التمثيل وعلم الأعصاب.. التمثيل والتاريخ والعلـم (2)

التمثيل وعلم الأعصاب..  التمثيل والتاريخ والعلـم (2)

العدد 847 صدر بتاريخ 20نوفمبر2023

     ونعمل بحرية وحماس مع الجسم عندما نصل إلى المسائل المرتبطة بالصحة الأساسية للممثل والتدريب الحركي والصوتي. وتَتَبعُ كل برامج التدريب مبدأ أننا كلما عرفنا أكثر عن أشياء مثل الآلية الصوتية وعلم الحركة تتصارع الممارسة الحذرة والنظام الغذائي والترطيب والتكيف والراحة على خشبة المسرح،  وكلما كنا أفضل حالا كممثلين كنا أكثر مهارة وأمانا في عملنا. ولكن يتلكأ البعض في التعامل مع الجوانب الفكرية وإحساس الممثل بنفس نوع الصرامة التقنية. ورغم ذلك مثلما يحررنا كممثلين. الصوتي الجيد والتقنية البدنية علم حيوي جيد إن أردت كذلك يمكن للتقنية الأكثر دقة بالنسبة لجوانب حرفة الممثل الأخرى. وعلى الرغم من وجود أرضية مادية – للمخ – للذاكرة والشعور والتشبيه ولإحساسنا بالصدق، فمن الممكن أن يميل فهمنا لهذه الجوانب الأكثر ذاتية أو تفسيرية لفننا للتوقف عند الانطباعات أو النظريات التي يتم تلقيها. وبعضها بلا شك له علاقة بميراثنا الديكارتي والفرويدي. ولكن المقوم الرئيسيّ الآخر أنه حتى الآن لم نعرف بالقدر الكافي أن نمضيّ قدما ، فقد وصل علم الأعصاب في العقود الحالية الى المرحلة التي يمكننا أن نبدأ في النظر إلى هذه الأشياء بطريقة ذات معنى ماديا. وها نحن نبدأ في معرفة ما يكفي عن الكيفية التي يعمل من خلالها الشيء الذي يؤدي الانطباعات والنظريات – وهو المخ نفسه في الجسم. 
     فمن أكون؟ وأين أكون؟ ليست فقط أسئلة نطرحها على أنفسنا كل يوم بطريقة أو بأخرى كبشر وممثلين، ولكنها أيضا المخاوف الأساسية المستمرة لأي كائن يسأل نفسه هذه الأسئلة دائما سواء بوعي أو بدون وعي؛ لأنها تتناول بيئته. وهذه هي الأسئلة التي يحاول الكائن أن يعالج حالة وجوده؛ لكي يحيا بشكل أفضل. ولذلك في محاولة لتحديد إنسنا تاريخيا وثقافيا – لكي يعالج الممثل سؤال “أين أنا؟” في لحظة معينة– وما يلي ذلك استعراض موجز لبعض التطورات الرئيسية في العلم والثقافة في القرن ونصف الماضيين. والهدف هو توفير خلفية لتأمل المسائل التي نعالجها فيما بعد. 
التاريخ: السياق المعاصر 
     إننا نتحرك في سباق متسارع في المائة وخمسين سنة الماضية والتغيرات السريعة المتزايدة في التقنيات والمعرفة هي النظام اليوم فقد مر قرن ونصف منذ أن أصدر شارلز داروين كتابه “أصل الأنواع” عام 1859 الذي غير فهمنا للبيولوجيا ومعنى أن نكون بشرًا بشكل أساسي (بالطبع ظهر مصطلح بيولوجيا لأول مرة بين عامي 1801-1802 في كتابات لامارك وتريفرانوس)، وفي نفس الوقت تقريبا دخلنا مراحل جديدة في مجال علم الأعصاب وعلم النفس. ومن الممكن أن نقول بأن خلفية علم الأعصاب الحديث وضعت في 1861 عندما قدم العالم الفيزيائي الفرنسي بيير بول بروكا أول مقالاته الرئيسية التي بدأت تربط جوانب الإدراك بأجزاء معينة في المخ من خلال وصفه لمدى التلف في مناطق معينة كانت مرتبطة بضعف الكلام، وقام العالم الألماني كارل فيرنيكل بخطوة أخرى في عام 1874 وصف فيها الرابط بين عدم القدرة على فهم الكلام بجزء آخر في المخ. وكانت الخطوة الحاسمة الأخرى في تطور علم النفس باعتباره مجالا جديدا هو تأسيس فيلهلم فونت لأول مختبر لعلم النفس التجريبي في عام 1870، مما يمثل انفصالا نهائيا لعلم النفس عن الفلسفة، فحتى ذلك الوقت لم تكن الفروع قابلة للانفصال نسبيا رغم أنه لن يفكر أغلبنا اليوم بأن الفلسفة وعلم النفس هما نفس المجال. وفي عام 1900 بعد أن ترك فرويد عمله في بحث علم النفس لكي يتبنى التحليل النفسي، ونشر كتابه “تفسير الأحلام» ففي غضون بضعة عقود أصبحت لغته عن ما دون الوعي subconscious العملةَ السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لتأمل السلوك الإنساني والحياة العاطفية، ورغم صعوبة تخيلها قبل فرويد فلم يكن ممكنا أن نتأمل ما دون الوعي أو الدوافع بطرق افترض كثيرون أنها طريقة دقيقة لرؤية حياتنا الداخلية. وفي نفس العام صاغ ماكس بلانكر النظرية الكمية، وبعد عدة سنوات نشر أينشتاين نظريته الخاصة عن النسبية. وفرض كلاهما إعادة تأمل الكون بأكثر الطرق نصف الذرية والعامة التي تبدو الآن شائعة: بالطبع نعرف الآن أن الحدث يمكن أن يكون جزئ أو موجة؛ اعتمادا على كيفية قياسه، والزمن والمكان بالطبع مترابطين، وأن المراقب ليس منفصلا عن الحدث الذي يراقبه، بل هو جزء منه. تتداخل هذه الحقائق في فهمنا وكانت مركزية في أغلب التطورات المبتكرة في المسرح، ولاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة في كل من التكنولوجيا وفي الأدب الدرامي. والحدث البارز الآخر في علم النفس حدث عام 1906 عندما نشر العالم الروسي إيفان بافلوف استنتاجاته عن ردود الفعل الانعكاسية، وأسس مسار المنهج السلوكي في علم النفس والذي ينافس منهج فرويد في التحليل النفسي. وفي نفس العام بدأ ستانسلافسكي تجاربه لأول مرة من خلال تحليل عمل الممثل ووضعه في إطار منهجي. باختصار حدثت ثورة في مطلع القرن الماضي في إحساسنا الأساسي بالجسم والعقل والمشاعر والزمن و المكان. 
