التقمص والمسرح(1-2)

التقمص والمسرح(1-2)

العدد 548 صدر بتاريخ 26فبراير2018

 

 «القلب له أسبابه التي لا يعرفها العقل»
        باسكال
 «التقمص الجيد لا يمنع الفهم»
            أوجستو بوال

سوف أبحث في هذه الدراسة «التقمص Empathy» بقدر ما يستجيب المشاهد في المسرح. ولا سيما أنني أهتم بالتقمص، ليس فقط باعتباره استجابة عاطفية بل باعتباره موضوعا له وظيفة إدراكية أيضا. وسوف أهتم بشكل رئيسي بفكرة التجربة المسرحية التي تثير التقمص، وتستخدم الاستجابات المتعلقة به باعتباره جزءا من آليات الفهم الفني التي تؤكد الاستجابات العاطفية باعتباره فعالية فريدة ومنطقية أيضا. فموضوع العاطفة في الخيال والفن، وهو بؤرة التركيز الرئيسية في الكثير من الدراسات الحديثة، لم يقدم إلا القليل عن العاطفة في المسرح. وربما ما قيل عن التقمص في المسرح أقل من ذلك بكثير. ومع ذلك، لم يتناول أحد نقد «برتولت بريخت» للتقمص حتى الآن، وهو تحليل فلسفي للتقمص في المسرح. وسوف نحاول أن نقوم باستكشاف تمهيدي للموضوع على أمل استنتاج المزيد من البحث التفصيلي.
بسبب المعاني والتضمينات المتعددة التي تحجب مصطلح «التقمص»، فمن المهم أن نبدأ بالتجارب المرتبطة بالتقمص التي تعنينا هنا. وسوف أتجنب تحليل «فن التمثيل»، وأركز على استجابات المشاهدين وحدها. فنظريات التمثيل التي تركز على علاقة تقمص الممثل بالدور، هي نظريات مهمة ولها علاقة بالأساليب المنسوبة إلى (ستانسلافسكي) ومشتقاتها. ورغم ذلك، فإن التقمص الذي أبحثه هنا يخص المشاهدين المستقلين عن فن التمثيل أو التدريبات على التمثيل التي لن أتعرض لها هنا. الأهم من ذلك، أنني لن أبحث التقمص باعتباره مصطلحا لا زمانيا timeless term بل بالأحرى باعتباره مصطلحا معاصرا للطريقة التي يعمل بها المسرح. بينما أقدم مراجعة مختصرة لتاريخ التقمص، وهدفي أن أفحص كفاءته الحالية وأحدد عوامله المتغيرة. وتسليما بالطبيعة المتكسرة لعالم بدايات القرن الحادي العشرين، من المهم أن تكون فكرة التقمص مفهومة. لأن مغزاها موجود في فكرة كيف يستجيب المشاهدون للمسرحيات والقصص المغايرة لتجربتهم.
أؤكد أن التقمص يسمح لنا أن نسمو فوق حدود عالمنا. فعلى الرغم من أن مشاعري توجد في وعي زماني ومكاني مختلف عن وعي الممثل، فإن التقمص، مع ذلك، يثير خيالي وحدسي وملاحظتي في فعل فهم عالم شخص آخر. فقد يشاهد المتلقي مسرحية عن أناس لهم أسلوب حياة مختلف، ولكن من خلال عملية التقمص التخيلي يتواصل المتلقي مع ظروف الحياة المختلفة عن ظروف حياته بشدة. وهذا هو التقمص الكامن: يسمح لنا أن نتجاوز الحدود فيما بيننا، ولا سيما الحدود الواضحة في هذه اللحظة من تاريخ العالم. وفي كتابه «النظرية الأدبية وادعاءات التاريخ» Literary Theory and The claims of History يطرح (ساتيا موهانتي Satya P. Mohanty) سؤالا مهما «كيف نتغلب على العقبة بين تاريخي وتاريخك؟». وبدون التقمص لا يمكن التغلب على هذه المهمة، فنحن لا نملك إلا تجريدات تفتقر إلى الوضوح في حياتنا. ويقول (موهانتي) «إن لم أفهم، فلن أستطيع – ولن أحتاج نتيجة لذلك – أن أتأمل كيف يلمس مكانك مكاني، أو كيف يتحدد تاريخي مع تاريخك». فنحن نظل منعزلين في أماكننا الفردية. قد يستخدم التقمص كجسر يربط المواقع الاجتماعية المتبادلة. وعلى الرغم من أننا لا نتآلف مع خلفيات وثقافات وأفكار بعينها وهي تتكشف لنا على خشبة المسرح، يساعدنا التقمص في فهمها؛ إذ يمكننا أن نتطابق (نتوحد) مع أولويات شخص آخر، ربما كما تناوله (بريخت)، بحيث يظل ذلك الآخر مضللا أو أحمق؛ إذ يستتبع التقمص بالإضافة إلى التطابق، فهم القيم المتأصلة في تجربة الآخر دون الخضوع بشكل أعمى لتلك التجربة أو الفعل.
