المسرح المصري سقوط الاستراتيجية..وصعود فكر العار

المسرح المصري  سقوط الاستراتيجية..وصعود فكر العار

العدد 776 صدر بتاريخ 11يوليو2022

يبدو المشهد في مصر الآن ضبابيا غائما، فالمؤامرات الكبرى فادحة وفاضحة، التفاصيل تزلزل الكيان، واللحظات الوقحة تبتذل المشاعر الإنسانية، تستبيح الروح والجسد، تبيع التاريخ والجغرافيا وتغتصب الوطن، تسرق الحياة والوهج، لتؤكد أن الواقع ينذر بالخطر، وأن التفاصيل غزيرة متشابكة، حمقاء متسلطة، تموج بالزيف والتغييب والخلل، ليظل المشهد عبثيا مأساويا صارخا . 
إذا كانت حادثة مقتل طالبة جامعة المنصورة التي طعنها زميلها وذبحها ونحرها أمام الجميع، هي حادثة تفوق كل حدود الإجرام والرعب والفزع، كشفت عورات مجتمعنا الذي تعاطف بجنون محموم مع القاتل، ليدين البراءة المغتالة، فإن هذا الخلل يأتي كقراءة شديدة الوضوح والشفافية في قلب حقيقة وجودنا الآن، فنحن نعيش زمن السقوط وفكر العار، لا نعرف معنى الثقافة ولا العلم ولا الفن، ولا مفاهيم الحضارة أو قوة مصر الذكية الناعمة، فالناس في بلادنا معذبون، غاب عن وجودهم المعنى والفرح، الظلام يخترق العقول، والفقر يهزم الأجساد، والجهل يدفعنا إلى الجحيم، فنحن لا نزال بحاجة إلى فتاوى تؤكد أن العلم ليس ضد الدين، وأنه ليس إلحادا، وأن المرأة مثل الرجل، وأن أصحاب المؤامرات القذرة يبحثون عن هدم الدولة وهيبة القانون . 
لقد غابت أبجديات الوعي، وتراجعت مفاهيم الثقافة بشكل مخيف، لأننا نعيش بالفعل زمن الردة، زمن الفجوات الفاصلة، التي تؤكد عجز تيارات الوعي عن الوصول إلى الناس، وفي هذا السياق يتضح أن المسرح المصري بشكل عام قد افتقد الاستراتيجية والهدف، وتاه منه الطريق إلى أجيال طالعة، تلعب بالقنابل والمتفجرات، تستبيح الدم والقتل والانتحار، لا تدرك معنى الوجود والأرض والانتماء، فالمسرح هو أكثر أشكال الفنون صدقا وحيوية، ومقدرة على التواصل المباشر مع الإنسان، وهو أيضا الممارسة العملية للحرية والديمقراطية، لكنه للأسف تاه في زحام القضايا والإشكاليات، وعجزت رسائله عن الوصول إلى الجمهور الحقيقي في أقاليم ومحافظات وقرى مصر . 
إن المسرح وحده لا يمتلك حلولا لقضايا الإنسان، لكنه يمتلك القوة الفكرية، التي تبوح وتروي وتكشف، وتغني للحرية ودفء الأحلام، وحين تختل القيم وتغييب المعايير، لتتخذ مسارا نحو التزييف واستلاب الوعي وتدمير المعنى - -، يصبح من المنطقي أن يصدر حكما بالإعدام  على الرسالة والهدف والدور وإنسانية الإنسان، لذلك تأخذنا التساؤلات إلى تلك الزاوية الحرجة، التي نبحث فيها أسباب انفصال هذا الكيان الثقافي عن وعيه الثائر، وغيابه في دوائر الردة والخلل، فأين هي استراتيجية المسرح؟ أين أجنداته؟ ما هي فلسفته؟ وما هو إطاره الفكري،  ولمن يتجه برسائله؟ 
