قيصر مقابل أبي الهول.. في (قيصر وكليوپاترا) لبرنارد شو

قيصر مقابل أبي الهول.. في (قيصر وكليوپاترا) لبرنارد شو

العدد 733 صدر بتاريخ 13سبتمبر2021

  • “في ذلك العالَم الصغير البعيد يا أبا الهَول، منزلتي رفيعةٌ كمنزلتِك في هذه الصحراء العظيمة. لكنني أنا أتجوّلُ وأنت جالسٌ ساكِنًا، وأنا أغزو وأنتَ تتحمّل، أنا أعمل وأتعجَّب وأنتَ تراقبُ وتنتظِر، أنا أنظرُ إلى أعلى وأندهش، وإلى أسفلَ وأنطفئُ، وأنظُرُ حولي وأتحيَّر، بينما عيناك لا تتحوّلان أبدًا عن النظر إلى خارجِ هذا العالَم، إلى العالَم الآخَر المفقود الذي شرَدَ منه كِلانا.”

     هكذا أنطقَ (شو) بطلَه (يوليوس قيصر) في حضرة أبي الهَول، في مُناجاةٍ ربّما تُعَدُّ الأكثرَ شاعريّةً بين ما قرأتُه من مسرَح الأديب الأيرلندي العظيم. كتبَ (شو) هذا النصَّ عام 1899، وأدرجَه في كتابه (ثلاثِ مسرحياتٍ للتطهُّرِيِّين Three Plays for Puritans) الصادر عام 1901. والتّطهُّر الذي عَناه وشرحَ مقصِدَه منه في مقدمة الكتاب الضافية هو التطهُّر من رغبة المسرحِيِّين المُعاصِرِين له في إثارةِ عواطِف الجمهور بتقديم أنماطٍ مقولَبَةٍ من الشخصيّات داخِل حبكاتٍ محفوظةٍ لا يفتؤون يكررونَها، فهو يَعُدُّ هذه الإثارةَ هدفًا رخيصًا، ويتّجِه بجِماع فكرِه إلى مخاطبة عقل المُشاهِد والقارئ من خلال قراءة الأحداث التاريخيّة في ضوء الحِسّ المُشتَرَك الذي ينفَذُ مباشَرةً إلى كُنه الأُمور وحقائقِها برَدِّها إلى الخبرات الإنسانية المتواتِرة. وقد أحسَنَ (شو) حِين قالَ عن نَصّه (حَوارِيّ الشيطان) -المُدرَج أيضًا في هذا الكتاب- ضِمن تلك المقدمة: “لم يكن هناك أبدًا نَصٌّ مُؤَكَّدٌ أن يُكتَبَ في نهاية القرن التاسع عشر مِثل (حَوارِيّ الشيطان). لقد كانَت الفترةُ التي نعيشُها الآنَ حُبلَى به.”، ففلسفةُ (شو) المسرحيّة تتجاوَب ورُوحَ عصرِه الفلسفيّة في الجزر البريطانيّة، لاسيّما عند (برتراند راسل) و(جورج إدوارد مور) وأضرابِهما من التحليليِّين الذين رفضوا الميتافيزيقا واعتبرُوا مشكلاتِها لَغوًا باطِلاً وأعلَوا مكانةَ الحِسّ المُشتَرَك. أي أنهم بطريقةٍ ما قرروا أن يَضرِبُوا صفحًا عن السماء وأن يُحدِّقوا في الأرض. 
 أما مفتتح المسرحية الذي أدارَه كاتبُنا في معبد (رع) في (منف) – وهو خطأٌ تاريخيٌّ تغفرُه له أوربّيّتُه وطفولةُ المعرفة بالتاريخ الفرعونيّ آنّذاكَ مُقارنةً بيومِنا، حيثُ نعرفُ الآنَ أنّ (منف) على الأرجَح لم تَضُمّ معابِد لـ(رع) بالتحديد، وأنّ مدينةَ (رع) الأهَمّ والأقدم هي (أون/ هليوپوليس/ عين شمس) – فإنّه يتكون من حديثٍ طويلٍ يوجِّهه (رع) إلى الجمهور البريطانيّ الحاضر في المعبد، وخلالَه يسخَر (شو) من الذائقة الدراميّة السائدة فيقول بلسان (رع): “هل أنتم مشتاقُون إلى قصّة امرأةٍ فاسقة؟ أيُّها الحَمقَى! هنا كليوپاترا مازالت طفلةً تُعاقِبُها مُرَبِّيَتُها.” وخلالَ أحداثِ المسرحيّة نشهَد رحلةَ نُضج الملِكة البطلميّة المتمصِّرة. تبدأ كمُراهقةٍ غريرةٍ في السادسة عشرة تلتقي (يوليوس قيصر) الذي تجهلُ هُوِيَّتَه عند قدمَي أبي الهول، وتُسِرُّ إليه بخوفِها مِن مجيء الرُّومانِ الذين يأكُلون البشَر، وقائدِهم (يوليوس) ذي الأنف الشبيه بخرطوم الفيل، ذلك الذي كان أبوه نَمِرًا وأُمُّه جبلاً مُستَعِرا. وتنتهي بامرأةٍ فوق السادسة عشرة بأشهُرٍ قليلةٍ، لكنّها تملِك من الثقة بنفسِها ما يهيئُها –في رأيها- لأن تَحكُمَ مصر كملِكةٍ حليفةٍ لأستاذِها يوليوس بعد أن تزيحَ قُوّاتُ هذا الأخيرِ أخاها بطليموس الثالث عشر من طريقِها. هذا عن كليوپاترا، أمّا قيصَرُ نفسُه فهو رجُلٌ لم تتغيّر قَناعاتُه ومبادئُه في رحلة المسرحية القصيرة، ففي الفصل الثاني في قصر بطليموس، يُقابِلُ (لوسيوس سپتيميوس) الجنديّ الرومانيّ المرتزِق الذي استعان به البطالمةُ ليَغتالَ قائدَه السابق (پُمپي الأكبر) عدُوَّ (قيصر) ومنافسَه، وتَعافُ نفسُ (قيصر) مُصافحةَ (لوسيوس) لخيانتِه قائدَه. وفي الفصل الرابِع قُربَ النهاية يَثُور (قيصر) حِين يَعرفُ بصَنيع كليوپاترا حيث دبَّرَت اغتيالَ (پوثينوس) الوصيّ على عرش أخيها (بطليموس)، رغم العداء السافِر الذي أظهرَه پوثينوس لقيصر. هل يعني هذا أننا أمام بطلٍ عظيمٍ ينفّذ مِن قبل أن يُولَدَ المسيحُ وصيّةَ المسيح: “أحبُّوا أعداءكم، بارِكُوا لاعِنِيكم، أحسِنُوا إلى مُبغِضِيكُم”؟!
     نقفز إلى الفصل الأخير لنُجيب. يكتشف (قيصر) وهو على وشك مغادرة مصر إلى روما أنّ كليوپاترا تلبس ثوب الحِداد لأنّ (روفيو) الضابط الروماني المقرَّبَ منه قد قتلَ مربّيتَها (فتاتاتيتا) التي نفّذَت مؤامرة اغتيال پوثينوس. يسألُه ضابطُه:
- إن قابلتَ أسدًا جائعًا في طريقِك، ألا تعاقبُه لأنه أرادَ أن يأكُلَك؟ 
- لا.
- ألا تنتقِم إذَن لدماء مَن أكلَهم هذا الأسد من قبل؟
- لا.
- ولا تحكُم عليه من أجل إثمِه؟
- لا.
- فماذا تفعلُ إذَن لتنقِذَ حياتَك منه.
- أقتلُه يا رَجُل. دُونَ ضغينةٍ، بالضبط كما أرادَ أن يقتُلَني.
     هكذا يتبيّن أنّ مسوّغات العظَمة التي أرادَ (شو) أن يُظهِرَها في بطلِه (قيصر) تتمحور حول التحرُّر من المَشاعر التي يعتبرُها رخيصة. هو لا ينتقِم ولا يعاقِب ولا يُنَصِّب نفسَه قاضيًا لأعدائه، إنما يفعل ما يجب أن يُفعَل ليحتفظ بحياتِه ومِن ثَمّ ليحتفظ للإمبراطورية الرومانية الوليدة بحياتِها. وهذا التحرُّر من المشاعر هو الوجه الآخَر لمفهوم التطهُّر الذي رمى إليه (شو). هو ليس تطهُّرًا مسيحيًّا ينظرُ إلى العالَم الآخَر ويرتقبُ ملكوت السماوات ويخشى غضبَ الإله، وإنما تطهُّرٌ يبتكِر أخلاقَه انطلاقًا من التَّرفُّع عن مخافة العقاب وانتظار الثواب، فهي أخلاقٌ تشبه كثيرًا الأخلاق الرِّواقيّةَ، غيرَ أنّ الرواقيِّين - كما يقول عنهم (نيتشه) – يُسقِطون إرادةَ القوّة، بينما لا يبدو (قيصر) زاهدًا في هذه القوة. وهي بالأحرى أخلاقٌ تشبه أخلاق الإنسان الخارق الذي بشَّرَ به (نيتشه).
     ولعلّه مما يُشير إلى أنّ هذا مقصودُ (شو) من رسم شخصية (قيصر) على هذه الشاكلة أنّ كليوپاترا في حديثِها مع صويحباتها عن قيصر تقولُ إنه إلهٌ، كما تستنكِر في حديثِها مع پوثينوس أن تكون قد عشِقَته لأنه لا يمكن لإنسانةٍ أن تعشقَ إلهًا! وهي تسوّغ هذا التأليه بأنّ قيصر لا يُوجِّه إليها طِيبتَه انتظارًا لما ينتظره الرجال من النساء، فهو طيِّبٌ بالقدر ذاتِه مع عبدِه (بريتانوس)، بل مع حِصانِه! هكذا يرفعُ (شو) قيصرَ إلى