الثانية في الغرام.. محاولة لإعادة الموروث المصري للمسرح

الثانية في الغرام.. محاولة لإعادة الموروث المصري للمسرح

العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018


“حتى وإن التهمت جذوري أيها التيس فسأحمل ثمارا كافية لأصنع منها إكليلا أضعه على رأسك يوم تذبح”، ربما كانت مقولة إسكالونيتس يفين تلك هي ما تنطبق على العرض المسرحي “الثانية في الغرام” لمؤلفه ومخرجه سامح العلي، الذي حاول من خلاله العودة إلى التراث المصري وفنونه الأدائية التي تراجع الاهتمام بها كثيرا في عروضنا المسرحية في الآونة الأخيرة بعد أن حظيت فترة الستينات برواج لفكرة البحث عن إطار مسرحي جاد يعبر عن هويتنا من خلال تراثنا الزاخر بالكثير من المفردات التي تصلح لصناعة مسرح مصري وعربي له هويته المستقله بعيدا عن تلك الأشكال المسرحية المقولبة المجلوبة لنا من ثقافات غربية لا تعبر عن مجتمعاتنا وثقافتها.. لذا كان طموح سامح العلي - بما يملكه من زخم بالمفردات التراثية وما له من باع في هذا المضمار بجمعه للحكايات الشعبية والفنون التراثية من دروب مصر – أن يقدم تلك التجربة (الغنائية الاستعراضية) التي كان مخاضها صعبا عسيرا استمر لأكثر من ثلاث سنوات.. تلك التجربة اعتمدت على أكثر من مفردة تراثية مصرية خالصة منها الأراجوز والحكاواتي والغاوين وصندوق الدنيا، بالإضافة إلى المادة التراثية التي اعتمد عليها في البناء الدرامي وهي إحدى الحكايات الشعبية المصرية التي لم تسلط عليها الأضواء كغيرها من الحكايات مثل أيوب وناعسة وحسن ونعيمة وغيرها.. تلك الحكاية صاغها المؤلف برؤيته الفنية لتكون هي محور الحدث بعمله المسرحي.. وقد أسس المؤلف المخرج شكله المسرحي على أسلوب الفرجة، وهو أيضا من المفردات التراثية شديدة الخصوصية التي أشار إليها من قبل يوسف إدريس في مقدمته لمسرحية الفرافير؛ حيث يتميز مصطلح الفرجة بمشاركة الجمهور مع المؤدي في الحدث والدخول معه في حوارات تزيد من تفاعل المتلقي مع ما يقدم له ويصبح المتلقي في تلك اللحظة مشاركا في اللحظة الإبداعية، على عكس مصطلح المشاهدة الذي يعكس جانبا سلبيا من قبل المتلقي هو الاكتفاء بمتابعة ما يعرض عليه.. تلك السمة هي من أهم مكاسب العرض، وإن شابها بعض الوهن في التنفيذ من قبل سامح العلي المخرج ففقدت الأثر المرجو.. اعتمد المؤلف في نصه على محورين في طرح الأحداث؛ الأول هو علي الحكواتي وأم الحنان زوجته والأراجوز مع الغاوين من أهل البلد الذين تجمعوا لسماع إحدى حكايات علي الحكواتي وزوجته وتلك هي القصة الإطار التي قدم من