يحشد التقمص الإمكانيات فضلا عن القناعات؛ إذ يمكن أن يمارس المشاهدون التقمص بطرق متعددة الوجوه، وقد يرتبط كل منها بمستويات ودرجات اهتمام مختلفة. فلا توجد وحدة في استجابات المشاهدين، ومن المستحيل أن يكون ذلك متوقعا. بل على العكس تماما، تستفيد التجارب المسرحية من الاستجابات المختلطة. ويتأمل هذا المقال وظائف التقمص المتعددة باعتباره طريقة لفهم المسرح البعيد عن التجربة الذاتية الأنانية. ولخدمة هدفنا، سوف نفهم المسرح باعتباره تجربة بين المؤدي والمشاهد. فالمسرح يأخذ شكل الأداء حيث يجسد الممثل دورا (خيالي أو متعلق بسيرة ذاتية) وينقل قصة أو حدث من خلال الإيماءة والصوت. وقد يجسد الممثل إنسانا مثيرا للاهتمام وفعالا، الذي هو ببساطة ليس الممثل ولا الشخصية في حد ذاتهما، بل بالأحرى، كما يلاحظ (مايكل جودمان Micheal Goodman)، الممثل باعتباره الشخصية التي نرتبط بها بطريقة خاصة. ويقول (جودمان) «الشخصية المسرحية الاستثنائية التي تسمى (الممثل باعتباره الشخصية)، هي الأكثر إمتاعا من بين كل الناس الموجودين في الحياة العادية. ولسوف تكون مختلفة أيضا، وسوف تسيطر على اهتمامنا، لأن الممثل كشخصية سوف يكون بارزا بشكل محدد. وسوف يتفق المشاهدون مقدما على قبول الممثل كشخصية داخل القصة التي تظهر لهم أو الطقس الذي يمارسونه».
ولكي يحدث التقمص في المسرح يجب أن تحدث ثلاثة أشياء بشكل عام: أولا، يجب أن يعي المشاهدون من هو الشخص الذي يركزون اهتمامهم عليه، وأين يركزون هذا الاهتمام (حتى لو كان الاهتمام متنوعا وموزعا بين عدة شخصيات). ثانيا، يجب أن يكون هناك نوع من الفهم الأساسي للحدث أو الشخصية (حتى لو كانت مجردة). ثالثا، يجب أن يفهم المشاهدون القصة (حتى لو كانت مفككة أو غير منطقية). وفلسفيا، يكمن حدوث التقمص في سؤال العقول الأخرى، وتحديدا كيف يتسنى لنا أن نعرف ما يحسه شخص آخر أو ما يفكر فيه. ويعرّف قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية (1989) التقمص بأنه قوة إسقاط شخصيتنا على موضوع التأمل (ونفهمه تماما كذلك). ورغم ذلك، فإن إحدى صعوبات تعريف مصطلح «التقمص» (في المسرح أو في غيره) هي غموضه والتباسه: فقد يعني «رد فعل عاطفي» يشارك من خلاله الملاحظ في شعور مماثل مع موضوع التأمل (رغم أنه مختلف عنه تماما)، أو قد يعني رد فعل إدراكي يفهم من خلاله الملاحظ الموضوع لكي يعزز فهمه. تتضمن الحالة الأولى شعورا إنسانيا، بينما تقترح الحالة الثانية، طريقة في المعرفة بدون مشاركة في الشعور بالضرورة. وفي المسرح، يجب أن يفّهم التقمص باعتباره تجربة مشاهد في الاستجابة لحدث أو عاطفة أو ظرف يحدث على خشبة المسرح. وبشكل نموذجي، يتميز التقمص بتوقع متزايد مصاحب لارتباط بآخر (شخصية أو ممثل أو ظرف، وربما الثلاثة مجتمعون). إنه استجابة مؤثرة لقصة أو ممثل أو شخصية تعكس انغماسا أو فهما أو تطابقا أو مشاركة مع مشاعر شخص آخر.
