الوسائط الحية المسرح والتقنيات التفاعلية(1-2)

الوسائط الحية المسرح والتقنيات التفاعلية(1-2)

العدد 768 صدر بتاريخ 16مايو2022

 في القرن الماضي، أدت تقنيات السينما والإذاعة والفيديو إلى ظهور أشكال جديدة من التعبير الدرامي وصناعة الترفيه العالمية . وفي العقد السابق، قادت التقنيات ثورة فنية وثقافية مماثلة، إن لم تكن أكبر . إذ تنجب الوسائط التفاعلية أشكالا فنية جديدة، وتملك الممارسة والتاريخ المسرحيين الكثير لكي تساهم به في هذه الأشكال الجديدة. وكما جادلت في موضع آخر، ترتبط الطريقة التي يتأمل بها فنانو الوسائط الرقمية حاليا مفهوم « التفاعل interactivity « ارتباطا وثيقا بالطريقة التي يتأمل بها فنانو المسرح والأداء مفهوم «الحيوية Livenessمنذ فترة طويلة . ويسعى فنانو الوسائط الرقمية إلى تعريف التجارب التفاعلية بنفس الطريقة، وربما لنفس الأسباب، كما فعل مبتكرو مسرح الوقائع Happenings والمسرح البيئي invironmental theater في الستينيات في القرن الماضي . 
 ورغم ذلك، فان بؤرة التركيز الأساسية لهذه المقالة، ليست دور المسرح في الوسائط التفاعلية، ولكن دور الوسائط التفاعلية في المسرح – وكلمة مسرح هنا تشير إلى نوع الأداء الغربي غير التشاركي القديم الذي يتجمع من خلاله مجموعة من المؤدين (من لحم ودم) أمام المتفرجين لتجسيد نص مسرحي مكتوب مسبقا. إذ لا ينصب اهتمامي الرئيس علي التفاعل بين المتفرجين (المستخدمين النهائيين) والوسائط، بل بالأحرى التفاعل بين المؤدين الوسائط . ويمكن أن تُعرّف العروض المسرحية هذا التفاعل من خلال مجموعة واسعة من الطرق المختلفة . ولتوضيح مجموعة الخيارات سوف أستنتج أمثلة من العروض التي أخرجتها خلال السنوات الثلاث الماضية تحت رعاية مختبر الأداء التفاعلي في جامعة جورجيا . وفي النهاية، أتمنى ألا أكون قد وضحت فقط أن التقنية التفاعلية في المسرح تفتح إمكانيات دينامية جديدة لفناني المسرح، بل أن تدفعنا بعمق إلى إعادة بحث بعض من افتراضاتنا الأساسية حول طبيعة المسرح ومعنى الحيوية . 

تعريف الوسائط التفاعلية:
 أولا، أود تحديد ما تعنيه الوسائط التفاعلية في هذا السياق . ومن خلال الوسائط التفاعلية، أشير إلى الأصوات والصور المسجلة، وفي كثير من الحالات المبتكرة علي الكمبيوتر، والتي ينتجها الكمبيوتر استجابة إلى أفعال المؤدي الحي live performer . والجزء الصعب هو كيفية تحديد اختلاف هذه الوسائط، بالضبط، وظيفيا، عن الوسائط الأقدم غير التفاعلية المزعومة، والتي أسميها الوسائط الخطية linear media (التي تتطور من مرحلة إلى أخرى في سلسلة واحدة من الخطوات المتتابعة) . في النهاية، علي مستوى ما، يتفاعل مشغل الأجهزة التناظرية، مثل مسجلات الأشرطة وأجهزة الفيديو وأجهزة العرض السينمائي، مع عناصر التحكم فيها لاستدعاء أصوات وصور معينة . 
 وهناك ثلاثة ملامح حاسمة تميز الوسائط التفاعلية عن الوسائط التناظرية: 
1) الدخول العشوائي: تسمح التقنيات الرقمية (حتى البسيطة منها مثل الاسطوانات المضغوطة السمعية والبصرية CDs، DVDs) بحركة فورية بين مقاطع الوسائط غير المتجاورة . فمثلا، يستطيع عازف البيانو أو عازف الجيتار الانتقال بسرعة بين النغمات العشوائية . وبالمقارنة، يجب أن يتقدم مشغل مجموعة أشرطة الصوت أو الفيديو عبر المعلومات بالتتابع للانتقال من جزء إلى آخر . 
