«ما وراء النهر».. وصرخة الأرض المحتلة

«ما وراء النهر».. وصرخة الأرض المحتلة

العدد 655 صدر بتاريخ 16مارس2020

شاركت فرقة «بنى سويف» المسرحية فى مهرجان إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد بعرض «ما وراء النهر» تأليف «محمد عبدالمعطى» دراماتورج «أسامة بدر» !! وأخرجه المخرج الكبير «أحمد البنهاوى» ويطرح العرض قيمة وطنية تتمثل فى ضرورة الدفاع عن الأرض المحتلة, وتكتسب تلك التيمة أهميتها حال كون العديد من الأراضى العربية تدنسها أرجل الإحتلال, ولم تعد فلسطين وحدها المدنسة, بل مع إعادة هيكلة المنطقة العربية فيما أطلق عليه الأمريكان «الشرق الأوسط الجديد» عبر ماسعوا الى تسويقه فى المصطلح المسموم «الفوضى الخلاقة» التى نجحوا فى إشاعتها فى المنطقة, أصبحت مناطق كثيرة فى «العراق, سوريا, اليمن, وليبيا» تعانى من تدنيس أرضها بأرجل المحتل الأمريكى, التركى, الفارسى, وحتى الروسى, وغيرهم سواء كان هذا الإحتلال مباشرا أو غير مباشر فى شكل خبراء عسكريين, فكلاهما (المباشر وغير المباشر) له أطماعه وفقا لمصالحه بالمنطقة, وفى ظل هذا الواقع يتم تحجيم الإهتمام بالقضية الفلسطينية, لتتوارى عن بؤرة الإهتمام.
ولا يتناول عرض «ما وراء النهر» موضوعه بتلك المباشرة, بل يأخذنا إليها عبر إحدى حكايا النهر _ الغير محدد الهوية» الرابض كشاهد على العصور والصراعات, وقيام واندثار الحضارات والممالك بجواره وعلى ضفتيه, وإحدى تلك الممالك هى المملكة «الجابورية» التى يحكمها الملك القوى «جابورو» الطامع فى إخضاع الممالك المجاورة, وممالك ماوراء النهر أيضا لحكمه, ويخوض المعارك ويقود الجيش ويحقق له الإنتصارات شقيقه الأصغر «جيلفون» ورغم الإنتصارات الدائمة والمملكة المترامية الأطراف إلا أن الملك لا يفارقه الحزن والأرق لعدم وجود وريث له من صلبه كونه عقيم, ومن ثم يخشى نسيانه وكل إنجازاته وفتوحاته بعد موته, ويخشى أن يقوم شقيقه بمحو اسمه من على كل تلك الإنجازات ونسبها الى نفسه, ولهذا فهو يؤجل ويسوف دائما إعلان اسم الشقيق كولى للعهد رغم مطالبة «جليفون» الدائمة بذلك, والى جانب تلك المأساة تلك فإن الملك «جابورو» يطوى بداخله مأساة أخرى ذات بعدين. الأول منها: أنه أحب فى شبابه فتاة من العامة, وأنجب منها طفلا, وأحرق رجال والده (الملك السابق) كوخ المرأة لضمان موتها مع الطفل, كما أمر الملك الأكبر أيضا أن يقوم كاهن المعبد مع العراف بعمل تعويذة تجعل «جابورو» عقيما دون أن يعرف, وهذ هو البعد الثانى من مأساته إذ يتسلل إليه الشك فى حبيبته «بابيتا» ومن ثم الطفل الذى أنجبته له!
وفى الغابة تربى وعاش الطفل «باهارونى» الذى تركته والدته فى عهدة صديقتها «بابيلا» التى قامت بتربيته مع ولدها «حبرو» الذى طالما تدربا سويا على القتال بالسيف, وحين يعلم الملك بأمر التعويذة يبحث عن ولده ويعلنه وليا للعهد فى غياب الشقيق الذى لم يعد من الحرب بعد, وما إن يعود منتصرا حتى يطالب الملك بالبر بوعده له وتنصيبه وليا لعهده, بينما يكون الملك فى ماوراء النهر يشاهد انتصارات ولده الذى تولى قيادة جيش الجنوب, وحقق انتصارات كبرى, إلا أنه يتعامل مع أصحاب الأرض الأصليين بكل نبل واحترام, بل ويعجب بشجاعة العجوز «أريو» الذى يقود مقاومة الإحتلال برجال ونساء «قلعة الأرض» التى