التجريب وأزمة الثقافة العربية

التجريب  وأزمة الثقافة العربية

العدد 786 صدر بتاريخ 19سبتمبر2022

تأتي الدورة التاسعة والعشرين من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي كمحاولة ممتدة للبحث عن قيم جمالية وإبداعية مصاحبة للتطور الإنساني , ولفن المسرح الذي يعتبر تجريبيا بطبعه , ورغم ذلك يظل هذا الفعل مرتبطا بشروط الضرورة الفنية , التي تفرض الوصول إلى واقع جديد يتفاعل بقوة مع اللحظة التاريخية والاجتماعية والإنسانية  التي نعيشها الآن , بعيدا عن الجهل بأبجديات المسرح والتوجه نحو تجارب مفرغة من المعنى والدلالات , مما يؤدي إلى بعث موجات من التناقض والردة والغياب . 
التجريب هو خروج عن رؤى ومفاهيم قديمة سابقة ومتكررة , بحثا عن الجديد الذي يختلف عن السائد والمألوف , وهو يستند على مبدأ مغاير غير متبع من قبل , يخرج عن الواقع الماضي هاربا أو مرغما , ليتصالح مع شكل عصري وليس معاصر - - إنه انتقال من فكر مضى إلى فكر قادم , فكر مستقبلي يوحي بقيمة الثقافة , التي تمثل أعلى درجة من درجات العقل , باعتبار أن عملياتها الفكرية هي التي تدفع الإنسان إلى الجديد المختلف , عبر نشاطات اجتماعية وسياسية وسيكلوجية , تعبر عن الفكر المغاير . 
إذا كان قانون الحياة الطبيعية والاجتماعية هو التغيير, فإن قانون الفكر والفن هو التجديد و ذلك التجديد الذي يصبح مطلبا ملحا حين تتأزم الظروف على المستويات الاجتماعية والثقافية والفكرية , ومن المؤكد أن التجديد في أي مجال لا ينبع من رغبة شخصية و وهو ليس حالة فكرية طارئة , لكنه تحقيق التواصل الخلاق بين الماضي والحاضر والمستقبل , وهو الخروج من أسر السائد والكائن  , ومن إعادة إنتاج الماضي , ومن التبعية الفكرية لأي توجه , ويأتي ذلك عبر التحليل العلمي والنقدي للتراث والفن والفكر المعاصر . 
لا يزال مفهوم التجريب في المسرح المصري والعربي , لا يزال ضبابيا غائما , لأن المعنى الفكري والأساسي للمنهج غائب بشكل مخيف , , حيث تواجهنا الحقيقة المؤسفة التي تؤكد أنه لا يوجد أي تطور تجريبي في إنتاجنا المسرحي , لأن الركيزة الفلسفية الأساسية غائبة في  دوامات الردة والتخلف , وفي جمود المنظور الأحادي المغلق , كل ما يحدث هو أننا أمام تجريب يسرق تجريبا آخر , تعلمه المصريون من الفرق الزائرة عبر دورات المهرجان , وعلى سبيل المثال نحن نواجه كثيرا حالات الاتجاه إلى إظلام خشبة المسرح , وتغييب وجوه الممثلين , أو الإضاءة الهزيلة بالشموع , بعيدا عن كل المفاهيم الدرامية , وهذا هو نقل مهين للتجريب المصري . 
بعد مرور ما يقترب من ثلاثين عاما , لا يزال التجريب الذي عرفناه في مصر هو تجريب حدسي , يخرج دائما عن العقل ولا يقدم أي جديد فكريا , لا في الشكل ولا المضمون , تلك الحالة التي تعود إلى أزمتنا الثقافية , التي أغفلت العقل النقدي العلمي الذي ينتج التطور والتجديد , وفي هذا السياق علينا أن نتأمل بعض النماذج الواقعية المتحققة فعليا لماهية التجريب - - 
كانت بداية المسرح العالمي عند الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد , كانت تجريبا أصيلا وجديدا في الزمان والمكان , أما المقاعد الحجرية في صالة المسرح التي تسع ثلاثين ألف متفرج عند اليونان القدامى , فقد كانت تجريبا مدهشا في صالة المسرح , أما المسرح الديني الكاثوليكي رغم سوء سمعته - , قدم نموذجا تجريبيا واضحا , حيث ثلاث خشبات مسرحية في العرض الواحد , مما لم يكن مألوفا آنذاك في عصر القرون الوسطى , كذلك كان انتقال المسرح الروماني إلى داخل المعمار المسرحي واستخدام المناظر المسرحية هو تجديد وتجريب يختلف عن المعمار السائد آنذاك , وفي سياق متصل نجد أن ظهور الكلاسيكية الفرنسية الجديدة في القرن السابع عشر , اختلف تماما عن الكلاسيكية الإغريقية الأولى , حيث التجريب الأصيل في فن الكتابة المسرحية , وفي حجم صالة الجمهور , أما التجريب المدهش الذي حدث بفكر الكلاسيكيين الجدد أنفسهم , فهو يكشف عن مفاهيم الاختلاف والمغايرة بين بيير كورني , جان راسين , وبين باتيست  موليير , حيث قدم موليير على مسرحه في قصر فرساي و الكوميديا الأخلاقية مثل طرطوف , طبيب رغم أنفه , المتحذلقات وغيرها , ومن المؤكد أن من شاهد مسرح موليير داخل القصر الملكي الفرنسي حاليا , سيدرك على الفور معنى التجريب في الأثاث والمقاعد الفخمة . 
أخيرا نتعرف على التجريب الذي بعثه المؤلف الإيطالي الشهير كارلو جولدوني في القرن السابع عشر , حين تمرد على الكوميديا ديلارتي , التي امتدت مائتي عام يحكمها الارتجال في كل مسارح أوروبا , واستطاع جولدوني أن يعيد الوعي والرونق والبهاء , للتأليف المسرحي بعيدا عن الارتجال 
إذا كان المسرح هو فن الفطرة الإنسانية , فن اللحظة الحية , تنمو على خشبته الحالة الشعورية للممثل , وتنطلق لتعانق روح وعقل المتلقي , فإن الأداء التمثيلي قد شهد في العصر الحديث إنجازات ستانسلافسكي الذي يرى أن الممثل هو جوهر العملية المسرحية , بينما يرى بريخت أن وظيفة المسرح هي كسر الإيهام وليس الإيهام , أما بيتر بروك وجروتوفسكي , فقد قررا الاستغناء عن الديكور والنص , ليظل الممثل والأداء والمساحة الفارغة هم جوهر العملية المسرحية , أما مايرهولد تلميذ ستانسلافسكي فقد اعتبر أن حركة الممثل على خشبة المسرح في حد ذاتها كافية لإظهار العاطفة , كما اتجه جوردون كريج , وجاك لوبو نفس الاتجاه , وهكذا يظل فن المسرح في حالة تجريب دائم , باعتباره ضرورة إبداعية تفرض الوصول إلى واقع فني جديد قد يجد فيه الإنسان أحلام الحرية وامتلاك الذات . 


وفاء كمالو