وأؤكد أن التقمص في المسرح يبني إلى الخارج فضلا عن وضع خط في مكان ما لاستبعاد الحدود الخارجية للإنسان. ورؤية التقمص هذه لم تكن فعالة (كما سنلاحظ لاحقا). علاوة على ذلك، من المهم أن نكرر أن استجابات المشاهدين تختلف ولن يمارس الجميع تجربة التقمص بنفس الطريقة (لو مارسوها على الإطلاق). ورغم ذلك، من المفهوم عموما أن ينشأ التقمص في المسرح عندما يدخل المشاهد إلى حدث المسرحية بشكل تخيلي متأثرا إما بالسرد أو بالممثل أو بالشخصية. ولذلك فهي أكثر الطرق قبولا. ولعل أحد أهم قوى المسرح هي قدرته على زيادة الوعي بالطريقة التي يمارس بها الآخرون الحياة. ففي حين تصل الكتب والقصائد والأفلام والفنون التشكيلية والعمارة عبر حدود العقل المستقلة، يملك المسرح القوة الفورية لكينونة حية منغمسة في سلوك وفعل وتعبير أمام مشاهدين يراقبون.
يتحقق التقمص في المسرح بواسطة المتلقين من خلال البديهة والتخيل والذاكرة، حيث يشارك المشاهدون في مشاعر أو ملاحظات أو تجارب ذاتية. ورغم ذلك، أستطيع أن أقترح أن التقمص ليس اندماجا مع آخر (رغم أن البعض يصفه بأنه كذلك)، لأن الاستجابة المرتبطة بالتقمص تفترض اختلاف الذات عن الآخر. فهي تسمح لنا أن نعترف بوجود كينونة أخرى أو وعي آخر في فهمنا الإدراكي، دون أن تذوب ذاتنا داخل آخر. وتختلف درجة وتأثير التقمص وفقا لتنبؤاتنا الفردية وتفاعلنا الذاتي. ورغم ذلك يقوم تحليلي للتقمص أساسا على الحاجة لاختبار طاقة الاتصال الإنساني والتعاون المثمر والتفاعل التبادلي بين القيم والأفكار. ولتعريف مصطلح «التقمص» بشكل تصنيفي، يمكننا أن نقول إن المشاهدين يتقمصون في المسرح بأربعة طرق على الأقل، وهي: التطابق والشفقة والتعاطف والفهم، وهذه الوظائف أو الفروع تعمل على عدة مستويات، وقد يحدث كل منها بشكل مستقل، أو تتداخل فيما بينها. وهذه التصنيفات متبادلة ومرنة وتقدّم بدون ترتيب تسلسلي بعينه:
 يتضمن التقمص اعتقادا بأنني أستطيع أن أجد نفسي في موقف مماثل لموقف الممثل باعتباره شخصية. ولا داعي أن أوافق أو أرفض أفعال أو سلوك هذا الممثل، لكنني وفقا للشروط المعطاة أتخيل أنني أوافق. ويصف (كيندال والتون Kindall Walton) التطابق بأنه يسمح للمتذوق بنوع من تقمص الشخصية، والقدرة على رؤية الأشياء بشكل نقي من وجهة نظرهم من منظور غير مشبع بالاهتمامات الذاتية. ويفضل (كارل بلاتينجا Carl Platinga) انغماس الشخصية في مقابل تطابق الشخصية، لأن الانغماس يسمح بالتقمص والتعاطف والتعاطف المضاد واللامبالاة، ولا يتضمن بالتأكيد عقولا أو هويات متجانسة بين المشاهدين والممثلين. وتحمل أولوياته معنى إذا تأملنا التطابق باعتباره تجربة مطابقة تماما، فقد يعزز التطابق، رغم ذلك، الصلة دون محاكاة أو ضياع تام للذات.