احتلها جنود «جابورو» بل ويقوم «باهارونى» بالعفو عن الأسرى فى مقابل دفعهم لخراج كما كانوا يفعلون مع المحتل السابق, مما يغضب والده الملك الذى يعطى ولده اليافع درسا فى التعامل مع المهزومين كعبيد, واتهام من يقوم من أصحاب الأرض بالخيانة, بينما ولده يعارضه فى تلك الرؤية, فهم بشر قبل كل شيئ, ليس خائنا كل من يدافع عن أرضه المحتلة, وفى وسط تلك السجالات يكتشف الملك أن حبيبته وأم ولده لازالت حية تعيش متخفية بعد أن سلمت طفلها لصديقتها منذ زمن بعيد, وبينما هم (الملك, زوجته, الإبن) فى فرحة اللقاء, والعتاب بعد الفراق والحرمان الطويل يأتى «جليفون» مطالبا بولاية العرش, ويدخل معه «باهارونى» فى نزال بالسيف وحين تشتد الحمية بينهما يتدخل الملك منحيا ولده جانبا ويتولى النزال مع شقيقه حتى يقتل منهما الآخر, ليتولى «باهارونى» بكل قيمه التى استقاها من العامة من فلاحين وصيادين وحدادين وغيرهم ممن تربى وسطهم فى الغابة, لينتهى العرض بنهاية ممثلى الشر ومبشرا باستمرار القيم واحترام الإنسان على يد الملك الجديد الشاب, وليذكرنا النهر مرة أخرى بصوته العميق بما سعى العرض لبثه الى مشاهديه : «إن الأرض تصرخ حين تدوس قدم غريبة عليها، هذه الصرخة التى تسمعها الأجنة فى بطن أمهاتهم وتظل تقلق راحتهم حتى يحرروا أرضهم» وهى المقولة التى يتبناها المخرج «أحمد البنهاوى» فى كلمته التى تتصدر «بانفليت» العرض.
وتكمن المشكلة الأساسية لهذا العرض فى نص العرض, تلك المشكلة التى تفرق دمها بين كل من «محمد عبدالمعطى» الذى جاء اسمه كمؤلف ـ كما جاء بوسائل دعاية العرض ـ وبين الدراماتورج «أسامة بدر» وإن كنا لا نجد مبررا ولا نستطيع أن نفهم أن يتناول أحد كدراماتورج نصا مسرحيا صاحبه لا زال حيا يرزق, ويستطيع هو بنفسه إجراء التعديلات التى تتطلبها رؤية المخرج, والمؤلف سيكون أقدر من غيره فى التعامل مع نصه  لأنه هو من ابتعث فيه الحياة من البداية على مستوى الأحداث والشخصيات الفاعلة لتلك الأحداث! ومن ثم يمكن محاسبته فى سلبيات نصه.   
إن مؤلف نص «ماوراء النهر» هو بالطبع حكاء ماهر استطاع أن يغزل حكاية هى أقرب الى حكايات ألف ليلة وليلة تفيض بالمفاجآت الميلودرامية, والفواجع الصارخة المغلفة ببعض صراعات لا تستند الى بناء درامى تحكمه الحتمية والضرورة, وقد تضمن هذا النسيج الطرح الفكرى للعرض الذى جاء على لسان الراوى / النهر, ونعتقد أن هذا الطرح وأهميته ـ على النحو الذى ذكرناه فى البداية ـ هو ما جذب المخرج المخضرم «أحمد البنهاوى» لهذا النص الذى لم يستطع الدراماتورج إنقاذه من كبوته وعدم تماسكه دراميا, إلا أن المخرج بخبرته الطويلة وهو صاحب الكثير من العروض المتميزة للغاية كان يعرف كيفية التعامل مع مثل هذا النص الضعيف وهو ما استطاع «البنهاوى « كمخرج محنك تحقيقه عبر عناصره المسرحية ليخلق عرضا متماسكا ثريا بالعناصر المسحية المختلفة ـ دون النص ـ جذب به انتباه المتفرج طوال الوقت, بداية من الصوت العميق للنهر (صوت كشاهد على مايجرى على ضفتيه, وانتهاء بالصوت ذاته يبث فى نهاية العرض الطرح الذى أراده المخرج  لعرضه وإيصال رسالته لجمهوره, وتبدت حنكة «البنهاوى» كذلك فى اختياره لمصمم ديكوره الدكتور»محمد سعد» الذى خطف عين المتفرج مع الإطلالة الأولى على ذلك الديكور الذى جعل من خشبة