منزلة الإنسان الخارق Übermensch/ Superman. وما نعرفُه من حديث (وِل ديورانت) في قصة الحضارة عن الصعود الرومانيّ في زمن الجمهورية وبداية العهد الإمبراطوريّ أنّه وثيقُ الصِّلة باعتناق الدولة الرومانية ذاتِها للمبادئ الرّواقيّة، فهي دولةٌ زاهدةٌ في فُضول الترَف والرفاهية، تصرِف همَّها إلى توفير ضرورات الحياة لمواطنيها ورعاياها، وأولوياتُها الخبز والسّلام كما يشهد بذلك مبدآ (رعاية أنُّونا Cura Annonae) الذي كان يقضي بتوزيعٍ عادلٍ للحبوب على كل أسرةٍ في روما، و(السلام الروماني Pax Romana) الذي امتدّ لقرنين من الزمان منذ بداية صعود (أوكتافيان أغسطس) إلى سُدّة العَرش بعد أن مهّد له (يوليوس قيصر) أبوه بالتّبَنّي، وذلك بالقياس إلى تواتُر الحروب قبل هذه الفترة في حوض البحر المتوسط. ولعلّ مظهَرًا مهمًّا من مظاهر زُهد تلك الدولة الفَتِيَّة في الترَف يتمثّل في علاقتِها السطحيّة بالفنّ، قِياسًا إلى علاقة الحضارة اليونانية العميقة بكلّ حقول الفنّ. هكذا يحدّثنا المؤرّخ اليونانيُّ (پوليبيوس) عن افتراش جنود الرُّومان لَوحاتِ فنّاني كورنثوس بعد انتصارِهم على تلك المدينة اليونانية، ولَعِبِهم الداما والنَّردَ عليها، وهكذا يدور الحديث في الفصل الأخير مِصداقًا لهذا الأمر بين قيصر وأپولّودورُس الصِّقِلّي تابع كليوپاترا المُخلِص:
- أپولّودورُس: أفهمُ يا قيصر. لن تُنتِج روما فَنًّا بنفسِها، لكنها ستشتري أو تأخذُ كُلَّ ما تنتجه الأمم الأخرى من فَنّ.
- قيصر: ماذا؟ روما لن تُنتِجَ فَنًّا؟! أليس السلامُ فَنًّا؟ أليست الحَربُ فَنًّا؟ أليس الحُكمُ فَنًّا؟ أليست الحضارة فَنًّا؟ سنعطيكم كُلَّ هذا مُقابلَ القليل من الزِّينة. أنتم الرابحون في هذه الصفقة.  
والحَقّ أنّ هذا الحِوار يُحيلُنا مباشَرةً إلى ما يقولُه (شو) في المقدمةِ، من أنّه على ولَعِه بالفنون الجميلة لن يتواني في اعتبارها سياسةً حكيمةً أن تُفَجَّرَ الكاتدرائيّات جميعًا بما فيها من آلات الأرغن، لو أنّ الفَنّ تحوّل إلى أداةٍ لعبادة الحِسِّيَّة، غيرَ عابئٍ بصُراخ نُقّاد الفَنّ والشهوانيِّين المُثَقَّفِين!
انتهاءً، يبدو لي أنّ مناجاة قيصر لأبي الهول التي افتتحنا بها هذه القراءة القصيرة تُشيرُ إلى ما يراه (شو) من فُرقةٍ بين الرّواقِيّة التي خرجَت مِن رَحِم اليونان – والتي يُقالُ إنها مهَّدَت العالَم القديمَ لرسالة المسيحيّة – وبين المسيحيّة والديانات الإبراهيميّة بعامّةٍ، تلك التي وُلِدَت في الشرق وعينُها على العالَم الآخَر لا تتحوّلُ عنه، تمامًا مثلَ أبي الهول الثابت في صحرائه، في مقابلِ قيصر المِقدام الذي لا يُعيرُ العالَم الآخَر اهتمامًا يُذكَر. إنها الفُرقة الّتي يلخّصُها د. زكي نجيب محمود في كتابه (قِيَمٌ من التراث) بقولِه: “بينما أُسُس الحياة الخُلُقية نراها نحن وكأنها هبطت إلينا من السماء، فقد يراها سِوانا وكأنها نبتت لهم من جَوف الأرض.” ويبقى هذا النَّصُّ المسرحيّ قابلاً لإعادة القراءة والاشتباك معه، شاهدًا على أصالة فِكر (برنارد شو) الذي قد نختلف معه جذريًّا، لكن لا يَسَعُنا إلاّ أن نسجّل احترامَنا لجرأته الأدبية وتحدِّيه للذائقة السائدة في سبيلِ إنسانيّةٍ أرقى.


محمد سالم عبادة