إذا كانت القراءة المبدئية لواقعنا الحالي، تؤكد أننا نعيش زمن الأزمات، فإن الأزمة الفكرية الطاحنة تدمر الوجود الثقافي العربي بأكمله، ذلك الوجود الذي يشهد أسوأ موجات الردة المحكومة بصعود مخيف للرؤى الأحادية، والوعي الغائب والتسلط الممتد و القهر المخيف، والنفي العنيد لإيقاعات التعدد والحوار والاختلاف، ومن المؤسف أن حرية التعبير عن الرأي لا تزال جريمة يعاقب عليها الشرع  والقانون، لذلك تظل الحقائق مريرة، لكن المواجهة هي مسألة حياة أو موت، فهذه الأزمة الفكرية امتدت منذ سنوات طويلة لتحكم مؤسساتنا، والمسرح بالطبع هو أحد هذه المؤسسات، ويبدو أن المفارقة الساخنة تتبلور في أن طبيعة الفن الثائرة، ورؤاه المشاغبة تفرض أن يمتلك هذا الكيان وعيا حادا بطبيعة اللحظة التاريخية الحرجة، وبآليات زمن جديد يفترس معنى قداسة الإنسان، وطبيعة إشكاليات النفي والغياب، ويكون له السبق في فتح الأبواب المغلقة، واختراق المسارات المظلمة، فالمسرح هو الاستثمار الإنساني، الذي سيعيد ملامح شخصية مصر، وينقذ أجيالا تاهت في دوامات التراجع والجهل والاغتراب والإرهاب، وسيظل هو الذاكرة والجذور، الهوية والكيان، التمرد والعصيان، والثورة والأحلام، لذلك فإن تحدياته خطيرة، وانطلاقه محكوم بتجاوز تناقضاته، وامتلاك قوته ومساراته، بعيدا عن المصير المحتمل المنذر بالسقوط والخسران . 
تاتي القراءة الفعلية لتفاصيل صورة المشهد المسرحي الآن لتضعنا أمام حقائق صادمة، تكشف عبثية الرؤية والغياب الكامل للهدف، حيث تكشف مهرجانات فرق مسرح الأقاليم القادمة من قبلي وبحري والصعيد، عن ارتكاز معظمها على نصوص من المسرح العالمي، -فهل يحتاج أبناء هذه المناطق في ذلك الزمن الحرج الذي تعيشه مصر-، هل يحتاجون إلى طرح عذابات هاملت، وماكبث، وصراعات التراجيديا الإغريقية، والاشتباك مع رؤى شكسبير وفيكتور هوجو، وأوجين أونيل؟ فهل هناك عيون ترى الواقع الممزق، أو عقول تستهدف الجمهور الذي يحتاج إلى أبسط أضواء المعرفة والتنوير، وإدراك أن القتل حرام والدم لا يمكن استباحته، وأننا بحاجة إلى تبديد سحب الغيبيات، وتغيير مفهوم الفن وخطاباته ورسائله . 
من المؤكد أن تغيير الواقع والعبور إلى المستقبل، يفرض علينا إدراكا لطبيعة إيقاع العصر، ذلك الإدراك الذي يجب أن يلمسه المسرحيون، فيتباعدون عن الحوارات الطويلة المملة، وعن الغياب الكامل للأحداث، وعن الحالة المسرحية الساكنة المميتة التي تحدث عنها بيتر بروك، هكذا نصبح أمام تناقض مخيف، فالواقع الذي نعيشه يشهد أحداثا يومية سريعة متوترة ومتوالية، مسكونة بالمؤامرات والعنف والقسوة والجهل والتجاوزات، تدفع الناس إلى الاستغراق فيها، والتفكير السلبي في حاضرهم والمستقيل، وتظل هذه التفاصيل اليومية أكثر قوة وجموحا بالمقارنة مع خيال المؤلفين ومآسيهم التراجيدية على امتداد تاريخ الدراما، لذلك يصبح علينا أن نخرج من أسر السكون والجمود ونحل المعادلة الصعبة، معادلة التفاعل بين الفن والواقع، فعروض المسرح يجب أن تمتلك مقدرة جذب هائلة، لتخطف عقل المتلقي ومشاعره، وتدخل به إلى وجود افتراضي منظم يمتلك فيه ذاته وكيانه وملامح إنسانيته، وتصله رسائل الإرادة والتغيير، بعيدا عن التفكير في وجود عشوائي مسكون بالخطر والهواجس، بالخوف واللصوص والقتلة، وعذابات العجز والقهر والتسلط، باختصار المسرح بحاجة إلى عروض حية تهز أعماق المتلقي نفسيا وذهنيا وعقليا ووجدانيا . 


وفاء كمالو