مايننجن وإبسن ونشأة الواقعية الحديثة

مايننجن وإبسن ونشأة الواقعية الحديثة

العدد 781 صدر بتاريخ 15أغسطس2022

بشكل عام، لم يكن المسرح في أواخر القرن التاسع عشر إلا استمراراً ونتيجة منطقية لما سبقه ولكن تحديداً وبعد عام 1875، نلاحظ أن العديد من الكتاب والمخرجين قاموا بقطيعة مع الماضي.  ومع ذلك، كانت التغييرات في الأساس في البداية محصلة أو تكثيفاً للاتجاهات القائمة بالفعل. فقد برهن الدوق ساكس مايننجن  Saxe-Meiningen على أهمية المخرج القوي الذي يمكنه دمج جميع عناصر الإنتاج في وحدة موحدة.  وفي مجال الكتابة المسرحية، كان إبسن أول من أدرك تمامًا الأهداف التي حددها الواقعيون وجعل الجمهور يدرك أن حقبة جديدة في المسرح قد بدأت بالفعل.  بينما قدم زولا الإطار النظري الذي أخذ الواقعية إلى أقصى أشكالها ممثلة في الطبيعية. وفي السطور التالية، سوف نتحدث عن دور دوق المسرح، دوق ساكس ميننجن وهنريك ابسن.

اسهام دوق ساكس ميننجن 
 ربما كانت فرقة Saxe-Meiningen أهم هذه القوى الجديدة الناشئة، وهم ممثلو دوقية مايننجن، الذين لمعوا وتصدروا في سبعينيات القرن التاسع عشر وأكدوا قيمة الوحدة بالنسبة للتوجه والميل المتزايد نحو الواقعية في المسرح.  وعلى الرغم من أن المسرحيات قد عُرضت باستمرار في دوقية مايننجن منذ أواخر القرن الثامن عشر، إلا أنه لم يكن هناك مسرح بلاط دائم حتى عام 1831، وظلت العروض هناك منتظمة حتى تولى جورج الثاني (1826-1914) العرش في عام 1866. تلقى جورج الثاني، دوق ساكس مايننجن تدريبًا فنيًا مكثفًا، وكان في البلاط البروسي في برلين عندما عمل تيك Tieck هناك، وشاهد عروض تشارلز كين Kane  الشكسبيرية في لندن، وفريدريك هاس في كوبورغ-جوتا، وفرقة انسامبل مسرح بورغ.  وهكذا، فقد تطور اهتمامه الشديد بالمسرح جيدًا قبل أن يجبر الغزو البروسي لميننجن والده على التنازل عن العرش لصالحه.  وعند اعتلائه العرش في عام 1866، بدأ جورج الثاني على الفور في تغيير ريبرتوار مسرح البلاط والاهتمام الشخصي بشؤونه. وفي البداية اعتمد الدوق في ادارته لشؤون الفرقة أساساً على فريدريش فون بودينستيد. وبعد عام 1871 اعتمد على لودفيج كرونيك Chronegk (1837 - 1891).  الذي تدرب كممثل كوميدي غنائي ثم عين في ميننجن  في عام 1866 كممثل كوميدي.  وجاء تعيينه مديراً بمثابة مفاجأة  للفرقة، لأنه لم يكن هناك ما يبرر ذلك في سيرته الذاتية.  ومع ذلك، فإن شهرة الفرقة تدين بالكثير إلى كرونيك مثلما تعود إلى ساكس ميننجن، لأنه لم يكن مديراً مجتهداً فحسب، وانما بسبب تخطيطه لجولات الفرقة. اما العامل الثالث في شهرة الفرقة فكانت الممثلة  الين فرانتس التي أصبحت لاحقاً زوجة الدوق الثالثة،  فقد أصبحت مسؤولة عن اقتراح الريبرتوار وإعداد النصوص والإشراف على الإلقاء المسرحي. ولذلك من الصعوبة بمكان أن نرجع الفضل في نجاح الفرقة، على الرغم من انه يعزى إلى الدوق وحده.
من  1866 إلى 1874 لم تخرج الفرقة من مقاطعة ساكس ميننجن حتى ظهرت عام 1874 في برلين حيث أثارت ذهول المتفرجين. بعد أولي نجاحاتها بدأت الفرقة في إجراء جولات طويلة حيث زارت بين عامي 1874 و 1890 ثماني وثلاثين مدينة في تسع دول هي روسيا  والسويد والنمسا والدنمارك وبلجيكا وهولندا وانجلترا، حيث قدمت 2600 عرضاً ل 41 مسرحية. وبحلول عام 1890، عندما توقفت عن جولاتها، اكتسبت ميننجن احتراماً وتقديراً لم تنله فرقة غيرها في العالم. 
كان الريبرتوار الفرقة يتألف أساساً من أعمال لشكسبير وجريلباتسر Grillparzer جريلباتسر (1791- 1872، وهو كاتب تراجيدي نمساوي من اعماله الجدة الأولى وسابفو، ميلوسينا، الحياة حلم) وشيللر، بالإضافة إلى كتاب رومانسيين من القرن التاسع عشر. ولم يكن مختلفاً كثيراً عن ريبرتوار بقية الفرق اللهم الا انه كان يتميز بتضمنه لعدد أكبر من المسرحيات ذات القيمة الفنية الرفيعة. فقدمت الفرقة الأشباح لإبسن لبضعة مرات لكن المسرحيات المعاصرة الأخرى في الريبرتوار كانت في معظمها أعمالا رومانتيكية شعرية.
  وعلى الرغم من أن عروض فرقة ساكس ميننجن قد اعتبرت أكثر العروض المسرحية دقة من الناحية التاريخية في القرن التاسع عشر، إلا أن الدقة التاريخية لم تكن بالنسبة للدوق غاية في ذاتها. فقد كان هدفه الأساس هو تقديم النصوص المسرحية بأعلى درجة من الصدق. وكان وعيه بما يتطلبه هذا الهدف – يقوده إلى السعي إلى إنجاز نمط من الإيهام التصويري فاق كل المعايير السابقة بفضل دقته الشديدة. فقد قام الدوق بتقسيم كل قرن من الزمان إلى ثلاثة أقسام توخياً للمزيد من الدقة.
وكان الدوق فناناً موهوباً ومصمم مناظر، أدرك قيمة مستويات التمثيل المتعددة على خشبة المسرح .وأدرك أهمية أن تكون المناظر والأزياء والملحقات دقيقة قادرة على الإيهام بالواقع. ومع ذلك، فقد كان تميزه الكبير يكمن في التدريبات (البرو?ات)الطويلة والدقيقة، التي سبق بها ستانيسلافسكي ومسرح موسكو للفنون.
وتركت أعمال الدوق أثرها البالغ في الإخراج المسرحي. فقد كان لمايننجن أثر هائل في عمل ستانسلافسكي في مسرح موسكو الفني واعترف بهذا التأثير الفني القوي للنموذج الذي قدمته فرقة ساكس ميننجن . وأيضاً عمل هنري ارفنج الذي اشتهر بدور هاملت وتأثر بمشاهدة أعمال ميننجن في لندن عام 1881.