 تتضمن الشفقة أنني أشعر بطريقة ما أن الشخصية تعامل بشكل مجحف. علاوة على ذلك، أشعر أن الإحساس بالعدل ضروري لإصلاح الموقف. وأعني بالعدل النقاء والالتزام الأخلاقي. ولذلك ترتبط الشفقة بالعدل وأحكام القيمة.
 يتضمن التعاطف أنني أشعر أن ألم الشخصية هو الذي يثير شعورا أو رغبة في المساعدة. وهذا يختلف عن الشفقة في أننا ربما لا نهتم بالعدل أو احترام القواعد؛ إذ تكون مشاعري مع مشاعر الممثل وتؤثر في مأزقه.
 يتضمن الفهم فهما لمشاعر الممثل أو موقف الشخصية. فربما أشعر بشيء مع أو ضد الممثل أو الشخصية، ولكنني أستعيد الحكم النقدي، فمثلا ربما لا أوافق تماما على الأفعال التي يؤديها الممثل. وتأمل مثلا موقف لاعب الشطرنج: يجب أن يتنبأ اللاعب الماهر بحركات خصمه، وكلما استطاع أن يتنبأ بعدد أكبر من الحركات، كان ذلك أفضل؛ إذ يحتاج لاعب الشطرنج الماهر أن يتقمص دور خصمه لكي يفوز. التقمص هنا فعل ذهني يضع الذات في مكان الآخر، ليس لكي يقلده بل لكي يفهم، لأن لاعب الشطرنج يسقط أفكاره على رؤية الآخر من أجل الهجوم عليه.
 
 كسر الإيهام البريختي
تشكل المفارقة بين المشاهد المتمرد على التقمص والمشاركة في التقمص أساس رفض (بريخت) للتقمص. فالتقمص طبقا لـ(بريخت) هو استجابة عاطفية زائفة. فهو يرى أن العواطف في المسرح، رغم أنها مرغوب فيها تماما، ليست مفيدة في التأثير في التغير الاجتماعي. وقد أبدى اعتراضه في حوارات Messingkauf بقوله «لا يجب منع الجمهور ولا الممثل من المشاركة العاطفية، ولكن، لا بد أن نترك أحد مصادر العاطفة المتعددة بدون استخدام، أو أن نعامله كمصدر فرعي على الأقل – وهو التقمص. فالتقمص في رأي (بريخت) هو أقل عاطفة مرغوبة لأنه يشوش على التحليل المنطقي والملاحظة الهادئة، ويشغل العقل، وينشأ من الاهتمامات الضيقة، ويحجب الأحكام المطلوبة لتقييم الظروف الاجتماعية بشكل موضوعي.
وتختلف رؤية (بريخت) للعاطفة والتقمص؛ إذ من الغبن أن نصفه بأنه معارض تماما للتقمص؛ إذ قال في افتتاحية إحدى الجرائد في عام 1944 إنه يمكن استخدام التقمص في التدريبات التي يقوم بها الممثلون لإعداد الأدوار. وفي افتتاحية أخرى، يقرر أنه يمكن استيعاب صورة الممثل عبر المطابقة للحياة الفعلية عندما نطبق أسلوبين: أسلوب التقمص، وأسلوب التغريب. لكنه كان لا يثق في التقمص؛ إذ يرى أن التقمص المراوغ والسرد المسرحي دون مراجعة يخلقان تيار وعي يمكن أن يهدم المنطق والرؤية الواضحة. فالعمل في المسرح يحتاج المحافظة على العواطف تحت السيطرة خشية أن يتوه المتلقون، ولذلك يجب مراجعة السرد لتقليل التدفق العاطفي. ومن المؤكد أن نظرياته مهمة: فهي تعزز الهدوء وإبعاد المتلقي عاطفيا عن حدث خشبة المسرح Unemotional spectatorial distancing، وإتاحة مسافة لنوع من الإسقاط الضروري للتقييم النقدي. ورغم ذلك، يعزز أحيانا رفضه للتقمص إلى أقصى مدى.
