النقد الأدبي والمسرحي عند فريدة النقاش (1-2)

النقد الأدبي والمسرحي   عند فريدة النقاش (1-2)

العدد 787 صدر بتاريخ 26سبتمبر2022

لم تكن الرحلة سهلة مع عالم الكتابة النقدية والسياسة بالنسبة  للناقدة فريدة النقاش، التي تمتلك تاريخاً من النضال، وجسارة الكلمة، والدفاع عن حرية الرأي والتعبير، ورفض كل ما يمس حرية الإنسان وهويته،
فهي تنتمي إلى عائلة أدبية لها دورها البارز في الحياة الثقافية المصرية، فشقيقها الأكبر الناقد الراحل رجاء النقاش، أحد أبرز الأصوات النقدية في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وشقيقها أيضاً القاص والمترجم الراحل وحيد النقاش، إضافة إلى الكاتب المسرحي فكري النقاش، والمخرج السينمائي عطاء النقاش الذي هاجر إلى أمريكا منذ السبعينات وظل فيها حتى وفاته، أما شقيقتها الصغرى فهي الكاتبة الصحفية أمينة النقاش رئيسة مجلس إدارة جريدة الأهالي.
ورث الأبناء محبة الثقافة والإبداع من أبيهم عبد المؤمن النقاش، أحد شعراء مدرسة أبوللو، حيث نشر عشرات القصائد في مجلتها، وتتلمذ على يدي الشاعر أحمد زكي أبو شادي الذي تبنى موهبته، وكان ينشر له قصائده التي يرسلها إليه من مقر إقامته في مدينة سمنود بمحافظة الدقهلية، حيث كانت تقيم الأسرة، وولد كل الأبناء هناك وكان الأب يعمل مدرساً للغة العربية، وقد صدرت منذ فترة الأعمال الشعرية له عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان «ألحان الفجر».
تشير فريدة إلى أن دخولها إلى عالم الثقافة والمعرفة جاء عن طريق شقيقها رجاء، الذي غير مسار حياتها تماماً، فقد كانت في سنها الصغيرة تتخذه مثلاً أعلى، وعن ذلك تقول: أخي رجاء هو قطعة من نفسي، أذكر الآن جيداً الكلمات الأولى للرسالة التي كتبتها له حين سافر إلى القاهرة عام 1952 ليلتحق بالجامعة، وكنا لا نزال في قريتنا «منية سمنود» بالدقهلية، قبل أن نشد رحالنا إلى العاصمة حتى نكون جواره تباعاً، نحن الأشقاء الثمانية من الأسرة الريفية الفقيرة المستورة بالكاد التي وجدت في التعليم قارب نجاة، سيره أبي المدرس والشاعر عبد المؤمن النقاش، رحمه الله، بمهارة وتفانٍ وكانت رفيقة عمره قد خذلته حين مرضت مرض «الموت» بعد وصولنا إلى القاهرة، كأنها لم تحتمل الغربة في مدينة بلا قلب فقررت أن تعود إلى الريف.
بعبارة «الأديب الفاضل أخي الحبيب»، هكذا بدأت الرسالة الأولى في حياتي، فكرت طويلاً في هذه الكلمات التي خيل إلي حينها أنني أبدعتها وحدي حين كنت أنظف زجاج «اللمبة الجاز نمرة عشرة» التي حذرتني أمي من كسرها، فلم تكن القرية قد عرفت الكهرباء بعد، وكنا نستعد لدخول الليل الذي طالما أحسه شديد الحلكة في القرية، إذ تنطلق فيه العفاريت والأشباح والجوارح من دون خوف من عيون النهار والبشر، كما كانت تحكي جداتنا ونصدقهن.
وتضيف فريدة: حدّثت رجاء عمّا قرأته، فقد كان هو بعد أبي، رحمه الله، أول من أعطاني كتاباً أذكر أنه رواية مترجمة للأمريكي «جون شتاينبك»، قال لي: خذي واقرئي، فلم أكف عن القراءة بعدها، كذلك هو الذي اختار لي قبل أن يسافر فستاناً أصفر جميلاً مزيناً بوردة حمراء لم أستطع أن أخبئها في كرّاسي، كما يفعل العشاق لأنها كانت من قماش، كان فستاناً للعيد أرتديه لأجربه قبل أن يحل الصباح، فلم يرق له أنه ليس مكوياً فحمله إلى الكواء، وعاد به لكي يليق الفستان بالملكة «فريدة»، تلك الملكة المصرية الطيبة التي أطلقوا علي اسمها، وقد أحبتها «أمّي» كما أحبها المصريون.