خلالها المحور الثاني الحكاية الشعبية التي عالجها دراميا وهي حكايات علوان وفاطمة قصة الحب التي نشأت من رحم مقاومة المحتل (الفرنسي) عندما قتل (علوان/ محمد عبد الحافظ) الطالب في الأزهر المحب للعلم الذي يحمل حب الوطن بداخله أحد الضباط الفرنسيين عندما اقتحموا ساحة المسجد الأزهر ليصبح مطلوبا لمحاكمته وإعدامه فيهرب ويختبئ في إحدى القرى عند صديقه وزميله (شاكر/ عصام توفيق) ذي المغامرات العاطفية وهناك يلتقي (بفاطمة/ يسمينا المصري) فتعرف قصته ويتعلق قلبه بها إلا أن شاكر يتقدم لخطبتها وتحدث الأزمة ويكتشف حب صديقه لها فيعتبرها خيانة ويطرده ويتهم فاطمة بالخطيئة مع علوان زورا، فيهرب علوان إلى بلده وهناك يلتقي بعمه الذي يقتل على يد الفرنسيين أثناء محاولة القبض على علوان، فينتقم علوان بقتل ثلاثة جنود منهم ويفر عائدا إلى حبيبته التي عذبها أبوها نتيجة لفرية شاكر ويستطيع الهرب بها ليلوذ بالدراويش ويتزوجها وينجب أطفالا كبيرهم اسمه علي، لنكتشف في النهاية أن الحكاوتي وأم الحنان كانا يرويان قصتهم وأنهم الأبطال الحقيقيون للحكاية.. ورغم اللغة الشعرية الراقية التي استخدمها في عمله، والتي أضافت كثيرا من المتعة للمتلقي إلا أن البناء الدرامي الذي اختاره عجز عن إتمامه في النهاية.. فالقصة الإطار بناها على صراع مستمر بين شيخ الغفر (سيد عبد الرحمن) ورجاله ومن يسانده دون أن يظهر في الحدث العمدة والباشا، فهم جميعا لا يريدون الحكاواتي وحكاياته وبين الحكاواتية والأراجوز وأهل البلد (الغاوين) الذين يريدون إتمام الحكاية في إشارة دالة على الصراع القائم بين السلطة الرسمية والشعب وفرض الوصاية الأبوية التي رفضها الشعب في النص وتمرد على السلطة وقرر مصيره باستمرار الحكي من قبل علي وزوجته أم الحنان.. هذا الخط الدرامي تم بتره في الفصل الثاني ولم يحسم فيه الصراع الذي ظل معلقا، فهل يتدخل العمدة لترجيح كافة شيخ الغفر الذي أصبح عاجزا بعد أن سلب سلاحه، أم يعاقب أهل البلد على ما فعلوه مع السلطة المتمثلة في شيخ الغفر أم ماذا ليصبح الحدث معلقا.. وترك المتلقي مع المحور الثاني في الحدث وهو رحلة علوان وفاطمة وعودتهما لأهلهما بعد رحيل الفرنسوية وإعلان براءتها وكشف كذب علوان أمام القرية، وهو المحور الذي يشير إلى الانتصار على المحتل والصمود في مقاومته واسترداد الحق من المغتصب وبقاء الرمز (فاطمة) مثمرة معطاءة.. هذا بالإضافة للايقاع العام الذي تأثر بإعطاء مشاهد مساحات زمنية كبيرة دون مبرر والوقوع في براثن المباشرة والخطابة في أكثر من موضع دون الحاجة.
