أمام هذا الواقع الساخن الجديد، إما أن يخفى رأسه في الرمال، متغاضيا عنه، مستمرا في التعبير عن قضايا وهموم يسعى الشعب بثورته لتجاوزها، أو أن يسعى لمواكبة القضايا والهموم الجديدة، مواكبة تعتقد أنه من السهل في الفن صياغة الرسائل الجديدة بنفس الأساليب والأبنية الفنية القديمة، دون أن تتغير أو تتشوه تلك الرسائل.
وعبر مسيرة الشعب الثورية، تعثر اتجاه (التغاضي)، وإن لم يختف تماما، بينما تطور اتجاه (المواكبة) نحو (التوازي) فالتجاوز و(التنبؤ) العلمي، ولعب الدور الصحيح للفن كوسيلة للتعبير عن أفكار ومصالح أصحابه، أصحاب البلاد الحقيقيين، وكغاية تسعى لإعادة الكشف عن عيوب الواقع، وإعادة توازن ميزان المجتمع المختل وتوعية جماهيره لانتزاع حقوقها المستلبة، وعيا بكون المسرح وسيطا اتصاليا جمعيا مواجهيا، يتوجه مباشرة إلى الجماهير، يحاورها ويطرح عليها الفكرة ونقيضها، علها تصل معه، ويصل معها، عبر طرقه الفنية، إلى تبني أحد طرفي التناقض والانتصار له، أو بالوصول بالتآلف بين الفكرة والنقيض إلى قضية جديدة خالصة.
جاءت ثورة 1952، والجماهير الشعبية الكادحة غائبة عن كل شيء، من أول اعتلائها كرسي الحكم وإدارتها لحياتها تحقيقا لمصالحها، إلى اعتلائها منصة المسرح، وتعبيرها في فضائها عن أفكارها، فلم يكن يسمح لتلك الجماهير العاملة أن تعبر عن نفسها بأي شكل من الأشكال في ظل أنظمة إقطاعية رأسمالية، وهيمنة استعمارية تؤكد على تلك الأنظمة لتلاقي مصالحهما، وقيادات فكرية تؤمن بالشعب من منظور رومانسي، فتتكلم عنه بمفاهيم طوباوية، وتتحرك نحوه إذا ما تحرك وشاغب، دون أن تصبح جزءا منه، حتى لا تصاب بتخلفه. لقد انفصلت هذه القيادات بالتعليم، والثقافة الغربية عن التيار الأصيل لحركة الجماهير، واكتفت فقط بتبني قضاياه، وبالتالي انفصل المسرح كمحاور عن حركة جماهيره من جهة، وعن صراعات مفكريه من جهة أخرى، وكان كل شيء قبل الثورة، ومع بدايتها، يسير في طريق مسدود، انعزلت أعمال «توفيق الحكيم» و«عزيز أباظة» و«علي أحمد باكثير» بصياغتها الفنية المتعالية على جماهير تعاني الأمية الأبجدية والثقافية، ومحاصرة فكريا، فضلا عن هموم مسرحيات هؤلاء، وهروبها الدائم في التاريخ البعيد، كما عجزت هزليات «الريحاني» و«الكسار» عن التعبير عن الاحتياجات الجديدة للمجتمع مع بدايات الخمسينات.
وانكفأت الفرقة القومية للمسرح على نفسها، متمزقة في صراع زائف بين الشيوخ والشباب، دون أن يطرح أي منهما على مائدة النقاش رؤى بديلة للفن القائم، وانقسمت الفرقة إلى شعبتين هما: (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى) ضمت شيوخ الفرقة ورموز ما قبل الثورة، و(فرقة المسرح المصري الحديث) وضمت خريجي الدفعات الثلاث الأول في المعهد العالي لفن التمثيل العربي، وسار شبابها في نفس الاتجاه الذي سار فيه الشيوخ، فقدم خريج أول دفعة بالمعهد عام 1947 الشاب «نبيل الألفي» مسرحية (كدب في كدب) لمحمود تيمور عام 1951 وقدم زميله الشاب «حمدي غيث» في نفس العام مسرحية (كسبنا البريمو) لصوفي عبد الله، وذلك عقب عودتهما مباشرة من بعثتهما الدراسية لفرنسا.