والنظرية البريختية مهمة، ولكنها مضللة لاعتبارين: أنها تقيد المشاهدين بقليل من الفهم للإيهام المسرحي، وتفترض بإيمان أعمى أن التقمص عقبة أمام التقييم النقدي. أولا، رغم أننا ربما نتقمص المسرحية أو الدور أو الشخصية أو الممثل، فإن كثيرا من المتلقين ليسوا سذجا لافتراض أن الأحداث التي تدور علي خشبة المسرح حقيقية، كما يفترض (بريخت). فقد ترتبط الأحداث التي تدور علي خشبة المسرح بعلاقة ملازمة مع الواقع، ولكن ليس من السهل خداعنا. فنحن (كمتلقين) نقبل الخداع ونقبل باختيارنا ربط الأحداث المقدمة علي خشبة المسرح بالعالم الواقعي.
ثانيا، يستبدل التقمص، وفقا لـ(بريخت) الجو الخانق بالحكم. فهو يقبل الانقسام الواضح الذي يفصل العاطفة عن العقل، مفضلا العقل باعتبار أنه يحقق التغيير الاجتماعي. فالعواطف تضعف، ولا سيما التقمص، والقدرة علي الفعل، وتستنزف رغبة المتلقي في متابعة الحدث السياسي. ولا ينبغي أن تهتم النماذج الدرامية المجسدة علي خشبة المسرح بالتقمص، بل يجب أن يكونوا واعين بالأحرى حتى يكونوا واضحين. ويقول «المشاعر خاصة ومحدودة، بينما العقل شامل ويمكن التعويل عليه. ولذلك أكد علي المسرح التعليمي فضلا عن المسرح العاطفي، ولاحظ أنه كلما زادت السيطرة علي أعصاب المشاهدين قلت فرص تعلمهم. وكلما أغرينا المتلقي أن يطابق تجاربه ومشاعره مع الأداء المسرحي قلّت فرص تعلمه. وتفترض ثنائيته أن الانغماس والتقمص من ناحية، والحكم والمنطق من الناحية الأخرى، يؤثران بشكل منفصل علي العمليات الذهنية. فطبقا لرأيه، بمجرد أن يسيطر التقمص يبتعد المنطق. ولعل أقوى اعتراضاته علي التقمص هو قدرته المزعومة علي بسط سلطانه علي المشاهدين، وحالة النشوة التي يسميها «الاندهاش». ويقول «يدخل الممثلون في حالة نشوة ويأخذون معهم المشاهدين. ويري أن هذه النشوة مضادة للنزعة التعليمية، وأنه إذا تحقق شرط النشوة فلن يتعلم أحد أية دروس».
ومع ذلك، لم تكن افتراضات (بريخت) قابلة للتحقيق، إذ قدم زعما وهميا أنه عندما يتقمص المتلقون يتوقفون عن التأمل. وقد صادر (بول وودروف Paul Woodruff) علي رفض (بريخت للتقمص) لأن استخدامه للتطابق يمنع المتلقي من حرية إصدار الأحكام. وأشار بشكل صائب، رغم ذلك، إلى أن التقمص يمنع لا هذه الحرية. فبالنسبة ل(بريخت) والنقاد بعد البنيويين، يمارس السرد، وما ينتج عنه من عواطف متعلقة بالتقمص، سلطة علي المتلقين ويشل قدرتهم عن الاستفسار عن اتجاه السرد وتأمل قصده. فالمتلقي الأولي، المجرد من الاستقلالية يتوظف بشكل ملائم كمتلقي ناقد إذا وضح له الممثلين القصة باعتبارها مناورة فكرية. ورغم ذلك لو تأملنا التقمص ومطالب بريخت بالموضوعية المنطقية كتوظيف آني، عندئذ قد تقدم القدرة علي التطابق مع موضوع التأمل والابتعاد عنه استجابة أكثر قوة. وقد يضيف إلى مطالبة (بريخت) بمسرح الحدث.