2) الرابط العشوائي بين الأثر والمخرجات: نظرا لأن أجهزة الكمبيوتر تخزن الأصوات والصور وكل شيء وتتلاعب بهم – إذ لا يوجد اتصال ميكانيكي فطري بين محتوى الوسائط والمدخلات التي تحفزها كما هو الحال في كل من الآلات الموسيقية الصوتية وأجهزة الوسائط التناظرية مثل الأشرطة . ينتج عن هز الأوتار بالأصابع أصوات الجيتار مباشرة، مثلما ينتج الضوء الساطع من خلال الفيلم شبه شفاف صورا سينمائية مباشرة. وبالمقارنة، يمكن أن يستخدم الكمبيوتر أي نوع من المدخلات (لوحة المفاتيح والفارة وجهاز الاستشعار باللمس وكاشف الحركة أو أي شيء آخر يغذي البيانات داخله) لتحفيز أي نوع من المخرجات (أصوات، صور، إضاءة، التحكم في المحرك) . علاوة علي ذلك، يمكن لمُدخل واحد أن يحفز أي عدد من المخرجات، مما يسمح بالتحكم المنسق للغاية في عناصر الوسائط المتعددة . 
3) التلاعب بالوسائط: ينبع أقوى ملامح الوسائط التفاعلية من قدرتنا علي كتابة برامج تتلاعب بالمعلومات الرقمية المبنية علي المدخلات . ولذلك، لا يحتاج المحفز إلى وجود علاقة فردية ثابتة بالوسائط التي ينتجها . إذ يمكنني برمجة كمبيوتر لعرض صوت أو صورة مختلفة اعتمادا علي مدى كيفية تحرك اثنين من المؤدين معا عن قرب، أو مدى ارتفاع صوتهما وهما يتحدثان، أو النغمات التي يغنونها، ويمكنني إجراء تغيير في المخرجات بمرور الوقت أو الاستجابة لأحداث الماضي . ولا يستطيع الكمبيوتر أن يحدد مقاطع الوسائط المسجلة مسبقا وفقا للوغاريتمات معقدة فحسب، بل يمكنه إنشاء وسائطه الخاصة أثناء التنقل، مما ينتج عنه أصوات أو صورا جديدة . ولعل أحد أقدم التركيبات التفاعلية المسرحية الشارحة عند مايرون كروجر (1970)، التي صورت هذه الإمكانية من خلال تمكين المشاركين من رسم صور افتراضية عن عرض فيديو بحجم الجدار عن طريق تحريك أذرعهم في الفضاء . 

علاقات خطرة: المسرح والوسائط: 
 من السهل أن نتخيل كيف يمكن أن تكون الوسائط التفاعلية مفيدة في أنواع الأداء الارتجالية أو التشاركية أو غير المعيارية . فمثلا، يمكن أن يستخدم الموسيقيين التقنيات التفاعلية لابتكار ألآت موسيقية جديدة قادرة علي توليد مجموعة متنوعة من الأصوات غير المحدودة بطرق مختلفة بشكل غير محدود، ولذلك ليس من المستغرب أن الموسيقيين، من ضمن الفنانين، هم أول من استكشف الوسائط التفاعلية والأكثر إنتاجا . وبالمثل، استغل الراقصون القدرة التي توفرها التقنيات التفاعلية للتحكم في الإضاءة والصور والأصوات مباشرة من خلال حركاتهم . 
 ولكن ملائمة التكنولوجيا التفاعلية للمسرح المبني علي النصوص الدرامية أقل وضوحا . في النهاية، يكون تسلسل الأحداث محدد مسبقا في الأداء المعتمد علي نص وتدريبات . ويمكننا أن نفترض أن الوسائط الفاعلية غير ضرورية وخطيرة، وتضيف عنصر مخاطرة لمن يسعى إليها . 