هنريك ابسن
بعد نشر مسرحيته الأولى في عام 1850، تم تعيين هنريك ابسن IBSEN (1828-1906)، كاتبًا مسرحيًا مقيمًا ومديرًا للمسرح في المسرح الوطني النرويجي الذي تم إنشاؤه حديثًا في بيرغن عام 1851. وبحلول عام 1857، كان قد ساعد في إخراج 145 مسرحية، وأتم كتابة سبعة كتب خاصة به. وبين عامي 1857 و1862، عمل في المسرح النرويجي في كريستيانيا (أوسلو حاليًا)، وقد عاش خارج البلاد منذ عام 1864 وحتى عام 1891. كتب إبسن 25 مسرحية. وكانت معظم أعماله المبكرة عبارة عن مسرحيات شعرية من التاريخ الاسكندنافي. ومن بينهم ليدي إنجر أوف أوسترات (1855)، والفايكنج في هيلجلاند (1858)، والمدعون (1864). ومع ذلك، تعد براند (1866) وبيرجنت (1867). أهم الأعمال المبكرة. براند، وهي قصيدة درامية، تصور شخصاً مثاليًا عنيداً يضحى بكل شيء، بما في ذلك عائلته، في سبيل رؤاه الخاصة. وأكدت هذه المسرحية مكانة إبسن، ووفرت له الأمن المالي الذي أتاح له العمل بالشكل الذي يشاء. أما بيرجنت فتتناقض بشكل حاد مع براند، لأن بطل المسرحية هنا هو رجل يتجنب المشكلات عن طريق الالتفاف عليها. مزيج ماهر من الخيال والواقع، تم تفسير بيرجنت من قبل الكثيرين على أنها هجاء للشخصية النرويجية. في سبعينيات القرن التاسع عشر، انفصل إبسن تمامًا عن ماضيه عندما أعلن عن نيته في التخلي عن الشعر لأنه لم يكن مناسبًا لخلق إيهام بالواقع. واتضح الاتجاه المستقبلي لعمله لأول مرة مع أعمدة المجتمع (1877)، ولكن مع بيت دمية (1879) والأشباح (1881) و عدو البشر (1882) رسخ إبسن سمعته باعتباره مفكراً راديكاليًا.. وفوق كل شيء، كانت بيت الدمية والأشباح هي التي صدمت القراء المحافظين وكانت بمثابة نقطة حشد لمؤيدي دراما الأفكار. على عكس دوماس الابن Dumas و أوجيه Augier، الذين كتبوا أيضًا عن مواضيع مثيرة للجدل، لم يحُل إبسن مسرحياته بطرق تؤكد الأيديولوجيا التي اعتنقها، وإنما جعل الأيديولوجيا سبب المشكلات واقترح الحاجة إلى تغييرها.  
في بيت دمية، وعندما أدركت نورا بطلة المسرحية أنها، كامرأة، ظلت دائمًا تجهل العالم من حولها وعُوملت وكأنها لعبة، اختارت أن تترك زوجها وأطفالها من أجل التعرف على العالم حتى تتمكن من اتخاذ قرارها بنفسها. وعلى النقيض من ذلك، في الأشباح، السيدة ألفنج، المتوافقة مع الأخلاقيات التقليدية، ظلت مع زوجها الفاسد حتى أصيب ابنهما الوحيد بالجنون، بسبب مرض الزهري الموروث على الأرجح. وهكذا، نالت كلتا المسرحيتين الترحيب على أنهما هجوم على الأسرة والبيت، وهما أسس المجتمع المتحضر، في حين اعتُبرت التلميحات إلى الأمراض التناسلية والفساد الجنسي في الأشباح مسيئة جدًا لمعايير الآداب العامة لدرجة أن المسرحية كانت محظورة من العرض في معظم البلدان.
سرعان ما تحول إبسن إلى اتجاهات جديدة. ففي البطة البرية1884))، وروزمرزهولم (1886) وسيد البنائين (1892) وعندما نستيقظ نحن الموتى (1899) أفاد بشكل متزايد من الرمزية والموضوعات التي تهتم بالعلاقات الشخصية عوضاً عن المشكلات الاجتماعية. ومع ذلك ظلت الثيمة الأساسية لدى ابسن ثابتة نسبياً: وهي الصراع من أجل التكامل والصراع بين الواجب تجاه الذات والواجب تجاه الآخرين. السيدة ألفنج في الأشباح تكتشف متأخراً جداً أنها حطمت حياتها بسبب مغالاتها في الواجب تجاه الآخرين، بينما في العديد من مسرحياته المتأخرة، بينما يسعى الأبطال إلى تحقيق رؤاهم الخاصة فإنهم يتسببون في تعاسة الآخرين ومن ثم تعاستهم في نهاية المطاف. ويصوغ إبسن هذا المفهوم حين يكتب: «إن إدراك الذات هو أسمى القيم، فإذا تعارض هذا مع الصالح العام، فليذهب الصالح العام إلى الجحيم.»
ساهم الكثير من أعمال إبسن في تطوير الواقعية. ففي الدراما النثرية، أعاد تعريف صيغة المسرحية محكمة الصنع well-made play التي وضعها سكريب Scribe وجعلها أكثر ملاءمة للأسلوب الواقعي. فقد تجاهل إبسن الأحاديث الجانبية والمناجاة وغيرها من الأدوات غير الواقعية، وكان حريصًا على تحفيز كل التكشف الدرامي. فغالبًا ما تكون الشخصيات التي عادت للتو بعد غياب طويل، تحصل على المعلومات بطريقة تبدو طبيعية تمامًا من خلال طرح أسئلة حول الأحداث التي وقعت خلال غيابهم. وجميع المشاهد مرتبطة سببيًا وتؤدي منطقيًا إلى الخاتمة. ويتم تحديد الحوار والمناظر والأزياء والمهن لقدرتها على الكشف عن الشخصية و مكانتها الاجتماعية، ويتم وصفها بوضوح في الإرشادات المسرحية. ويتم تصوير كل شخصية على أنها شخصية يُعزى سلوكها إلى قوى وراثية أو بيئية. يتم التركيز أكثر على الدوافع النفسية الداخلية بالمقارنة بالتفاصيل المرئية الخارجية. بهذه الطرق، قدم إبسن نموذجًا لكتاب المدرسة الواقعية.
وأثرت مسرحيات إبسن المتأخرة على الدراما غير الواقعية على نطاق واسع كما فعلت المسرحيات النثرية المبكرة في الأعمال الواقعية. ففيها، تتشبع الأشياء العادية (مثل البطة في البطة البرية) بدلالة تتجاوز معناها الحرفي وتوسع الآثار المترتبة على الفعل الدرامي. علاوة على ذلك، فإن العديد من الأعمال تقترب من الخيال. في روزمرزهولم، يكون الحصان الأبيض الوهمي مهمًا، وفي عندما نستيقظ نحن الموتى، يكون للمرتفعات الجبلية جاذبية لا تقاوم. كان هذا الإحساس بالقوى الغامضة ودورها في مصير الإنسان هو أحد أهم ثيمات الدراما الرمزية.
لقد تأثرت جميع الأعمال الدرامية تقريبًا بعد إبسن، سواء كانت واقعية أو غير واقعية، بقناعته بأن الفن يجب أن يكون مصدرًا للرؤى ووجهات النظر، ومثيراً للنقاش، وناقلًا للأفكار، شيء أكثر من مجرد ترفيه. ومنح الكتاب المسرحيين رؤية جديدة لدورهم. ففي كل مكان يمكن لمسرحيات إبسن أن تجسد الانفصال عن الماضي وأن تكون نقطة انطلاق للمخرجين الباحثين عن مسارات جديدة.

مراجع:
Oscar Brockett & Franklin Hildy, History of the Theatre, Alvin & Bacon, 2003.
Kenneth Macgown & Others, Golden ages of the theater, Prentice Hall, New Jersey, 1979.
روبرت بروستاين، المسرح الثوري، في الدراما الحديثة، ترجمة عبد الحليم البشلاوي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر.


سباعي السيد