ويري بعض النقاد أن موقف (بريخت) من التقمص لم يكن الرفض التام له. وتحاول دراسة (أنجيلا كوران Angela Curran) لنقد بريخت لجماليات الترجيديا عند أرسطو تعديل تناول (بريخت) للتقمص. إذ تشير إلى أنه في مسرحيته» الأم شجاعة وأولادها» لم يسمح للمشاهدين بتقمص شخصية الأم شجاعة. وتزعم أنه يستخدم التقمص مع الآم شجاعة كوسيلة لكي يتأمل المشاهدون العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى هذا الفقد، وماذا يجب أن نفعل من أجل تغييره. ورغم ذلك تدافع (كوران) في النهاية عن تناول (بريخت) للتقمص (إذ تدمج مصطلحين في معنى واحد)، وتقول إن اهتمامه الأساسي بالتقمص، بمعنى التطابق مع البطل التراجيدي، ومشاركته في عواطفه، مقصور علي منظور الشخصية. ولمعادلة هذا المنظور الصلب يجب استخدام الانغماس المسرحي في ارتباطه بالصيغ الدرامية التي توضح العلاقة بين الحدث الفردي والسياق الاجتماعي. وتتبنى (كوران) فرضية (بريخت) التي تقول إن التطابق المرتبط بتقمص الشخصية يلغي في النهاية المنظورات الاجتماعية، وهو في ذاته غير كاف لتأسيس البيئة الاجتماعية، لأن التقمص لا يمكن أن يغري بالتغير الاجتماعي. إذ يجب أن تقدم بعض الصيغ المسرحية الصريحة الشروط الاجتماعية (مثل الاغتراب والإعلانات والتأثر وتعليق الممثلين علي شخصياتهم... الخ) حتى يمكن أن يفهم العقل ظروف المسرحية وهي تتعلق بشروط العالم الحقيقي.ومع ذلك إذا فشل المتلقون في الاهتمام بالأحداث والشخصيات أو الممثلين، فكيف يجب إثارتهم لكي يتفاعلوا؟ ولماذا يؤثر إظهار البيئة الاجتماعية في التغير الاجتماعي بدون التقمص في نفس الوقت؟.
وأؤكد أن التقمص يعزز فهمنا للظروف الاجتماعية، ويقدم وعيا أكثر بالآخرين، ويعمل بالاشتراك مع العقل لتحفيز الفعل الاجتماعي. فنحن نتقمص «الأم شجاعة» في الواقع حتى نفهم وننقد في نفس الوقت حواز العمل والربح المضللين. ونتقمص يأسها ورغبتها في حياة أفضل، وخياراتها المحدودة حتى عندما نفصل أنفسنا عن حوازها اللامبالي من أجل الربح الذي يكلفها حياة أطفالها. ويرتبط المشاهد بالأم شجاعة من خلال علاقة تقمص، فنحن نفهم أن موقفها الاجتماعي والشخصي – وربما نتأثر بشعور أنه من الممكن أن نفعل نفس الشيء لو كنا في ظروفها – يوحي أن التقمص له طاقة إدراكية وعاطفية أيضا. فنحن نتقمص الأم شجاعة لأننا نشعر بمأزقها (فقد تموت جوعا لو تصرفت بشكل مختلف)، ومع ذلك ننتقدها في نفس الوقت بسبب عماها وتجاهلها للصورة الأوسع. فمنطقنا ومشاعرنا يعملون ككل عضوي في وقت واحد، ويعملون بشكل مضاد أيضا ونحن نشاهد الأحداث علي خشبة المسرح.

العنوان الأصلي لهذه الدراسة هو «Empathy and Theater «، وهي تمثل الفصل الثالث عشر من كتاب «Staging Philosophy: intersections of theater، performance and philosophy والذي صدر عن جامعة ميتشجان عام 2009 - وهي تقع في الفصل الثالث عشر (الصفحات 255 - 277)
ديفيد كريزنر David Krasner: هو مؤلف كتاب الدراما الأميركية (1945 - 2000). وشارك في تحرير عدة كتب مع جامعة ميتشجان عدة منها الكتاب الحالي مع (ديفيد سولتز) وكتاب «المسرح: النظرية / النص / الأداء theater: theory / text / performance) مع الناقدة (أينوش براتر Enoch Brater). ويعكف الآن علي تأليف كتاب «تاريخ الدراما History of Drama مع جامعة يال.
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح