عبقرية المتشرد الصعلوك في مسرحية حلم جميل

عبقرية المتشرد الصعلوك في مسرحية حلم جميل

العدد 797 صدر بتاريخ 5ديسمبر2022

يشهد المسرح المصري الآن حضورا إبداعيا عريقا تبعثه مسرحية حلم جميل، التي يقدمها المسرح الكوميدي، وهي مأخوذة عن فيلم أضواء المدينة، أحد العلامات المبهرة في أعمال شارلي شابلن، قام بإعدادها الدراماتورج طارق رمضان، وكان الإخراج للفنان المتميز إسلام إمام، الذي بعث حالة مغايرة من الجمال القاسي العنيد، تميزت بالبصمات الفريدة والرؤى الثائرة والملامح المغايرة، أهدي الجمهور عملا ساحرا مبهجا، يبدو بسيطا لكنه عميق ثائر رفيع المستوى، تضافرت مفرداته لنصبح أمام منظومة مسرحية اشتبكت فيها الكوريوجرافيا مع السينوغرافيا وأسلوب الأداء وحرارة الحوار، لتتشكل تلك الدراما الإنسانية القاسية، التي تحولت فيها النفس البشرية إلى مسرح تدور عليه أحداث مختلطة، تتوازى وتتقاطع وتتشابك، تأتي من الماضي ومن العلاقات المجهضة بين الشخصيات، ومن المحاولات البائسة للتواصل وامتلاك الذات، وهكذا تمتد إيقاعات الهزل والكوميديا والجروتسك، وتتفجر تناقضات الوعي والأعماق لنعايش تلك التقابلات المثيرة من اللحظات الحرجة في حياة إنسان يبحث عن الوجود والحرية .
تبدو الأمور مختلفة في عالم» السير تشارلز سبنسر شابلن « الشهير بشارلي شابلن 1889 – 1977، فهو أيقونة عالمية تفوق شهرته حد الوصف، كان متعدد المواهب - -، ممثل، مخرج، مؤلف، سيناريست، ملحن، فيلسوف ومفكر، وهو من كبار نجوم الكوميديا، ابتكر التشكيل الدرامي الفريد لشخصية المتشرد الصعلوك، التي لا تزال مؤثرة حتى الآن، تجاوز إنتاجه السينمائي الثمانين فيلما، أنتج فيلم أضواء المدينة عام 1931، ورفض الانتقال إلى السينما الناطقة، كانت له ميول سياسية ثائرة اتضحت بقوة في فيلم الديكتاتور العظيم الذي يهاجم فيه هتلر، لذلك اتهم بالتعاطف مع الشيوعية وتم نفيه خارج أمريكا، فاتجه ليعيش في سويسرا، وتخلى بعد ذلك عن شخصية الصعلوك في أفلامه الأخيرة .
تميزت كوميديا شارلي شابلن بالمزج بين العواطف الإنسانية والأخلاقيات النبيلة والرؤى السياسية والاجتماعية، وقد صنفت أعماله بأنها أعظم صناعة للأفلام مرت على التاريخ ، عاش جنون الفنان في أنقى صوره، وفاز بالأوسكار مرتين، مات في سن الثامنة والثمانين وحضر جنازته ثمانين رئيس دولة إلى جانب الملايين من البشر، فهو شخصية استثنائية تموج بالعبقرية الخالصة .
يدخل الدراماتورج طارق رمضان عالم شارلي شابلن ويتوقف أمام فيلم أضواء المدينة فيأخذ فكرة هذا العمل ويتباعد عن أحداثه وتفاصيله، ليكتب نصا مسرحيا شديد الوهج يدور حول الصراع بين الطبقة الفقيرة والطبقة الارستقراطية شديدة الثراء، من خلال حكاية الشاب الصعلوك المتشرد الذي يمتلك أبعادا إنسانية خلابة تموج عشقا للحياة والحب والحرية، الدلالات تمتد من الماضي لتشتبك بقوة مع الحاضر، والزمن المسرحي يدور في أربعينيات القرن العشرين في مصر قبل الثورة، وذلك كما يتضح من العلامات الميتاثياترية، والملابس والشخصيات وطبيعة الحوار، وهكذا أصبحنا أمام كوميديا هزلية تنتمي إلى الفارس تراجيدي، تتبنى فلسفة الوعي والحرية والتمرد والممارسة الفعلية للرفض والقبول، فالكوميديا هي الفن الذي نرى فيه أعماقنا، نضحك معه وليس عليه، لندرك أن الواقع يمكن تغييره، وليس تفسيره .
تضافرت الكتابة الجروتسكية مع الرؤى الكاريكاتورية للوجود، وظل منظور المخرج الجميل إسلام إمام يبعث احتفالا عارما بالحياة، النقد اللاذع للواقع يموج بحرارة المعرفة، ومفاهيم الهزل والفارس تراجيدي تفرغ الأحداث من محتواها المألوف،  وتتبنى السخرية كموقف أخلاقي يعبر عن التمرد والعصيان، وفي هذا السياق يعايش المتلقي تيارا من المزج بين المعقول واللامعقول، يقوده إلى الكشف عن عذابات الوضع الإنساني في عالم يبدو وهميا ملفقا وعبثيا مفككا، فالحياة لا معقولة والموت لا معقول، وهذا اللامعقول يبدو غريبا محيرا، حيث يصبح الواقع كابوسا مؤلما لا يطاق .
يتحول البناء الدرامي الذي يبدو بسيطا مألوفا ومتكررا -، يتحول إلى استعارة غزيرة الإيحاء تكشف عن المعنى المأساوي لحياة الإنسان، وفي هذا الإطار ارتكز الحوار على الترابط الشعوري الغير منطقي، حيث المزج بين الديالوج والمونولوجات الداخلية، الأبعاد الرمزية للحالة المسرحية حولت المكان الواقعي إلى استعارة مكانية واسعة تشتبك مع أحلام وأوهام الوجود الإنساني، وهكذا تذوب الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر، الواقع والفانتازيا، والحياة والعدم .
تأخذنا البدايات الأولى إلى احتفال عارم بالحياة يحمل بصمات المخرج إسلام إمام، ويؤكد أن المسرح هو فن وفكر وفرجة وإبهار، الأحداث تدور في إطار تشكيل سينوغرافي ساحر يموج بالحب والخصب والأحلام، أوراق الأشجار الزاهية تنزل برشاقة من السوفيتة، لترسم ملامح الحديقة التي تكتمل عبر لوحة العمق الناعمة، التشكيل الجمالي لتمثال الشحاذ يروي عن عذابات الكائن، والملابس القديمة الممزقة تأخذنا إلى عالم المتشرد الصعلوك النبيل المشاغب “ جميل «، الفتى الشاب المسكون بالعشق النادر للوجود، الفانتازيا تشتبك مع الجروتسك لترسم ملامح اللقاء المثير بين جميل وفتاته الشابة” حلم “، التي رآها واخترقت قلبه منذ اللحظة الأولى، لكنها رأته بقلبها وعشقته، لأن عيونها لا ترى بعد أن فقدت البصر، جمعهما حوار مدهش، أخبرها أنه من الأثرياء أصحاب القصور والملايين فصدقته، وتوقفت طويلا أمام تواضعه وطيبته واندفاعه العظيم لمساعدة كل الناس، التناقضات الكوميدية تبعث تيارات الضحك الصاخب، التي تنطلق بالوهج حين يأتي البوليس ليقبض على المتسولين المتشردين، فيهرب الفتى وتمضي الشابة إلى الكراكون .
يشتبك الضوء مع الحركة والموسيقى والغناء، لنتعرف على نجيب باشا سليمان، يبحث عن أي إنسان ليتحدث معه، نراه في أقصى درجات غياب الوعي، يشرب الخمر بجنون، مهزوز الشخصية، معذب ومتردد، إيقاعات الهزل الصاخب تتردد، يحكي عن قصوره وزوجاته وثرواته، بينما يروي جميل عن الأرصفة والبرد والفقر والجوع، الصراع الطبقي يتبلور، وتنطلق تيارات الوجود والعدم والعبث حين يطلب الباشا من صديقه الصعلوك أن يعرفه على الفقراء كي يساعدهم، فيستجيب لرغبته .
يأخذنا الغناء والضوء والحركة إلى المولد، الاستعراضات تتضافر مع الرقص والإيقاعات، التشكيلات الجمالية تبعث حرارة مدهشة، ورؤى الجروتسك تشتبك مع الهزل واللامعقول، عذابات الفقراء تكاد تقودنا إلى الجنون، واللحظات الشاهقة تجمع للمرة الثانية بين جميل وحبيبته حلم، وفي هذا السياق يقرر الباشا أن يأخذ كل الفقراء المعذبين إلى قصره ليعيشوا الحياة، وبالطبع لا ينسى أن يتزوج واحدة من نساء الموالد المعذبات، وعبر إيقاعات الجمال يعلم جميل أن فتاته تحتاج إلى مائتي جنيه أجر الطبيب الذي سيجري لها عملية تعيد بصرها، فيقرر أن يحقق أمنيتها .
في القصر كانت الوقائع تفوق الخيال، الباشا يستيقظ بعد أن ذهب تأثير الخمر، يطرد الفقراء والغوغاء في قسوة، وتتضح أبعاد شخصيته الحقيقية الرافضة بقوة لكل هذه الطبقات، تلك الحالة التي تشتبك مع ما يحدث لشعوب العالم الآن، وعبر جماليات الحب والنجوم وسحر السماء، يعود جميل إلى القصر ليحاول الحصول على أجر العملية وينجح في ذلك بالفعل، لكن الباشا يفيق من الخمر ويتصل بالبوليس  ويتهم جميل أنه لص مجرم، فيهرب ويذهب إلى الطبيب الذي يجري لحلم عملية ناجحة تعيد إليها نور الحياة، بينما ينطلق الغناء الجميل، ويتم القبض على جميل ويدخل السجن .
رغم التطويل اللافت واستغراق الشباب في الافيهات الكوميدية، إلا أن الحالة الإنسانية والجمالية تظل متوهجة، تمضي سنوات السجن الخمسة، ويخرج جميل مسكونا بالوجع والفقر والعذاب، لكنه يذهب إلى حبيبته حلم في الحديقة، يجدها امرأة جميلة، صاحبة محل أنيق للزهور، تأتى بفستانها الأحمر، ترى جميل للمرة الأولى وحين سمعت صوته، وضعت يديها على وجهه، فانطلقت إيقاعات الحب والحياة، رقصا معا في سعادة، الضوء يعانق الورد، والموسيقي تحتفل بلقاء القلوب النقية الساحرة، فقد تحقق الحلم الجميل وانتصرت إرادة الحياة .
شارك في المسرحية النجم الجميل سامح حسين، صاحب الموهبة الخصبة والروح النقية المبدعة، أما الجميلة الواعدة سارة الدرزاوي فهي لا تزال تبحث عن بصمتها الفنية الخاصة، ويذكر أن الفنان عزت زين من الكبار الذين يمتلكون الموهبة والحضور، وقد شارك في العرض أيضا الفنان الجميل جلال الهجرسي، والمتميز ناجح نعيم . مع رشا فؤاد ومجموعة فناني المسرح الكوميدي .
كان الديكور لحازم شبل، والموسيقى لهشام جبر، والأزياء لنعيمة عجمي، وكانت الإضاءة لبكر الشريف والاستعراضات لضياء شفيق ،و الأشعار لطارق علي .


وفاء كمالو