 ورغم ذلك، لاحظ أننا أخذنا هذا التفكير إلى أقصى حدوده، فسنجد أنفسنا قريبا نتساءل عن نشأة المسرح الحي live theater، بما في ذلك استخدام المسرح الأكثر إلحاحا للممثلين الأحياء live actors . وإذا كان التباين التام بين الأداء وغياب المخاطرة هما المثلين الأعليين المطلقين، فلن يكون للمسرح الحي أي سبب للوجود في القرن الحادي والعشرين، وكان لا بد أن يخضع هذا الشكل الفني للوسائط المسجلة مثل الأفلام والفيديو منذ زمن بعيد . وتكمن قيمة المسرح الحي، ولاسيما في العصر الوسائطي، في تنوعه . بغض النظر عن مدى صرامة النصوص وعملية التدريب في تقييد الأداء، فان كل أداء ضمن هذه القيود هو حدث فريد . فمثلا تستخدم البنية الصرامة في تقاليد الأداء في مسرح النو الياباني، الذي يصف كل إيماءة للممثل، لتضخيم الاختلافات الأدق فقط . ومتعة الأداء الحي هي مشاهدة الأداء وهو يتكشف، مع كل المخاطر التي ينطوي عليها . فالأداء الحي تفاعلي بطبيعته . ويتكامل الأخذ والعطاء بين المؤدين والمتفرجين، وبين مجموعة من المؤدين المرهفي الحس، مع إلحاح المسرح كشكل فني، في كل أنواع المسرح ذات الطابع الأسلوبي والمسرح الواقعي . 
 والآن لنتأمل تأثير حقن الوسائط الخطية في الداء المسرحي الحي . ولنتخيل مشهدا متحمسا بين ممثل حي وممثل مصور في شريط فيديو . فعلي عكس الممثل الحي، لن يتسامح شريط الفيديو مع أي أخطاء قد يرتكبها الممثل الحي (مثل نسيان مفتاح الحوار) ولن يتكيف أبدا مع اختلافات ديناميات وإيقاعات إلقاء الممثل الحي. الوسيط يجبر الممثل الحي علي الالتزام به . ويمزج مثل هذا الأداء أسوء ما في المسرح والوسائط علي حد سواء: انه يمنح الأداء الحي خاصية معلبة بدون أن يهبه أي من مميزات السينما أو الفيديو، مثل القدرة علي اختيار تناول، وتعديل الأخطاء، أو استخدام حركة الكاميرا أو القطع المفاجئة علي أداء الممثل الحي . ولا غرو أن الاستخدام المكثف للوسائط الخطية لن يدو كونه أكثر من اقتراح ذكي في المسرح . 
 لا تستنزف الوسائط التفاعلية التلقائية أو التغاير من الأداء الحي، كما تفعل الوسائط الخطية، لأنها تجسد تلك الخواص . فالوسائط تفاعلية بقدر ما تتواءم مع المؤدي فضلا عن جعل المؤدي يتواءم معها . وبالتعريف، كلما كانت الوسائط تفاعلية، كانت أكثر استجابة . والمسرح الذي يمزج الوسائط التفاعلية يملك قوة كامنة لمزج قوى كل من الأداء والوسائط . وسواء أدرك أن القوة الكامنة في أي حالة بعينها، تعتمد بالطبع علي الاختيارات المحددة في العرض والدقة التي يتم تنفيذ هذه الاختيارات من خلالها . 
اختبار الإمكانيات: مختبر الأداء التفاعلي في جامعة جورجيا: 
 خلال العقد الماضي، بدأ عدد متزايد من الفرق المسرحية في استكشاف طرق مزج الوسائط التفاعلية في المسرح . ومن بين أكثر هذه الفرق تطورا فرقة جورج كوتس لأعمال الأداء George Coates Performance Works، ومسرح جرترود شتاين التذكاري Gertreud Stein Repertory Theater ، ومعهد استكشاف الواقع الافتراضي Institute for Exploration in Virtual Reality في جامعة كانساس . ومنذ أربع سنوات، أنشأت مختبر الأداء التفاعلي Interactive Performance Laboratory في جامعة جورجيا لدراسة العلاقة بين الأداء الحي والوسائط التفاعلية . والمختبر منشأة مادية – استديو إنتاج مشترك ومكان لفصل دراسي – علاوة علي أنه برنامج للبحث والتعليم . ويتميز المختبر بمجموعة واسعة من أجهزة الاستشعار التي تكشف الحركة والتقارب واللمس والإضاءة . ويحتوي أيضا علي أجهزة وبرامج ضرورية لاستخدام معلومات الاستشعار للإشارة (مباشرة أو بشكل غير مباشر) إلى الأصوات والصور المعروضة والمحركات أو أي أجهزة كهربائية أخرى . وأكثر هذه التقنيات تطورا هو نظام التقاط الحركة بست درجات من الحرية، التي أصفها بتفاصيل أكبر فيما بعد . 
