العدد 768 صدر بتاريخ 16مايو2022
يقول لايوس إجري في كتابه الشهير فن كتابة المسرحية «إن الشخصية الضعيفة لا تستطيع أن تنهض بحمل الصراع الطويل المدى داخل النص المسرحي» ولهذا كان ينصح باستبعاد هذه الشخصية من الأدوار الأساسية، لكن ما نسجه «ماكس فريش» في نصه «قصة حياة» يُعد تمردًا قطعيًا على هذه المقولة، حيثُ انتصر لصالح الشخصية الضعيفة «كورمن الكبير» فحصر حولها الصراع العام للنص، ولعل القارىء الجيد للنصوص المسرحية قد يشعر بالشفقة تجاه مخرجي هذه النوعية من الأعمال والذي سيحمل على عاتقه عبء تقديم رؤى مُغايرة لها، لكن في عرض «قصة حياة» لفرقة بني سويف المسرحية استطاع المخرج الرائع «السعيد منسي» بإعداده للنص سحب هذا العبء من خلال كشف جماليات النص دون انتهاك فكرته الدائرة حول إعادة تدوير الحياة مرة أخرى لتحقيق ما هو مأمول، بدأ العرض حول شخصية «المُلقن» الذي قام باللعب بالزمن لتغيير تفاصيل حياتية لدى»كورمن الكبير» فأصبح الأخير في مناط افتعال الحدث الخاص به، لكن الثبات في أبعاد الشخصية فرض عليه أن يبقي التفاصيل كما كانت على الرغم من حُريته في اتخاذ القرار في كل مواقفه المُعادة ولقد أثبت المُعد الدرامي ذلك بجملة الملقن «أنت كما أنت وذكاؤك كما هو» .. نجح المُخرج في تصدير رؤيته للمشهد فلا شيء سيتغير من الماضي ولن يُحدث التلاعب بالزمن أي طفرة حدثية تُذكر، فمدير الجامعة ينتظر وحبيبته وزوجته ينتظرون ووالده ينتظر بالدراجة، حتى أمه التي هي طريحة الفراش والتي صدرها «السينوغرافي» في إطار بتولي الشكل حيث أسندت رأسها على المخدة واقفة؛ ظلت تنتظره، لكن عند كل جزئية يفترض فيها أن يتدخل «كورمن الكبير» ليغير حدثًا ما أراد تغييره يعود ليعدل رأيه تماما ويطلب من الملقن أن يتخطى هذا الموقف ذابحًا بذلك مسيرته المفتعلة وتحويلها إلى مأساة قدرية بطلها الاستسلام للماضي بحذافيره، ولقد ظل هذا المنهج مسايرًا لكل التفاصيل التي تتبناها رؤية المخرج طوال العرض، من خلال مستويين الأول «كورمن الأب» وما يجب أن يختاره لتغيير حياته السابقة «مسيرة مُفتعلة» والمستوى الثاني «كورمن الصغير» وهو الماضي الذي لا يتغير أبدًا «المسيرة القدرية»، ويمكننا أن نقول أنه بشكل أو بآخر استطاع المخرج الحفاظ على البطل المحوري « الشخصية الضعيفة» دون إخلال درامي في هذا الصراع طويل المدى، خاتمًا العرض المسرحي بجملة تؤكد كل ما سبق بصوت «كورنر الكبير» (فلتبق الدراما كما كانت) وهي الجملة التي أكدت على أن مخرج العمل يُصر على التصدير الدائم والواعي منه أنه يقدم مسرحا داخل مسرح، وأن الشخصيتين «كورمن الصغير» و»كورمن الكبير» انسلخا من بعضهما، وإلا لختم النص بجملة (فلتبق الحياة كما كانت) وليست تبقى الدراما.. كُليًا رؤية المخرج ظلت طوال العمل تسير وفقًا لامكانياته الاحترافية في استخدام أدواته وتوظيفه المُبهر لكل العناصر حتى أبسطها..
الممثلون قدموا أداءً جيدًا، على الرغم من افتقار القليل منهم لعنصر الخبرة، وقد ظهر ذلك لدى بعض الشخصيات المحورية، عدا «كورمن الصغير» فهو موهبة رائعة ويمتلك قدرة عالية في توظيف إمكانياته رغم بساطتها.
السينوغرافيا، في اعتقادي سببت أزمة فنية على كل الأصعدة، بدء من الملابس والتي وضعتنا في حيرة تامة لوجود هوة زمنية بين الشخوص، وعلى سبيل الذكر ملابس «المُلقن» والتي كانت عبارة عن «جاليه صوف» على قميص مصري وبنطلون جينز محلي الصنع، في حين أن باقي الشخصيات ومنها شخصية «السيدة هبل» كانت ملابسها تنتمي لعصر آخر وهو عصر البريد والخطابات.. وليس معنى أن هناك مسافة زمنية بين حياة «كورمن صغيرًا وكورمن كبيرًا» أن نصنع فجوة زمنية كبيرة بهذا الشكل فالفارق بينهما يمتد من سن الشباب للشيخوخة فقط،، أما بالنسبة للديكور فهناك مستويات متعددة، أولها مستوى الفضاء المسرحي وتوطين الممثل داخل الحبكة الدرامية كان الأمر مزريًا، فكثرة قطع الديكور المُستخدمة كخلفية ليس إلا مثل التروس والبانواهات التي تم رصها في «سميترية فجة» كانت تُشكل ثقلًا غير مبرر على خشبة المسرح بالإضافة إلى «البنواهات» التي رُسم عليها بشكل مباشر دلالات الصغير والكبير XL و XXL .... إلخ،، والتي قلصت المساحة المكانية للخشبة المسرحية خصوصًا وأن المسرح قُسم لمستويين، فكادت هذه القطع الديكورية تعوق حركة الممثلين لولا ذكاء المخرج في اعتماده على التقاطعات الحركية وأيضًا استغلاله لكل فراغات المساحة حتى أن «المُلقن» كان يقف على «السماعات الخاصة بالمسرح، والتي تواجدت خارج حضن الديكور.
على مستوى الدلالة كان الديكور فاضحًا للعرض كما أنه لم يضف شيئًا للفكرة في رأيي، فالتروس وتداخلاتها وطرح تفصيلة الزمن وعجلاته ودائريته والتفاتاته قد طرحها المخرج من خلال إعداده للنص وأيضًا على مستوى الحركة المسرحية، عندما جسد ببراعة شكل الساعة وكان «كورمن الصغير» متخذًا وضعية أحد عقارب الساعة و»كورمن الكبير» أخذ وضعية عقرب آخر وباقي الشخصيات تحولوا للأرقام الاثنى عشر، ليمر عليهم العقربان دلالة على «الدائرية المحتومة» و الزمن المتسلسل بأحداث متنوعة، وببراعة حل المخرج أزمة «نمطية الزمن وتداخلاته» التي طرحها الديكور بفجاجة، فقد رفض المخرج فكرة أن الزمن يسير في خط مستقيم بل له نتوءات وبروز ووقفات، فقام بعمل «لغط صوتي» من خلال جميع الشخصيات التي تداخلت جملها المؤثرة لتصنع فارقًا نفسيًا لدى شخصية «كورمن الصغير» رابطًا كل ذلك بشخصية «السيدة هبل» وجملتها التي كسرت كل حدود الزمن داخل النص
«هناك خطابات يا سيد كورمن ألن تقرأها ؟!»