وخلال الخضم الهائل من الأحداث المصيرية التي مرت بالمجتمع المصري فيما بين قيام الثورة حتى أحداث مارس 1954 الشهيرة، غاب المسرح القومي عن المتابعة فضلا عن المشاركة، ودارت مسرحيات موسمي الفرقة القومية 52/ 53 (18 عرضا)، و53/ 54 (28 عرضا) سواء من خلال عروض تقدم لأول مرة ومؤلفة تأليفا مصريا - ستة في الموسم الأول، وتسعة في الموسم التالي - أو عروض معادة من عام ما قبل الثورة، دارت عروض الفرقة حول المحاور الأربعة التالية: ميلودرامات يوسف وهبي الزاعقة (السر الهائل)، و(بنت الهوى)، و(أيام زمان)، والتاريخيات الهاربة من قضايا الواقع الساخنة (غروب الأندلس) و(قيس ولبنى) للشاعر «عزيز أباظة»، و(مسمار جحا) و(سر شهرزاد) و(سر الحاكم) للكاتب «علي أحمد باكثير»، والهزليات المقتبسة عن الفودفيلات الغربية، أو المنتهجة نهجها (شروع في جواز) اقتباس «سليمان جميل»، و(عزيزة هانم) و(ياتلحقوني) اقتباس «فتوح نشاطي»، ومؤلفات (أم رتيبة) «يوسف السباعي»، و(بنت الجيران) و(حورية من المريخ) للكاتب «رشاد حجازي»، ثم الأعمال المترجمة ككوميديات «موليير»: (البخيل) و(مريض بالوهم) و(طرطوف) (الشيخ متلوف لعثمان جلال)، وبعض المترجمات الأخرى مثل «الأشباح» للنرويجي «هنريك إبسن»، و(غرام لص) للفرنسي «شارل ميريه».
ولم يشذ عن هذا العدد (46 عرضا مسرحيا) سوى مسرحية واحدة فقط قدمت لمواكبة المسيرة الجديدة، وهي مسرحية (كفاح شعب) التي كتبها «محمود شعبان» و«أنور فتح الله»، وأخرجها «نبيل الألفي» مفتتحا بها موسم فرقة المسرح المصري الحديث (28 ليلة عرض)، وسرعان ما عادت الفرقة بعدها إلى خطها السابق للثورة لتقدم (ست البنات)، و(بنت الجيران)، وكأنها اكتفت بما قدمته مشاركة بالمنطق الوظيفي في الأحداث الدائرة، وفي المقابل، وبعقلية التاجر الشاطر، حاولت (فرقة الريحاني) المستمرة بعد موت مؤسسها «نجيب الريحاني» عام 1949، حاولت مواكبة العهد الجديد، فقدمت بدءا من عودة نشاطها في أكتوبر 1952، مسرحيات (تعيش وتاخد غيرها)، (لزقة إنجليزي)، (ابن مين بسلامته)، تدور كلها حول الموضوعات الريحانية القديمة، مع بعض المحاكات الجديدة. وقد أغفلت (فرقة إسماعيل ياسين) تماما عنصر المواكبة، وتناست أن هناك ثورة قد قامت، فقدمت (حبيبي كوكو)، و(وراك والزمن طويل)، و(مشكوك فيها).
وحتى التجربة الجادة والأكثر صدقا في مواكبة حركة الثورة، بحكم شبابية أصحابها، وهي فرقة المسرح الحر التي تكونت من الدفعات الجديدة لمعهد التمثيل العربي، والتي لم تستطع الالتحاق بالشعبة الثانية (الشبابية الأكاديمية) من الفرقة القومية، فقررت أن تكون فرقة أهلية أعلنت عن نفسها في 30 ديسمبر 1952، وسعت لتواكب الثورة بتقديم باكورة عروضها (الأرض الثائرة) التي كتبها من خريجي قسم النقد بالمعهد: «محمد كمال هاشم» و«عباس الرشيدي»، وأخرجها خريج قسم التمثيل «عبد المنعم مدبولي»، وذلك في يناير 1953، ثم قدمت بعدها مسرحية (حسبة برما) لـ«عزت السيد إبراهيم» وإخراج «مدبولي» أيضا في أبريل 1953، وتؤكد هذه الاستثناءات القليلة أن المسرح في مصر، مع بدايات الثورة، كان منعزلا عن حركة الشارع الصاخبة، عجزا أو تهيبا، ولم تبرز في فضائه أية تلميحات لصراع الواقع، ولم يستطع أن يشارك في الحوار الفكري والسياسي حول مسيرة هذا المجتمع وقتذاك.
فيما بين أبريل 1954 ويوليو 1961، دخلت الثورة مرحلتها الثانية، حينما صارت من (حركة ثورية) تطيح بالعالم القديم إلى (نظام ثوري) يحاول أن يصنع عالما جديدا في مواجهة العالم القائم بالفعل، ومع ذلك فلم تحسم الثورة موقفها من النظام القديم المعادي للشعب، واكتفت بضرب وإقصاء وعزل أقطابه السياسيين، دونما إقصاء للفكر والثقافة اللذين يمثلانه ويدشنان وجوده، رغم الغيبة الظاهرية لأقطابه، ومن ثم نقل المسرح هذا التجاور المتناحر بين الفكر القديم المسيطر إداريا وفنيا بوجوده السابق، والفكر الجديد الباحث لذاته عن وجود في أرض ما زالت تضطرب لعدم وضوح الرؤية النظرية، وغيبة التنظيم الثوري القوي، فظلت أعمال «عزيز أباظة» و«يوسف وهبي» و«علي باكثير» و«توفيق الحكيم» الذهنية مسيطرة على فضاء مسرح الفرقة القومية، بعد أن ضمت شعبتيها عام 1953 في فرقة واحدة باسم الفرقة القومية الحديثة، وأسندت إدارتها لـ«يوسف وهبي»، فسار بها في طريق الميلودرامات الزاعقة والهزليات الرخيصة، حتى يوليو 1956، حين قام «يحيى حقي» مدير عام مصلحة الفنون بإدارة أعمالها مؤقتا؛ ثم تم تعيين الضابط المثقف «أحمد حمروش» مديرا عاما لها مع بداية العدوان الثلاثي في أكتوبر من نفس العام الساخن، فتلازم حدث حاد مع تعيين عقلية وطنية مثقفة، خلال عرض مسرحية «توفيق الحكيم» ذات الرداء الفرعوني (إيزيس) التي كان يقوم بإخراجها «نبيل الألفي»، فيتم إقصاء الترميز الفرعوني لقضية الحكم، لصالح الطرح الواعي لأعمال تتصدى للواقع وتتحدث بلغته، فتقدم ثلاث مسرحيات من ذات الفصل الواحد لجماهير الشعب ظهرا وبالمجان في دار الأوبرا القديمة وهي: (صوت مصر) أول أعمال «ألفريد فرج»، من إخراج «حمدي غيث»، و(عفاريت الجبانة) ثالث أعمال نعمان عاشور، من إخراج «نبيل الألفي»، وقد سبق أن قدم له المسرح أول مسرحياته (المغماطيس) في أكتوبر 1955 من إخراج إبراهيم سكر، ثم (الناس اللي تحت) التي أخرجها «كمال يس»، وافتتحت بها فرقة (المسرح الحر) موسمها في أغسطس 56 بمدينة بورسعيد، ثم توقفت بسبب العدوان الثلاثي على المدينة، وأعيد الافتتاح في مدينة القاهرة في يناير 1957، ولازم ظهور «نعمان» و«ألفريد» وقتذاك، الكاتب الصحفي والقاص «يوسف إدريس» بمسرحيتيه القصيرتين (جمهورية فرحات) إخراج «فتوح نشاطي» التي قام الكاتب نفسه بمسرحتها عن قصة قصيرة له، و(ملك القطن) إخراج «نبيل الألفي»، من خلال الفرقة القومية في نفس موسم 56/ 1957، ثم توالى ظهور أبناء هذا الجيل الذي اتفقت رؤيته مع رؤية الثوار، ومنهم «محمود السعدني» بمسرحية (فيضان النبع) إخراج «أحمد سعيد» (فرقة المسرح الحر) 1958، و«لطفي الخولي» (قهوة الملوك) إخراج «نبيل الألفي» (الفرقة القومية) 1958، و«رشاد رشدي» (الفراشة) إخراج «صلاح منصور» (فرقة المسرح الحر) 1959.
وبلور هؤلاء الكتّاب في مفتتح العقد الستيني، ومع المخرجين الشبان الذين درسوا داخل وخارج مصر فن المسرح أكاديميا، بلوروا أبرز ملامح الجيل الجديد في مجالي التأليف والإخراج المسرحيين، فقدموا في أعمالهم هموم وأفكار الزمن الجديد، متجاوزين مسرح الانعزال، ومسرح المواكبة، ليدخلوا إلى مسرح المشاركة الذي يتعرض لإيجابيات وسلبيات الواقع، الطارح للصراعات الطبقية، الحالم بمصر جديدة تمتلئ بالحرية والانعتاق والرخاء، تجاوزا لأخطاء الماضي، وجبن الحاضر، مؤمنا بأن ملوك اليوم هم جماهير الشعب العاملة (قهوة الملوك للطفي الخولي)، الذين لا بد من حمايتهم بالسلام المسلح، لا السلام المستسلم (إخناتون لألفريد فرج)، كل ذاك في إطار من الواقعية النقدية التي بدأت تبرز وبقوة في روايات «نجيب محفوظ» وأفلام «صلاح أبو سيف» وغيرهما.