 يؤدي ظهور التقنيات التفاعلية المستخدمة في المختبر إلى أشكال فنية جديدة تتجاوز حدود الانضباط التقليدية . ولعل أول أهداف المختبر هو السماح للطلاب بدراسة الإمكانية الدرامية لهذه الأنواع الفنية . ففي كثير من الأعمال التي أنتجها المختبر، يتفاعل المتفرجون مع الشخصيات الافتراضية أو الآلية ؛ فبعض الأعمال تعمل علي مستوى أقل حرفية لاستدعاء اقتراح من الشخصية أو اشارة من الحدث الدرامي . ويتم تصميم هذه الأعمال النحتية والتنصيب للمسارح ولكن للمعارض والمواقع الخاصة . والهدف الثاني للمختبر هو استكشاف طرق استخدام التكنولوجيا التفاعلية لعرض النصوص الدرامية في المواقع المسرحية التقليدية. وبينما أعتبر أن كلى جانبي عمل المختبر بنفس القدر من الأهمية، فان موضوع هذا المقال سوف يركز علي المسار الأخير للبحث . 
 وللمختبر هدفين أساسيين في تجاربه المسرحية: 
1) مزج الوسائط الرقمية في المسرح بدون المساومة علي تلقائية الأداء الحي . 
2) جعل الوسائط ذات معنى درامي – بمعنى آخر، استخدام الوسائط بقدر ما تعزز معنى النصوص الدرامية . ومفتاح هذا الهدف الثاني هو اختيار النصوص التي التي تكون التكنولوجيا فيها جزء لا يتجزأ من التفسير التوجيهي المقنع بدلا من استخدام العرض كذريعة للتباهي بالتكنولوجيا . 
 وقد أخرجت حتى الآن ثلاثة عروض بالاشتراك مع المختبر . استكشف كل عرض منها مجموعة جديدة من العلاقات بين الأداء والوسائط، مع انتشار الوسائط وتفاعلها بشكل متزايد. 

التفاعلات الوسائطية: عرض «الشعر Hair»
 في عام 1968، كان العرض المسرحي الموسيقي «الشعر» مميزا لفائدته، من حيث الشكل والمضمون، ولاسيما بالمقارنة إلى العروض المسرحية الموسيقية السابقة في مسرح برودواي. إذ تناول القضايا الاجتماعية الملحة مثل حرب فيتنام، وحركة الهيبيز والاستخدام الترويجي للمخدرات، والعلاقات العرقية، وتضمن النماذج الموسيقية المعاصرة مثل موسيقى الروك وتقنيات الأداء المسرحي التجريبي عند جماعات مثل المسرح الحي the Living Theater والمسرح المفتوح Open Theater. ولكن بحلول الوقت الذي قدم فيه مختبر الأداء التفاعلي عرض «الشعر» في خريف عام 1997، أصبح هذا العرض أبرز أعمال الفترة . وقد كان أحد أكبر تحدياتي كمخرج هي إيجاد طريقة لجعل المسرحية حيوية، وملائمة لكل الجمهور التي يتكون في مجمله من الطلبة الذين لم يكونوا موجودين عندما ظهرت هذه المسرحية لأول مرة . وقد كان استخدام المختبر للتكنولوجيا، في جانب منه، استجابة لهذا التحدي . إذ استخدم المختبر الرسوم المتحركة التي يولدها الكمبيوتر والفيديو الرقمي لجذب الجمهور إلى عقول الشخصيات، ولاسيما من خلال اظهار أحاسيس وصور الهلاوس التي تسببها المخدرات . 
 وقد تضمن العرض تتابعين يمزجان الوسائط الرقمية . الأول حدث أثناء الافتتاحية الأصلية التي تبلغ مدتها عشر دقائق الذي عرضت عام 1997 . وتؤطر هذه الافتتاحية المسرحية الموسيقية باعتبارها ذكريات حياة «بيرجر « الماضية . وبيرجر هو القائد السابق لجماعة الهيبيز، وهو الآن في سن الخمسين، وقد جاء إلى جامعة جورجيا لإلقاء محاضرة عن أسلوب الحياة الذي تخلى عنه منذ فترة طويلة، ومن أجل الترويج لكتابه الجديد الذي يحمل عنوان « قص شعرك: أسطورة 68 Get a Haircut: The Myth of 68 “ . وقد عرضت شاشة من خلفه شريحة لصورته في شبابه أثناء انخراطه مع الهيبيز، بينما يلقي المحاضرة . فمن ناحية، عادت الشريحة إلى الحياة فجأة وأعلنت أن المخدرات التي تناولها بيرجر في شبابه « لن تخرج أبدا عن نظامك « . وبعد الانفجار في تدفق مخدر من الألوان والصور، عادت الشريحة إلى وضعها الجامد الأول . ثم عادت إلى الحياة مرتين أخريين للاستجابة للممثلين وفي الناحية ساعدت إقناع بيرجر باحتضان ماضيه وينضم من جديد إلى جماعته القديمة . وينتهك هذا المشهد بشكل هزلي افتراضات الجمهور حول الحالة الوجودية للصورة المعروضة . ولم تنجم صدمة الجمهور من مجرد الحركة غير المتوقعة داخل الصورة الثابتة ظاهريا، ولكنها تنبع بشكل أعمق من قدرة هذه الصورة منذ الماضي علي التفاعل مع الحاضر .
 امتد الاستخدام الأكثر شمولا للوسائط في العرض لمدة ثمانية عشر دقيقة من المشاهد والقصيرة الأغاني في الفصل الثاني . ويصور هذا التسلسل رحلة المخدرات الجماعية في الليلة التي سبقت ذهاب كلود إلى فيتنام . وقد أدى الممثلون والفرقة الموسيقية كل الأغاني بأنفسهم في هذا التسلسل، الذي بدأ بشاشة عرض خلفية مليئة بالنجوم والكواكب . تنجرف صور الممثلين الستة في خفة داخل وخارج الإطار جنبا إلى جنب مع أشياء مثل رمز السلام المتلألئ وصورة الرئيس ليندون جونسون . وأمام الشاشة، يغني الستة ممثلين أن أجسامهم تطير في الفضاء . وفي هذا المشهد، يوجد عالم المؤدين والشاشة الموجودة علي الأسطح الموازية بدون تفاعل . وفي الشاشة التي تلي، يتم محو الحدود بين المؤدين والشاشة . فمثلا، قفز كلاود بلحمه ودمه خلف الشاشة، وظهرت صورته فورا علي الشاشة وهو يطير بشكل حلزوني إلى أسفل داخل دوامة، وكأنه عبر بشكل سحري الخط الفاصل من خشبة المسرح إلى الشاشة . وفي لحظة أخرى، خرجت الرسوم المتحركة لصورة أبراهام لنكولن من الشاشة، وظهرت دمية خشبية طولها اثني عشرة قدما تتطابق مع التصميم في كل مرحلة، مما خلق الايهام بأن الشكل عبر من عالم الشاشة ثنائي الأبعاد إلى عالم خشبة المسرح ثلاثي الأبعاد . وعندئذ ظهرت صورة جون ويكس بوث علي الشاشة وأطلق بندقيته تجاه الدمية، التي سقطت علي خشبة المسرح في صوت هادر . وفي هذه الحالة بدا أن حدث الرسوم المتحركة هذا يقدم تأثيرا في العالم الحقيقي . وعكست مشاهد أخرى هذه الدينامية، كما حدث عندما قام ممثلون فعليين يلعبون دور الهنود الأمريكيون بإطلاق سهام وهمية علي جنود من رسوم متحركة علي الشاشة مما أدى إلى انفجار الجنود في شرائط حمراء وبيضاء وزرقاء. 
 وقد كان أبرز التحديات التقنية والإبداعية هو المحافظة علي روح الفورية والارتجال الحيوي في المسرحية . وفضلا عن دفع المؤدين الفعليين إلى التوافق مع تتابع الفيديو الخطي، فقد اضطرت الرسوم المعروضة التي تتوافق مع توقيت كل أداء مستقل . وقد أنجزنا مزجا دقيقا بين الوسائط والمؤدين من خلال تقسيم الوسائط إلى عدة مئات من الصور والأجزاء الرقمية القصيرة وحركنا الصور باستخدام لوحة مفاتيح MIDI خارج خشبة المسرح . وفي أغلب الحالات، كان مقطع الفيديو الواحد يصل إلى دقيقتين، ولكن معظم إشارات الوسائط جاءت بوتيرة سريعة وغاضبة . وقد حقق لاعب لوحة المفاتيح خارج خشبة المسرح نفس الوظيفة، باعتباره محرك البيئة الافتراضية في فرقة استكشاف البيئة الافتراضية . ويشرح لانس جرافي « من خلال مراقبة الممثلين الأحياء كان محرك البيئة الافتراضية (في عرض فرقة معهد استكشاف الواقع الافتراضي (i.e.VR) «آلة الإضافة The Adding Machine») قادرا علي التفاعل معهم بحرية والتكيف مع حركاتهم، والتلاعب بسلاسة وصراحة بالعالم من حولهم . فكل من فرقة معهد استكشاف الواقع الافتراضي ومشغل لوحد مفاتيح عرض « الشعر « قد وسّطا التفاعل بين المؤدين الفعليين والوسائط المعروضة، فضلا عن السماح لهم بالتفاعل المباشر . ومع ذلك، يمكننا باستخدام هذه التقنية جعل الوسائط متجاوبة مع الأحداث الحية . فمثلا خلال أحد أجزاء عرض « الشعر «، وبينما يغني المغنون أسماء الألوان، تنزل الألوان الملائمة علي الشاشة مع إيقاع الموسيقي، وخلال لون آخر يتم فتح أفواه من الرسوم المتحركة وغلقها في تزامن مع كلام الممثلين الأحياء . 

لو كان يمكن أن تتكلم الجدران: عرض كاسبار 
 قدمت فرقة مختبر الأداء التفاعلي مسرحي بيتر هاندكه «كاسبار» (1968) باعتباره ثاني عرضها في عام 1999. ويستمد نص هاندكه استلهامه من قصة كاسبار هاوزر الحقيقية، وهو المراهق الذي ظهر بشكل غامض في شوارع نوريمبرج في عام 1828 بعد قضي حياته مقيدا في قبو صغير بدون أي اتصال إنساني . وأضطر أن يتعلم كل شيء من خلال الخربشة: كيف يتكلم، ويستخدم الفضيات، ويرتدي الملابس . وتصور مسرحية هاندكه تلقين الكبار غير المؤهلين اجتماعيا . والمسرحية تجرد السرد بشكل متطرف، إذ تعري قصة كاسبار من أي خصوصية تاريخية . فالمسرحية تخلو بالطبع من كل سياق واقعي: تتجلى تماما في حاضر مسرحي، بدون أي إشارة إلى الماضي أو المستقبل . كما يوضح هاندكه في مقدمة المسرحية، «لا توضح مسرحية كاسبار ما هو الأمر مع كاسبار أو كيف كان الأمر حقا، بل إنها توضح ما هو محتمل مع شخص ما». 
 التكنولوجيا جزء لا يتجزأ من مسرحية هاندكه . في الجزء الأول من المسرحية يقف الممثل لذي يؤدي دور كاسبار وحيدا علي خشبة المسرح حيث تعرض مجموعة من المحفزات كل ما يفعله . وهذه المحفزات التي لا تفصح بشيء عن نفسها، وتقصف كاسبار بالتأكيدات والقياسات المنطقية والكليشيهات والأسئلة التي تمثل أنواعا مختلفة من أفعال الكلام دون أن يكون لها محتوى حقيقي . وهي لا توظف كشخصيات درامية مستقلة . ولم يقسم هاندكه محفزات النص بين مختلف الأصوات، ويفوض هذه المهمة للمخرج . ولا يرى كاسبار ولا الجمهور هذه المحفزات . فهي توجد كأصوات غير مجسدة تصدر من متحدثين . وبالنسبة لكاسبار نفسه، الذي لن يرى أي إنسان، فلابد أن تبدو الغرفة نفسها وكأنها تتحدث، وكان الفراغ له واسطة . 
 وقد توسع عرض مختبر الأداء التفاعلي في فكرة الفضاء التكنولوجي الموجود في نص هاندكه . فقد ولّد الصوت جازي كمبيوتر من نوع ماكنتوش وعرضا الصور، وأضواء من نوع اللد LED المسيطر عليها مزروعة في ملابس الممثلين، وتتابع المجسات المزروعة في الأثاث . وقد تكامل هذا الاستخدام للتكنولوجيا مع تفسير العرض لمسرحية هاندكه . وقد تجلت البيئة الغنية تقنيا والذكية علي خشبة المسرح في السيطرة الشاملة المجهولة وغير الإنسانية للمحفزات علي كاسبار . وقد وضح العرض الإمكانيات التقنية البائسة التي استخدمها النص، إذ استخدم التقنيات ضد نفسها . 
 وطوال المسرحية، ملأت صورة مقلة العين الشاشة علي شكل عدسة في الجزء الخلفي من خشبة المسرح . ومقلة العين هذه التي يتحكم فيها مشغل الكمبيوتر خارج خشبة المسرح، تتبعت كاسبار أينما ذهب، مما يشير إلى مراقبة المحفزات التي لا مفر منها . وتغلق العين بشكل دوري وتعرض الشاشة الصور من أجل كاسبار . فمثلا في مرحلة ما من المسرحية، يلقي المحفزون جملا نموذجية لكاسبار لكي يحاكيها . وفي عرض المختبر، تنطق صورة كاسبار المعروضة علي الشاشة هذه الجمل ويحركك شفتيها تجاه أصوات المحفزين (من الذكور والإناث). وفي جزء آخر، بينما يشجع المحفزين كاسبار علي ترتيب قطع الأثاث العشوائية إلى التشكيل المنزلي التقليدي، تظهر صورة تخطيطية لكل قطعة أثاث علي الشاشة في مكانها الملائم وتومض حتى يضعها كاسبار بالشكل الصحيح . 
 في أمثلة الوسائط في عرض كاسبار الذي ناقشته حتى الآن، تم توسيط التفاعل من خلال مشغل الكمبيوتر، كما حدث في عرض « الشعر « . وفي موضع آخر من العرض، رغم ذمك استخدمنا مجسات لتقديم تفاعلات غير وسيطة بين المؤدي الحي والوسائط . 
 وقد دخلت المجسات في المسرحية علي نطاق واسع أثناء المشهد المبكر الذي يفحص فيه كاسبار كل قطعة أثاث علي خشبة المسرح، الواحدة تلو الأخرى، بدون مفاهيم مسبقة عن الهدف التقليدي لهذه الأشياء . وقد انبثقت رغبتي في اخراج المسرحية من هذا المشهد، والذي كان في قلب مفهومي للعرض ككل . فالنص محدد فيما يتعلق بالكيفية التي يتفاعل من خلالها الممثل مع كل قطعة أثاث: يفتح كاسبار درجا ويغلقه، ويدفع الكرسي حول الغرفة، يحرك كرسي هزاز، يفك مسامير طاولة .. الخ . يتعلم كاسبار أن يحدد الأشياء من خلال تطوير علاقات معها، ويتعلم منها . تمد المسرحية المحفزين باللغة لمصاحبة تفاعلات كاسبار مع كل قطعة أثاث . ويتبني النص المكتوب تقاليدا غريبة، اذ يطبع ارشادات خشبة المسرح لكاسبار في العمود الأيسر من الصفحة، والسطور المطابقة للمحفزين علي اليمين . وتتداخل لغة المحفزين لكي تحدد علاقة كاسبار مع الأشياء المادية . في الواقع يهب المحفزون أصواتهم للأشياء، ويحولون الأشياء إلى امتدادات لأنفسهم . وتصبح الغرفة بأكملها حضورا آليا (حضور سايبورج) .
 وباعتباري مخرجا كنت منبهرا بالتفاعل الثلاثي بين كاسبار وقطع الديكور ولغة المحفزين . ولشحذ هذا التفاعل، أردت أن أجد طريقة للسماح لهذه الأصوات أن تتفاعل تلقائيا مع حركات كاسبار . واخترنا مجسات معينة يمكنها ضبط ذلك عندما يتم تناول قطعة أثاث بالطريقة التي تحددها إرشادات خشبة المسرح في نص هاندكه . فاستخدمنا مثلا مقياس للتسارع للإحساس بحركات الكرسي الهزاز، ومقاومات حساسة للضغط للكشف عن الوقت الذي يضغط فيه كاسبار علي وسائد الأريكة . وقد تغذت هذه المجسات من الكمبيوتر مباشرة الذي أدى التتابعات الصوتية الملائمة عندما كان كاسبار يتفاعل بشكل ملائم . فمثلا في اللحظة التي هز كاسبار الكرسي الهزاز، يسمع الجمهور النص المطابق من خلال المتحدثين: وفي اللحظة التي يتوقف تتوقف الكلمات . وبهذه الطريقة، حولت التكنولوجيا قطع الأثاث إلى صندوق جلدي كبير يهيئ كاسبار من خلال تعزيز السلوك الصحيح فقط بشكل تلقائي. 
 وبالمثل، خلال المشهد الذي يدرب فيه المحفزين كاسبار علي الكلام، استدمنا صوت كاسبار لتحفيز الوسائط . واكتشف كاسبار تدريجيا انه يمكنه تغيير أصوات المحفزين عن طريق التحدث ببساطة وأن الأصوات يمكنها استئناف الكلام بمجرد أن يصمت . وقد وفرت هذه الآلية ما يسميه علماء النفس السلوكيين «التعزيز السلبي negative reinforcement : أوقف السلوك المطلوب (كلام كاسبار) التحفيز السلبي (لغة المحفزين التي لا تهدأ) . وبمجرد أن اكتسب كاسبار الثقة في هذه التقاليد وبدأ يستمع بالسيطرة علي بيئته، غير المحفزون القواعد واستخدمت صوت كاسبار كمفتاح تشغيل بدلا من ذلك: أصوات المحفزين بدأت عندما بدأ كاسبار في الكلام وتوقف عندما توقف . وبربط كلام المحفزين بالتكنولوجيا بهذه الطريقة، كثف العرض ما يسميه هاندكه « معاناة خطاب المحفزين «، وهي العملية التي يكسر من خلالها المحفزين كاسبار لإعادة بنائه علي صورتهم . 
 ومن غير المجدي دمج المجسات الوظيفية في قطع الأثاث إذا لم يلاحظ الجمهور أن القطع متصلة بأسلاك وأن البيئة كانت تستجيب مباشرة لأفعال كاسبار. وقد أصبحت الكابلات الحمراء التي تربط القطع بالكمبيوتر ملمحا بارزا في تصميم القطع، التي صممها الطالب في المصادقة متعددة العوامل MFA جيسون ليك . ففي بداية المسرحية، امتدت الكابلات من كل قطعة إلى شبكة الإضاءة في مسارات مائلة متقاطعة ، مثل الخيوط في أحد عروض ريتشارد فورمان . في النهاية بعد أن رتب كاسبار قطع الأثاث وفقا لمواصفات المحفزين، امتد كل كابل مباشرة إلى أعلى، ويصدر نموذجا مرتبا من الخطوط المتوازية . ووظفت بشكل دلالي وعملي، مع الوظيفة الدلالية التي تبرز الوظيفة العملية . 
 ومع ذلك لم تستطع صور الكابلات نفسها أن تنقل التفاعل الحقيقي للبيئة للجمهور . اذ كان لا بد أن يرى الجمهور كاسبار نفسه يكتشف أن التفاعل مستكشف مؤقتا، يسيطر في النهاية علي العالم المصطنع من حوله . بمعنى آخر، بالنسبة لأجزاء المسرحية الممتدة، وظفت الأشياء التقنية كشركاء للممثل الفعلي . ونتيجة لذلك، لم تكن التكنولوجيا التفاعلية شيئا نضيفه، مع إضاءة خشبة المسرح، أثناء التدريبات التقنية النهائية . فلم يستطيع الممثل أن يكرر امتدادات طويلة للمسرحية قبل أن تكون التكنولوجيا في مكانها علي الأقل . فقد بدأ العمل مع الطرز الشائعة من قطع الأثاث، والمجسات والوسائط التي حفزوها في التدريبات الأولى . لقد عزز هذا المبدأ العام المتعلق باستخدام التكنولوجيا التفاعلية في الأداء الذي أسميه “مفارقة المتفاعلين the paradox of the interactor “، وكلما تدرب المؤدي بصرامة، تعرّف الجمهور علي قدرة البيئة علي الاستجابة بشكل دينامي وتلقائي لأفعال المؤدي . فالمؤدي يجب أن يعلم الجمهور أن يفهم التقاليد التي تحدد التفاعل من خلال البدء ببطء مع أبسط التفاعلات (مثل تشغيل الصوت أثناء قيامي بهز الكرسي) قبل أن أتحرك إلى تفاعلات أكثر تعقيدا . 
..................................................................................
•ديفيد سولتز : أستاذ مساعد للدراما ومخرج مختبر الأداء التفاعلي في جامعة جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية . 
•نشرت هذه المقالة ضمن منشورات جامعة جون هوبكنز –مجلة theater topics , v. 11 , no 2 , September 2001


ترجمة أحمد عبد الفتاح