المسرح قسمين رئيسيين, الأيمن جعله معبدا من الداخل غير محدد الملامح والهوية التى تشير الى عصر محدد, بل هو معبد فى المطلق, وعلى الجانب الأيسر من المسرح بوابة وجدار ضخم لقصر فى المطلق أيضا إلا أن منحوتاته البارزة والغائرة مع ضخامتها وجودة تنفيذها جعلتها خاطفة للأبصار, ثم مع إطلالة «محمد عبدالعزيز» فى دور الملك «جابورو» ببسطة جسده الفارع وصوته المسرحى القوى ومهارته فى تلوين هذا الصوت حسبما تقتضى اللحظة الدرامية, وكذلك «مصطفى محمد محمود» الذى أضفى بآدائه لشخصية الكاهن الذى يعمل باسم الآلهة لمصالحه هو فقط, وفى سبيل ذلك كان مداهنا ومتملقا, ومؤلبا للمشاعر بين الملك وشقيقه, ولكن تتحول ثعلبيته تلك الى سمات أسد هصور حين يلتقى مع العراف الكاشف لمطامعه, يعرف متى يهاجم ومتى يتقهقر الى الوراء, كان الفنان «مصطفى محمد محمود» على وعى بكل أبعاد تلك الشخصية, وأداها بمهارة عالية, ووقف الى جواره فى الآداء «أحمد عبدالعليم» ليجعل من العراف ليس مجرد قارئ للطالع, بينما هو يشارك فى تسيير أمور المملكة بما يدعيه من إخلاص أكسبه ثقة  الملك, وكانت المشاهد التى تجمعه مع الكاهن مباراة ملتهبة فى فن التمثيل الذى يجيده هذان الفنانان الكبيران, ولا يقل عنهما فى القدرة الآدائية «إسماعيل شاهين» فى دور «أريو» وإن كان من مدرسة مختلفة فى الآداء حيث الهدوء المغلف بالعمق حسبما تقتضى طبيعة رجل عجوز يدافع عن أرضه المحتلة, والى جوار هؤلاء اللاعبين الكبار يقف الشباب الواعد بالفرقة «جويد نجم الدين, أسامة جابر» الممتلئان بالموهبة المنعكسة فى آدائهما لـدورى «باهارونى, حبرو». إستطاع المخرج أن يوظف مهارات شباب الفرقة الذين انعكست عليهم مهارات المخرج فى التدريب فكان كل من «آية سامح, منة الله ياسر, داليا عصام, مصطفى عبد العزيز, محمد عصام, مصطفى علاء»  الذين جسدوا شعب المملكة باقتدار, وكذلك «إيمان عبدالحليم, نور محمد يحيى, إسلام عبدالناصر, مازن محسن, نورهان عماد, محمد ربيع, محمد أحمد محمد, هشام محمد» فى تجسيد أهل قلعة الأرض, وشكل السكندرى المتميز «محمد عبدالصبور» ـ وهو مخرج مسرحى أيضا له تجاربه المتميزة رغم قلتها ـ  لوحاته الإستعراضية لتتضافر فى لوحة كلية للعرض بوعى وبساطة جمالية, كما اعتمد «محمد عبدالوهاب» فى موسيقاه وألحانه على الجمل الموسيقية الشجية فى لحظات اللقاء بين الملك وحبيبته, وبين «باهارونى» ووالدته, والجمل المتوترة فى لقاء الملك وشقيقه, مما جعل من موسيقاه موسيقى درامية وليست غنائية فقط, واتسمت إضاءة « عز حلمى» بوعيه فى جعلها تعكس جو المؤامرات والدسائس لا سيما فى المشاهد التى جمعت بين العراف والكاهن فكانت تأتى خافتة مكسوة بالصفرة والحمرة الخفيفين على عكس مشاهد الغابة والقرية التى جعلها قوية وشديدة الوضوح إن «عز حلمى كان له تواجدا كبيرا ومؤثرا فى كثير من عروض هذا المهرجان, وأصبح من مصممى الإضاءة القلة المتميزين.
وإجمالا فإن «أحمد البنهاوى» بلا شك قد استطاع أن يصنع عرضا محكما جيد الصنع وثريا بالعديد والجيد من عناصر العرض المسرحى مديكور وإضاءة وملابس, وموسيقى واستعراضات بالإضافة للتمثيل الجيد لفرقته, ليستحوذ بكل ذلك على انتباه متلقيه, رغم تهافت النص إلا أنه تجاوزه على مستوى العرض بحنكته ومهارته وخبرته الطويلة.

 


أحمد هاشم