وحول المعاناة التي لاقتها الأسرة في طريق الحياة تقول فريدة: حين أسأل نفسي ترى كيف نجونا بعد هذه الرحلة الطويلة الصعبة التي طالما تعرضنا فيها لخطر الهلاك؟ أجد الآن رجاء هو بطل هذه النجاة، إنها الصلابة التي تعلمناها منه حين عمل ليل نهار وهو طالب في الجامعة لنقف على أقدامنا، ونأكل ثلاث وجبات، وتحمل في صباه وشبابه الأول مسؤوليات جساماً ينوء بها الكبار، كنت أتأمله حين يعود ماشياً من جامعة القاهرة في الجيزة لبيتنا الأول في شبرا حتى يوفر قروش المواصلات، كنت أتأمله حين يعود مرة أخرى إلى مقهى عبدالله في الجيزة في المساء ماشياً أيضاً ليلتقي أنور المعداوي، الناقد الذي أنصفه هو بعد ذلك وكان صديقاً حميماً له.
وحول تجربتها في الكتابة التي تميزت بالتنوع ما بين الكتابة السياسية والكتابة النقدية والترجمة، والمراحل التي مرت بها، والسمات التي تميز كل مرحلة وتجعلها مختلفة عن الأخرى، تقول فريدة النقاش: عندما أتأمل تجربتي ككاتبة على مدار أربعين عاماً سأجد أن قضية حرية التعبير ومساحتها هي الأكثر ملازمة لي والأصدق تعبيراً عن تجربتي، فمنذ أن بدأت عملي الصحفي محررة في القسم الخارجي بوكالة أنباء الشرق الأوسط، حيث تلقيت تدريبي على يد أستاذي الراحل مصطفى كمال منير، وحتى استقر بي المقام في جريدة الأخبار اليومية، وحتى هذه اللحظة ظل وضعي المهني مرتبطاً باتساع مساحة الحرية في البلاد أو ضيقها، فبعد أن عملت محررة ومترجمة في القسم الخارجي بوكالة أنباء الشرق الأوسط ثلاث سنوات، وأصبحت أجيد عملي وأحبه، صدر قرار مفاجئ بنقل مجموعة من الصحفيين من الوكالة - وأنا منهم - إلى وظائف حكومية غير صحفية، وساعتها شعرت بندم شديد لأنني قبل أن ألتحق بالوكالة مع عدد كبير من زميلاتي وزملائي خريجي قسم الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، كنت نجحت في امتحانين بالإذاعة مذيعة ومترجمة لكنني فضلت العمل في الوكالة.
استخدمنا وساطات كثيرة كي نعود لعملنا الذي أحببناه وعدنا، وبعد أشهر قليلة وكنت قد كتبت مقالات في النقد الأدبي بجريدة الجمهورية غضب مني الروائي الراحل «إحسان عبد القدوس»، لأنني انتقدت في إحداها صورة المرأة في أدبه، ولأنني كنت تخرجت قبل سنة واحدة في الجامعة، كان إحسان يقول لكل من يلقاه إن أحداً آخر كتب المقال انتقاماً منه ووضع اسمي عليه، وإلى وقت قريب كنت أحتفظ بقصاصة كتب عليها الشاعر الراحل صلاح جاهين كلمات إعجاب قوية بما كتبته عن إحسان.
انتقلت إلى جريدة الجمهورية عام 1967 وبعد أشهر وقعت هزيمة يونيو/‏‏حزيران وجرى فرض حالة الطوارئ والرقابة على الصحف، وبعد عام طلبوا مني بشكل مهذب أن أمتنع عن الكتابة.
تؤكد النقاش أن الأمر لم يقف عن هذا الحد، فقد ترجمت عام 1972 مسرحية «الطريق» للكاتب النيجيري «وول سوينكا»، التي قدمت في البرنامج الثاني بالإذاعة، إلا أن المسؤول عن البرنامج أخبرها بأن اسمها موضوع ضمن قائمة الممنوعين من التعامل مع الإذاعة، وتضيف فريدة: «في سنة 1973 كنت واحدة من الذين فصلتهم لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي من عملهم ومنعتهم من دخول مقار الصحف، وطلبت شطبهم من نقابة الصحفيين، لكن حركة مواجهة قوية عطلت تنفيذ عمليات الفصل الواسعة وجمدتها، وعدنا جميعاً لعملنا قبل أكتوبر/‏‏تشرين الأول 1973 بأسبوع واحد».
في تلك المرحلة بدأت فريدة كتابة النقد الأدبي بشكل مكثف في المجلات والجرائد المصرية والعربية مثل «الآداب، والجمهورية، والبلاغ والمسرح إلا أنها فوجئت بقرار نقلها هي وزوجها حسين عبدالرازق إلى جريدة الأخبار في مارس/ 1975.
وحول دخولها إلى «الأخبار» تقول فريدة: بعد مفاوضات مضنية مع المسؤولين عن جريدة «الأخبار» وكنا في خصومة سياسية مع الأخوين مصطفى وعلي أمين، خصصوا لي عموداً أسبوعياً في صفحة المسرح ومع تأسيس جريدة  الأهالي عام 1978 أشرفت على القسم الثقافي فيها.


عيد عبد الحليم