أما سامح العلي باعتباره مخرجا، فقد حاول أن يقدم نصه بنفس النهج الذي انتهجه في الكتابة وهو استخدام المفردات التراثية الشعبية في صنع عمل مسرحي غنائي مصري خالص، إلا أن حرصه على استخدام المفردات التراثية دون إحداث التوازن المطلوب أثر كثيرا على إيقاع العمل.. فعلى مستوى الديكور الذي صممه (وائل عبد الله)، فقد جاء في إطار وظيفي للإشارة لمكان الحدث دون أن يتطرق لإحداث معادل بصري وجمالي للكلمة المنطوقة بالعرض، كما أن هذا الشكل الوظيفي لم يعطِ المنتظر منه فالحدث المسرحي يشير إلى أكثر من مكان ساحة الحكي في القرية وباحة الأزهر ثم منزل شاكر في قرية أخرى والانتقال إلى مسقط رأس علوان والزراعات، ثم أخيرا مقر الدراويش، وعلى الرغم من تعدد الأماكن فإن خلفية منزل شاكر احتلت عمق المسرح في مشاهد الحكي على سبيل المثال، بل واستخدمها في شخصية العارف بالله التي ليست في النسيج الدرامي واكتفى بالإشارة للمكان بسور قصير للغاية في الخلفية.. كما أن طبيعة الديكور لم تستغل الشكل التراثي للتعريف بالفترة التاريخية للحدث المسرحي؛ مما انعكس على المردود الجمالي للصورة المسرحية لدى المتلقي.. الملابس من تصميم (هبة عبد الحميد) جاءت تقليدية هي الأخرى وفي النطاق الوظيفي واعتراتها المشكلات نفسها التي واجهت الديكور وخاصة ملابس مجموعة الأداء الحركي التي كثيرا ما خرجت عن المنظومة التراثية والتاريخية الحاكمة للعمل كما في اللحظة الدرامية التي تجسد حالة الحب النبيل بين علوان وفاطمة عن طريق راقص وراقصة بملابس عصرية (قميص وبنطلون) لتصبح الصورة المسرحية فقيرة وغير منتجة للمعنى بل أحدث تشويشا لدى المتلقي.. أما تعامل المخرج مع الحركة وتضافر مفردات العمل فقد أثر كثيرا على إيقاع العمل بذلك التكرار للجمل غير المبرر بأشكال فنية مختلفة الأداء للحكواتي ثم الأراجوز ثم الغناء من جوقة الكورال على المسرح.. التي احتلت يمين المتفرج لتختلط الأدوار بين ثلاثة محاور رئيسية للقيام بدور الراوي بين الأراجوز والحكواتي وجوقة الغناء.. أما على مستوى التشكيل، فقد قدم لنا عازف الناي على يسار المتفرج مقابل الجوقة دون مبرر لوجوده، وأصبح حملا على التشكيل العام، بالإضافة للغاوين في مقدمة خشبة المسرح دون مبرر إلا تحقيق معادلة الفرجة التي لم يفلح وضعهم بهذا الشكل في تحقيقها، كذلك لم يستطع المخرج تحقيق مشاهد الحلم بأسلوب مختلف عن بقية المشاهد لتكون الكلمة هي الوسيلة الوحيدة المنتجة للمعنى في العمل.. أما الألحان لأحمد الحجار وكلمات الأغاني لسامح العلي، فكانت العنصر المضيء في العمل الذي أضفى متعة كبيرة بجانب اختيار أصوات المؤدين التي تعبر عن مواهب حقيقية، الملاحظة الوحيدة أن الآلات الموسيقية المستخدمة في الألحان لا تعبر عن الفترة التاريخية لأحداث العمل، ولكن تبقى الصورة المسرحية هي الإشكالية الأبرز في هذا العمل، فلم يستطع المخرج في كثير من مناطق الغناء التي احتلت مساحة كبيرة من العمل في صنع معادل بصري للكلمة الملحنة، فجاءت الصورة فقيرة وتظل المتعة الوحيدة هي الكلمة واللحن.. الأداء الجيد لكل فريق العمل من أبرز إيجابيات العرض بما أضافه من متعة، وإن تميز عصام توفيق في دور شاكر بأداء منضبط ووعي بطبيعة الشخصية وتطورها الدرامي عبر مراحلها المختلفة.. أيضا تميز يوسف عبيد في شخصية الصعيدي الهارب رغم ضيق المساحة.. ورغم الإشكاليات الإخراجية والدرامية للعمل التي أثرت على الإيقاع العام، فإنه احتوى على لحظات كثيرة من المتعة الناتجة عن حميمية الموروث ورقي الكلمة والألحان والأداء التمثيلي المنضبط لكل فريق العمل وتبقى الإيجابية الأهم أنه خطوة نحو اقتراب مسرحنا من تراثنا الثري الذي لم يستغل بالشكل المرجو حتى الآن


طارق مرسى