     وقد وضعت تطورات القرن العشرين الأساس الذي أدى إلى علم الإدراك في النصف الثاني من الخمسينيات عندما اجتمعت عدة مجالات معا بطريقة جديدة علم النفس واللسانيات وعلوم الحاسوب.  وعلى مدار النصف الأول من القرن اشتمل علم النفس على حركات متعددة. وقد تم الطعن في الحقائق الأساسية للطبيعة البشرية؛ إذ تراوحت وجهات النظر بين تركيز فرويد على الوعي ونظرية جيمس لانج التي تقول: إن السلوك يسبق الشعور (وله تأثير كبير على الميكانيكا الحيوية عند مايرهولد) وصولا إلى السلوكية الصارمة عند سكينر في أوائل خمسينيات القرن الماضي والتي أكدت أن كل ما نحن عليه مشروط سلوكيا، ولا يوجد وعي ولا نفس. وقد رسخت اللسانيات رسميا مجالا في العقد الأول من القرن العشرين  من خلال فيردناند دوسوسير، أبوالسيميوطيقا (انظر مثلا كتابه دراسات في اللسانيات العامة Course in General Linguistics , 1916). وفي نفس الوقت طور نقاد الأدب الروس عام 1914 ومن أبرزهم فيكتور شكلوفسكي منهجا تقنيا لدراسة اللغة الشاعرية، وأصبح معروفا باسم الشكلية Formalism. وقد مهد هؤلاء النقاد الأرض للبنيوية Structuralism، وهو مصطلح صاغه العالم اللغوي الروسي رومان ياكبسون عام 1929، والذي اعتمد على كلا المنهجين. 
كل هذه التأثيرات من بين تأثيرات أخرى دعمت أفكار ناعوم تشومسكي الذي جادل بعكس نزعة سيكنر السلوكية من أجل بنية لغوية فطرية في المخ. 
     وخلال نفس العقود أصبحت علوم الحاسوب مجالا بارزًا. وحدثت التطورات الأولية لما يمكن أن يسمى التكنولوجيا الرقمية. وقد تم ابتكار حاسوب قابل للبرمجة عام 1936 (وفي نفس السياق بالنسبة للممثل فقد صدر كتاب “إعداد الممثل” في نفس العام) وتم اختراع الترانزستور في عام 1948. وظهرت أول لغة متخصصة في الكمبيوتر (الفورتران) في عام 1954، وشرائح الكمبيوتر عام 1958 (وكان هذا قبل ثلاثة أعوام من ظهور كتاب «خلق الدور Creating a Role” عام 1961 بعد وفاة ستانسلافسكي)، وقد أدى كل هذا الى التطورات البارزة والسرعة التي عالج بها الحاسوب بياناته. وقد كانت سرعة معالجة البيانات التي سمح بها استخدام الشرائح وشفرات الكمبيوتر الجديدة من بين التطورات التي جعلت علماء الكمبيوتر أن يفكروا في طبيعة وعمليات آلاتهم في علاقتها مع عمل المخ البشري. 
     وفي النصف الثاني من الخمسينيات ابتكر مجموعة من علماء الفيسيولوجيا وعلماء الكمبيوتر المهتمين بالذكاء الاصطناعي واللغويين –ومن أبرزهم تشومسكي– مجال العلوم الإدراكية لدراسة امتلاك المعرفة ومعالجتها بطرق متعددة الوجوه، ومن بين أهدافهم معارضة المادية الاختزالية في النزعة السلوكية عند سكينر ومبدأ التهيئة الفعالة التي أنكرت بشكل افتراضي وجود المخ. ويمكن أن يوفر هذا التناول الجديد لفهم عمليات التخزين والمعلومات والتلاعب بها طرقا جديدة لتأمل الكيفية التي نفكر بها واستعارتها. 
     وفي نفس الوقت في المسرح  أثناء نفس العقود كانت هناك ثورة في تدريب الممثل في الولايات المتحدة الأمريكية. فبحلول عقد الثلاثينيات كان ستانسلافسكي يعتمد على تجربته في المسرح وعلى علم علماء النفس التجريبيين ثيودول ريبوت، وويليام جيمس، وكال لانج وآخرين؛ لكي يقدم كتابه “الممثل يعمل على نفسه The Actor Works on Himself” والذي نشر في جزأين في الاتحاد السوفيتي، وظهر الجزء الأول منه بالإنجليزية عام 1936 بعنوان “إعداد الممثل”. وخرج منه تجربة مختبر المسرح الأمريكي المشتركة وجماعة المسرح اللتان  تأثرتا بستانسلافسكي في الخمسينيات والستينيات لي ستراسبورج وستيلا أدلر، وانتقل سانفورد ميزنر إلى مركز الولايات المتحدة الأمريكية لتدريب الممثل، وأنشأ منهجه في التمثيل عن طريق موائمة عناصر ستانسلافسكي ومزج نظرياته في علم النفس الإنساني والسلوك، واعتمد بعضهم على بافلوف وفرويد من بين آخرين. وهيمنت هذه المناهج على تدريب الممثل المرتكز على النص في الولايات المتحدة منذ ذلك الحين. وخارج الولايات المتحدة هناك بالطبع مناهج  تقوم بدنيا أو بشكل غير فيسيولوجي على تدريب الممثل، مثل منهج جروتوفسكي وتاداشي سوزوكي، ولكن لم يكن لأي من هذه المناهج التأثير المنتشر الذي يحظى به منهج ستانسلافسكي وأتباعه على رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لماهية التمثيل، وما الذي يجب تدريسه. ورغم ذلك بينما مال تدريب الممثل المرتكز على النص في الولايات المتحدة الأمريكية إلى البقاء متأصلا في إصدارت المناهج المستمدة من ستانسلافسكي في منتصف القرن العشرين. استمر العلم الذي انطلقت منه هذه المناهج في التقدم إلى الأمام. على الرغم من أن الجيل الأول للعلوم الإدراكية (من الخمسينيات إلى الثمانينيات) كان ذا قيمة للرؤى التي قدمتها في عمليات الإدراك والاستجابة لدينا إلا أنها لم تغطِّ جميع جوانب موضوعها وتميل إلى تهميش بعض الجوانب المادية للجسم أو حذفها بما في ذلك الطرق التي يعمل بها المخ بالفعل. وقد تمت دراسة المصدر المادي للإدراك في مجال آخر، فمنذ الثلاثينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين قام علماء الأعصاب بغزوات جديدة لفحص بنية المخ ووظيفته. 
وبالتركيز على برامج عمل المخ “wetware” (على عكس برامجsoftware  التي تتوفر من خلال التجربة والتعلم) فقد حددوا من بين أمور أخرى المزيد من المواقع في المخ لوظائف مختارة، وقد اكتشفوها من خلال الطبيعة الكيميائية للانتقال المتشابك، وتعلموا كيف يمكن في بعض الحالات أن يتغير تشريح المخ من خلال الخبرة وحددوا بعض آليات وظيفة الذاكرة (على سبيل المثال يلعب البروتين دورا في تكوين الذاكرة). لقد كان علماء للأعصاب يطورون فهما ماديا للكيفية التي يعمل بها المخ وبالتالي العقل. 
 تطالبنا الاكتشافات والتطورات في علم الأعصاب والتكنولوجيا والأدوية أن نتحرك إلى ما وراء المنظورات التي تحصر نفسها في التحليل النفسي عند فرويد، والسلوكية عند سيكنر، وحتى النماذج المستلهمة من الكمبيوتر لبعض الأشكال القديمة لعلم الإدراك. وبحلول السبعينات ثبت أن التغيرات المتشابكة في المخ يمكن أن تكون مرتبطة بالذاكرة وتخزينها بمعنى أن الذاكرة كانت حدثا ماديا قابلا للقياس ويتميز بالتغير في البنية العصبية. وبنهاية السبعينيات أتاح التصوير المقطعي البوزيتروني (PET scans) بالفعل إمكانية البدء في رؤية المخ أثناء عمله بعد حقن النظائر المشعة في مخ الإنسان إذ يوضع الإنسان في ماسح ضوئي ينتج سلسلة من الشرائح لإنشاء صورة لتشريح المخ. وفي عام 1990 ومن خلال اختراع صور الرنين المغناطيسي (FMRI) امتدت قدرتنا بتوفير صور للعمليات الدينامية؛ أي استطعنا أن نرى المخ وهو يعمل عن طريق قياس النشاط العصبي المرتبط بمستويات تغير الأوكسجين في الدم  ولدينا الآن القدرة على التقاط صور لبعض عمليات الإدراك والانتباه والعاطفة والذاكرة والإحساس من بين عد أشياء أخرى. وتعمل الاكتشافات في علم الوراثة بالاشتراك مع علم الأعصاب لتوفير مزيد من الرؤى في جذور الوعي والسلوك. 
وفي نفس العام بينما اكتشفت صور الرنين المغناطيسي وتكنولوجيا إخراج الجينات عززت إمكانيات العلوم الطبية بشكل جذري. بدأت القدرة على إزالة الجينات أو تغيير تسلسلها تسمح لنا أن نربط السمات البدنية والسلوكية بجينات معينة أو مجموعات من الجينات (تحذير: على الرغم أنه من المغري أن نفكر في هذه المصطلحات الاختزالية مثل:  وجود علاقة مباشرة بين الجينات والصفة فإن الارتباطات ليست بسيطة للغاية فالعوامل البيئية تؤثر بشكل كبير على تطور الاستعداد الوراثي). وقد حدث التطوير البارز لهذه التكنولوجيا على علم الأعصاب في 1993 عندما ساعدت في اكتشاف الجين المسئول مرض هانتنجتون وهو ليس مرضا عضويا فقط ولكنه مرض التدهور الفكري والعاطفي. وقد كانت هذه خطوة مهمة في توضيح الروابط بين التركيب الجيني ووظيفة المخ وأغلب جوانب حياة الفرد الواعية الأساسية. ويمكننا الآن رسم خط من الجين إلى المخ إلى العقل –أي النفس. وغالبا يتحدث الممثلون عن الشعور المرتبط أو المنفصل، والعلم يقدم لنا صورا حيوية للكيفية التي تعمل بها روابطنا. 
 وقد أثار علم الصيدلة أيضا قضايا مهمة. فالعقاقير قوية بشكل متزايد في قدرتها على تغيير إحساسنا بذاتنا من خلال تغيير توازننا العصبي الكيميائي. وتعمل العديد من المستحضرات الصيدلانية النفسية عن طريق المحاكاة، أو حتى إعادة إنتاج بعض الناقلات العصبية الموجودة بشكل طبيعي (المواد الكيماوية التي تحمل رسائل بين الخلايا العصبية والعضلية المختلفة لتحفيز أو منع الباعث) وقمع ناقلات أخرى، وفي بعض الأحيان لا تغير حالتنا العاطفية فحسب، بل أيضا إحساسنا الأساسي بالوجود. فقد قطعنا شوطا طويلا منذ تقديم الريتالين (منبه الجهاز العصبي) في الخمسينيات والثورازين (مضاد الذهان) عام 1952، وعقاقير تغيير المزاج مثل البروزاك (مضاد الاكتئاب) وهو مثبط لامتصاص السيراتونين الانتقائي واكتشف عام 1987، وهو دواء لتنظيم السيراتونين وناقل عصبي أساسي، ويبدو شائعا الآن من الأسبرين. وبتغيير مخنا تغير هذه العقاقير أفكارنا ومشاعرنا. 
 والمجال الآخر الذي له تأثير على كيفية رؤيتنا لأنفسنا وبنائها هو التكنولوجية السيبرانتية التي غيرت بشكل أساسي إحساسنا بمكاننا في العالم من خلال إعادة تعريف علاقتنا بالزمن والمكان. وتتضمن بعض الأحداث الأساسية في تطور هذا المجال: ابتكار بروتوكول الانترنت Ethernet في عام 1973، وظهور كمبيوتر المستهلك في عام 1974 (وقد تعرفت على كمبيوتر الأبل Apple في عام 1976) واختبار الهواتف المحمولة عام 1979وصاغ مصطلح “الفضاء الأليكتروني Cyberspace” ويليام جيبسون عام 1984، وفي عام 1990 كتب تيم بارنز لي من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا عن النموذج الأولي لشبكة الانترنت باستخدام عناوين المواقع URL، وبرتوكول نقل النص المتشعب HTTP. وحدث تطور مبهر عام 1991 عندما عملت الحكومة اليابانية خططا لتطوير جيل سادس من الكمبيوتر يقوم على الشبكات العصبية، ويقوم علماء الكمبيوتر الآن على تصميم كمبيوتر على أساس علم الأعصاب على عكس ما يقم به علماء الإدراك صاغوا نظريات المخ حول كيفية عمل الكمبيوتر. وتتفاعل التكنولوجية السيبرانتية بشكل متزايد مع الجسم وتمحو الفاصل بين ما هو إنساني وما هو كمبيوتر.  وعلى مدار السنوات العشرين الماضية كتبت المنظرة النسوية وفيلسوفة الانترنت دونا هاراواي على نطاق واسع وبشكل مثير حول كيفية تغلغل التكنولوجيا الجديدة في وعينا وتغييره (بالنسبة لكم أنتم يا عشاق وجادلت بأننا جميعا الآن كائنات سيبرانتية). وفي عام 1998 أجرى عالم السيبرتتك (التحكم الذاتي) كيفين وارفيك مجموعة من التمرينات. تضمن إحدهما زرع شريحة في ذراعه لمتابعة حركته مما يسمح للأضواء والأجهزة أن تعمل عند وصوله في غرفة معينة في منزله، وتغلق عندما يغادرها. وبعد ذلك أثناء زيارته لجامعة كولومبيا في نيويورك نقل إشاراته العصبية عن طريق الانترنت لكي يحرك يد روبوت في بريطانيا. وبهذا الموقف أين هو بالضبط كيفين وارفيك؟ 
 فمن نحن، إن لم نكن أفكارنا ومشاعرنا؟ حتى الأسئلة الثورية عن حدود الذات وطبيعتها تثيرها البحوث حول المرايا العصبية. وهذا المجال يعد بأن يغير جذريا إحساسنا بمعنى أن تكون في علاقة مع آخر، ومعنى أن تكون ذا خلايا عصبية تلقائية، وأن يكون لدينا نوع من الحرية في استجاباتنا. وفي عام 1996 نشر جياكومو ريسولاتي وزملاؤه في جامعة بارما والذين كانوا يجرون التجارب على القرود استنتاجاتهم بأن مخ القرود يتضمن طبقة خاصة من الخلايا: 
خلايا عصبية تستجيب لنوع معين من الإيماءات بغـض النظر عمن يقوم بهذه الإيماءات –سواء كان القرد الذي الذي يسجل هذه الإيماءات أو قرد آخر. 
فإذا وصل القرد الذي تم تسجيله للفهم فإن المناطق الموجودة في  الفص الجبهي تفرز. 
وإذا وصل قرد آخر أو حتى إنسان للفهم، فإن الخلايا العصبية للقرد الذي يراقب الفعل تفرز أيضا. 
باختصار يتــم توجيه مرآة الخلايا العصبية لكل من الذات وأنشطة الآخرين نحو نفس الهدف. 
ومن منظور مرآة الخلايا العصبية  والتي تسمى أحيانا «أعصاب رؤية القرد وفعله» فإن مشاهدة شيء مماثل لفعل شيء –ينطلق نفس العصب. ويجادل بعض الباحثين الآن بأن مخ الإنسان به نظم متعددة لمرآة الأعصاب تختص بتنفيذ الفهم وليس فقط أفعال الآخرين ولكن أيضا نواياهم والمعنى الاجتماعي لسلوكهم وعواطفهم. وتقتبس هذه المقالة كلام ريسولايتي “تسمح لنا مرآة الأعصاب أن نفهم عقول الآخرين ليس من خلال المنطق المفاهيمي فقط بل من خلال المحاكاة المباشرة من خلال الإحساس وليس الفكر». وهناك بالتأكيد خلاف حول الوظيفة الدقيقة لمرآة الأعصاب في علاقتها مع الوظائف غير الحركية، ولكن هذا يحفز على البحث المستمر والمكثف ليس فقط في مرايا الخلايا العصبية، ولكن أيضا في أنواع أخرى من الخلايا العصبية المرتبطة بالمحاكاة والتي تجعلنا نتواصل مع الآخرين من حيث الفعل والتعاطف وهذا يُمَكننا من تقليد بعضنا البعض. وتضمينات هذا البحث عميقة فلن تجد اللغة والثقافة بدون المحاكاة فنحن نتعلم بالنظر والنسخ  أي أن الطفل سوف يقلد الذي يخرج لسانه أو يثير الضوضاء أو يصفق بيديه. ويفترض بعض العلماء أن المحاكاة لن توجد بدون مرآة الأعصاب. والآثار المحددة لهذه الاكتشافات بالنسبة للممثلين ضخمة؛ لأن أنواع النسخ المتطابق ومحاكاة الأعصاب ربما كانت في قلب بعض جوانب الإبداع، ولاسيما في إطار المحاكاة وربما التعاطف. وتكتسب طبيعة الحجج بين أفلاطون وأرسطو فيما يتعلق بقوة المحاكاة والمشاهدة قوة جديدة، وتتطلب مناقشة ديدرو في القرن الثامن عشر لمفارقة الممثل وتفوقه بدون الشعور إعادة تأمل. علاوة على أن هذه الاستنتاجات في النهاية تنحي جانبا في النهاية ثنائية التمثيل «من الخارج إلى الداخل” و”من الداخل الى الخارج”. ولعل بعض أعمق الأسئلة التي أثارتها هذه الاكتشافات لها صلة بالعلاقة بين أنفسنا والآخرين ، فما معنى أن ينشط ذهني بشك مماثل لذهنك عندما تحرك يدك؟ وما هي في الواقع الحدود بين مشاعرك ومشاعري، وأفعالك وأفعالي؟ 
  وبالتالي من ذلك الذي يقوم بالتمثيل؟ إننا نقوّم الحضور والأمانة والصدق في التمثيل، وما هو الشيء الموجود أو الأصيل؟ وما هي عاداتنا في التفكير، أو عادات شعورنا عند تقويم هذه الخصائص الأساسية ولكنها غير ملموسة؟ وإذا كنا نمثل، ما الذي نشعر به أو نعتقد أننا نشعر به (وأقول إننا «أي نحن الذين نمثل» قدمنا عروضا نعتقد أنها بائسة أعجبت الجمهور والعكس)؟ وإذا كنا من الجمهور يمكننا أن نسأل نفس الأسئلة. ونظرا لأن التطور اليومي في العلم والتكنولوجيا أن نغير علاقاتنا بعالمنا الداخلي والخارجي بطرق جديدة وأحيانا متحدية وأحيانا أخرى مثيرة. فإن هذه الأسئلة تصبح معقدة وجذابة بشكل متزايد، وتتلاشى الفواصل بين الإنساني والتكنولوجي. إذ يستخدم الزرع في المخ للتأثير على الوظيفة الكهربية وبين الإنساني والكيميائي عند استخدام العقاقير لتشكيل الكيفية التي نشعر بها حيال أنفسنا ومكاننا في العالم. ونتعلم أكثر وأكثر عن الخلفيات البدنية والكهربية والكيميائية التي ينشأ منها فكرنا وعواطفنا –وبالتالي نتعلم مسألة الممثل ومادته وعمله. 
وعلم الإدراك هو مصطلح عام يشمل علم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب واللسانيات العصبية والأنثروبولوجيا الإدراكية من بين تخصصات أخرى. وهناك مجموعة كبيرة من النماذج الإدراكية العصبية يمكن أن تخبرنا عن تقديرات عن معنى ما نفعله عندما نمثل. وما يلي هو ملخص للقليل الذي يمكن أن يوفر بداية لإطار عمل لكيفية التفكير حول تطبيق العلم على التمثيل. وكل النماذج التي ناقشتها تعالج التصنيفات الأساسية لنظريات موحدة للإدراك وتتمسك بمنطلق أن الوعي –الذي يتضمن التفكير العقلاني والشعور– هي إظهار للجسم , وأن أجزاءً من أنفسنا لا تنفصل عن بعضها البعض. والعلماء الذين استشهدت بهم يبدأون ببيانات صعبة وبحثا واعيا لبناء النظريات بدرجات متفاوتة في التأمل، والتي يتم تحديدها بدرجات متفاوتة داخل مجالاتها. وبالرغم من التأمل  والتنافس وربما حتى بسبب هذا بطريقة ما في التفكير؛ لتقديم طريقة أعمق في التفكير فيما يتعلق بالتمثيل الذي ربما يفتح نوعا من التأمل المثمر. ويمكن رؤية هذه النظريات باعتبار أنها تندرج تحت مظلة مجالين واسعين: النماذج التي تعتمد على علم النفس الإدراكي واللسانيات الإدراكية، والنماذج التي تقوم على علم الأعصاب. وهناك تداخل كبير بين هذه المجالات، ولكن لأغراض المسح الموجز التالي، فإنني أقسم الوصف تقريبا وحتى بشكل اختزاليبين النماذج التي تركز على الإدراك واللغة، وذلك الذي يركز على علاقة الإدراك بالطريقة التي يفهم لبها المخ. 

علم النفس الإدراكي واللسانيات الإدراكية 
 بين نماذج علم النفس الإدراكي واللسانيات الإدراكية التي يمكن أن تخبر التفكير عن التمثيل هي مسرح الوعي / نظرية فضاء العمل الشاملة عند برنارد بارس وجورج لاكوف، ونظرية الجسم باعتباره مصدرا للاستعارات التي تشكل الوعي عند مارك جونسون، ونظرية المزج المفاهيمي عند جيل فوكونيه ومارك تيرنر، ونظريات العقل الحاسوبي كما يصفها ستيفن باركر ودانييل دينيت وآخرين. 

 نظرية فضاء العمل الشامل 
 يستخدم عالم النفس برنارد بار علم الأعصاب لكي ينظّر بأن الوعي يحدث في فضاء عمل مركزي في المخ المدعوم بعدد ضخم من العمليات اللاواعية الموزعة في المخ. وتغذي نظرية فضاء العمل العديد من علماء الإدراك، ولكني أستخدم بارس كمثال لأنه يصف هذه النظرية تحديدا في سياق مسرح الوعي، وهو موقع اللاوعي المدعوم بنطاق عميق وواسع من أنشطة  الوعي تشبه إلى حد كبير الأداء على خشبة المسرح المدعوم بكمية هائلة من العمل خلف الكواليس والعمل الإخراجي. وهذا النموذج المسرحي استعاري؛ لأنه لا يوجد مكان محدد للوعي في المخ، ولكنه يسمح لنا أن  نتصور عمليات الوعي. ومثل النظريات الأخرى التي وصفناها هنا فإن هذه النظرية تفترض أن الوعي هو التكيف البيولوجي الحاسم، وله مجموعة كبيرة من الوظائف تؤثر وتتأثر بفعاليات الوعي ووظائفه. ويؤكد بارس بشكل متزايد أن كل نظريات الإدراك الموحدة هي نماذج مسرح بوظائف على خشبة المسرح وخارجها. (وهذا يعكس أيضا ثقافة إعجابنا العام باستخدام المسرح والأداء كاستعارتين للعديد من التجارب والمواقف). 

الجسم كمصدر للاستعارة والمعنى 
 في كتابه “الفلسفة في الجسد: العقل المتجسد وتحديه للفكر الغربي Philosophy in the Flesh : The Embodied Mind and Its challenge to Western thought “ اعتمد الفيلسوف وعالم اللغة جورج لاكوف والفيلسوف مارك جونسون على ثلاثة استنتاجات رئيسية في علم الإدراك لتطوير الحجة بأن إحساسنا بجسمنا، وحقيقة أن لنا جسم هو مصدر استعاراتنا الرئيسية للفكر والمعنى والقيم، أولا: العقل متجسد بشكل متأصل، ثانيا: الفكر لاواعي عموما، ثالثا: المفاهيم المجردة هي مفاهيم مجازية. ورأيهما أن العقل يتشكل بهذه: “الجسم، اللاوعي الإدراكي  الذي لا نصل إليه مباشرة ، والفكر المجازي الذي نجله عموما «. إنهم يؤمنون بالاستعارات الأساسية للزمن (مثل الوقت من ذهب، الوقت كالسيف) والمكان (شعرت بأنها بعيدة) والأحداث والعلاقة السببية (يمشي على قشر البيض) والأنانية (لقد سمحت لنفسي بالرحيل) والأخلاق (ليس لديه أصل)، والتي تسود تفكيرنا وكلامنا، وهي الأدوات الرئيسية التي نبني بها المعنى، وتنمو مباشرة من إحساسنا بكياننا الجسدي: “المفهوم المتجسد هو البنية العصبية في الواقع التي هي جزء من الاستفادة من النظام الحسي الحركي في أذهاننا». لذلك فإن كثيرًا من الاستدلال المفاهيمي هو استدلال حسي حركي. بمعنى أن المفهوم هو حالة خاصة في الذهن  وبالتالي حالة بدنية بحكم الواقع. والتأثير الحاسم لهذا هو أن الاستعارات التي نعيش بها (باستخدام أحد عناوين كتبه) ليست مجردة أو شاعرية فقط، ولكنها من أجسامنا بطريقة أكثر إلحاحا. وبناء على ما نعلمه عن الإدراك واللغة، فإن حجتهما توفر طريقة كلية لفهم أنفسنا، والطريقة التي تنشأ بها اللغة مباشرة من وجودنا البدني: العقل والوعي واللغة هي تجليات مباشرة لأجسامنا الإحساس الذي نشعر به تجاه أنفسنا كأجسام. ولعل أحد التأثيرات الأساسية لهذا هو أن الممثلين لا يحتاجون لصنع أو بناء طريقة لإصلاح الانقسامات في الذوات باعتبارها متكاملة بالضرورة. 
 
المزج المفاهيمي 
 يحمل عالما الإدراك واللغة «جيل فوكونيه ومارك تيرنر» منظورات مماثلة لمنظورات لاكوف وجونسون، ولاسيما من حيث الأهمية يقدمان للمجاز في نظريتهما. إذ يبدأ نموذجهم شبكة الاندماج المفاهيمي بتفسير الطريقة التي نجمع بها التداعيات من المواقف المتشعبة والتجارب. ففي كتابهما “ طريقة تفكيرنا: المزج المفاهيمي والتعقيدات الخفية للمخ The Way we  Think: Conceptual Blending and the Mind›s Hidden Complexities”  بدأا بتأكيدين أساسيين: الأول أن التخيل هو المحرك الأساسي للمعنى، والثاني أن الاستعارة مركزية في الإدراك. وهذان التأكيدان حول أولوية التخيل والاستعارة لهما صلة بالتمثيل.

نظريات العقل الحاسوبية 
 افترض بعض علماء الإدراك مثل «دانييل دانيت وستيفن بينكر» وهما لغويان أيضا أن المخ وبالتالي العقل مثل الكمبيوتر. 
إذ يؤكد بينكر في كتابه “كيفية عمل العقل How The Brain Works” أن كل الأشياء الذهنية بما في ذلك المعتقدات والرغبات هي معلومات تتحول إلى رموز، وهي بدورها حالات فيزيائية لأجزاء من المادة مثل الرقائق في الكمبيوتر أو الخلايا العصبية في المخ. وبعض هذه النماذج ومن ضمنها نماذج بينكر ودانيت هي مفرطة في المادية، وتفترض أن كل الظواهر ومن ضمنها الوعي هي تجليات لعمل المادة. وفي هذا الصدد فإن لها بغض التشابه مع النماذج السلوكية المادية، ولكن تختلف عنها في أنها ترفض النظريات المرتبطة بالتكيف الفعال. ويمكن أن تكون النماذج الحاسوبية طريقة مفيدة لربط العلم بالتمثيل، نظرا لأنها في مستواها الأساسي توفر نموذجًا تخطيطيًّا متاحًا يتيح لنا رؤية التوازي بين مصطلحات علم الأعصاب الأساسية والمصطلحات المستخدمة في تدريب الممثل. 

علم الأعصاب 
 لا نعرف حتى الآن الخطوات التي يصبح من خلالها الأمر تخيلا. ورغم ذلك، الكيفية التي ترتبط من خلالها عناصر الوعي والسلوك بالمخ تصبح واضحة بشكل متزايد، وتقربنا من الوقت الذي يمكن أن نحصل فيه على إجابة كاملة لسؤال كيف ينشأ الوعي من المخ. وبعض العلماء الذين يملكون المعلومات عن هذه النقطة هم اليزابيث ويلسون، وجوزيف لودوكس، وايلمان، وتونوني الذين يركزون على البنية المتفاعلة مع الوعي، ولاسيما فرضية العلامة الجسمية the somatic marker hypothesis عند أنطونيو داماسيو. 

النفس المتشابكة 
 يرى بعض علماء الأعصاب أن «من نحن؟، وكيف نعمل؟» يقوم على امكانيات لبعض الأنماط العصبية –أو الصلات المتشابكة– في المخ وكيف تتطور. ففي كتابها «الجغرافيا العصبية: النسوية والبنية الصغرى للإدراك تصف اليزابيث ويلسون كيف تفهم النماذج الترابطية: 
 العمليات الإدراكية مثل انتشار التفاعل عبر شبكة مترابطة أشبه بوحدات الأعصاب. إذ أنها الصلات بين هذه الوحدات، فضلا عن الوحدات لذاتها، والتي تقوم بالدور المحوري في عمل الشبكة. 
وهذا له مغزى لأنه يعني أن المعرفة كامنة ومختزنة في الصلات فضلا عن الوحدات في المسار من عصب إلى الآخر. فالمعنى ينشأ من الترتيب المكاني للمعمار الترابطي وعلى تغير قواعد التفاعل. أي الكيفية التي تتأثر بها إمكانيات روابط العقل في اللحظة. ويناقش لودوكس في كتابه: “النفس: كيف يصبح مخنا ما نحن عليه؟ والمخ العاطفي Self : How our Brains Become who we are and Emotional Brain “ كيف أن طبيعة تركيبنا الجيني وطبيعة تجاربنا هما طريقتان مختلفتان لعمل نفس الشيء –كتابة نقاط الاشتباك العصبي في المخ بحيث تكون الاتصالات في مخنا تفاعلات دينامية معقدة بين هذين الجانبين من ذواتنا، والتي في الواقع تغير المخ باستمرار. وبهذه الرؤية يمكن رؤية الذاكرة باعتبارها نوع من التعلم لأن المخ لديه درجة عالية من المرونة. ولأن الشبكات العصبية يتم تغييرها، وأن الأجزاء الفعلية للمخ يمكن أن تزيد مع المحاكاة.       
ويفترض عالم الأعصاب جيرالد ايدلمان والعالم الفيزيائي جوليو تونوني في كتابهما “عالم الوعي: كيف تصبح المادة خيالا؟ A Universe of Consciousness : How Matter Becomes Imagination “ أن الوعي ينشأ من عمليات عصبية معينة. وعملا على ثلاثة فرضيات: فرضية الفيزياء التي تقول إن العمليات الفيزيائية وحدها مطلوبة لتفسير الوعي، أي أن العقل ينشأ من المخ، وبالتالي فإن ثنائية الجسم –العقل ضرورية، والفرضية التطورية التي تقر بأن الوعي يتطور أثناء الاختيار الطبيعي ويتولد من خلال التشكل أي أن الوعي نشأ بسبب تطور محدد للجسم الفيزيائي بما في ذلك العقل وأخيرًا فرضية النوعية والتي تقرر بأن الجوانب الذاتية –أو النوعية أو الشخصية– للوعي لا يمكن الاتصال بها مباشرة أو ترجمتها بواسطة العلم؛ لأن الوعي خاص  والتجربة الذاتية والعلم عامان وبين ذاتيين. 
     وتفسر فرضية العلامات الجسدية  Somatic Markersفي رأي عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو في كتابه “الشعور بما يحدث: دور الجسم والعاطفة في صنع الوعي The Feeling of What Happens : Body and Emotion in the Making of Consciousness “ أن المخ يخلق خيوط التداعيات التي تنشأ في الجسم أولًا كعواطف تترجم إلى “مشاعر” (تسجيل لحالة عاطفية) تؤدي بعد ذلك إلى سلوك وهو الاستجابة لكل ما سبق والذي يمكن أن يشارك أو لا يشارك مع العقل أو الفكر المنطقي. وتصبح هذه العلامات ذخيرتنا العاطفية أي حالة الجسم، والاستجابات في قيادة اختيارنا لرد الفعل تجاه المواقف الجديدة. وتقدم فرضية داماسيو هذه طريقة لتصوير الجسم والشعور والفكر ليس باعتبارها منفصلة، بل باعتبارها جوانب لعملية عضوية فردية، ولاسيما فيما يتعلق بالممثل إذ يؤكد دامسيو أن العقل بمعناه الشامل ينشأ من العواطف ويتخللها، وأن العاطفة تتعلم دائما من العقل والإدراك الواعي. 

مكان فن التمثيل من كل هذا 
     في ضوء العلم الحالي، أين مكان التمثيل من كل هذا؟ يبدو أن البحث يفكك البنيات المريحة والمألوفة للهوية والشعور والذاتية التي كانت سائدة لعدة عقود. ومع ذلك يجب أن نشرك العلم  إذا أردنا أن نظل أوفياء لمهمة فن التمثيل في تجسيد جوانب التجربة الإنسانية، ونعبر عن المكونات المتغيرة والثابتة لحالة الإنسان الأساسية. فقد ارتبط التمثيل دائما بتفاعل البيولوحيا والثقافة. 
ونظرا لأن الثقافة تتغير بسرعة، وكذلك تتطور نظريات مناقشة تفاعلات البيولوجيا والثقافة والتكنولوجيا بشكل كبير في مجال دراسات الأداء، فقد حاولنا أن نجد طرقا أفضل وأوضح للكلام عن المشاعر والتجارب التي نملكها أثناء الأداء أو أثناء مشاهدة الأداء. فإن رؤيتنا حتمًا (أو نموذجنا.. إن شئت) يمهد الأرض للكيفية التي نفهم بها أجسامنا، وبالتالي أنفسنا. فمن المستحيل أن نفصل رؤى عملية التمثيل عن الرؤى العلمية السائدة في أي فترة تاريخية. فكيفية فهمنا للتمثيل مشروطة بكيفية فهمنا للأداء الإنساني الأساسي. وللاستخدام الصريح للعلم في توضيح التمثيل تقاليد طويلةوصفها بالكامل روش في كتابه “شغف الممثل The Player›s Passion” الذي ذكرناه آنفا، والذي يتتبع النماذج الفلسفية والعلمية المتغيرة عن النماذج اليونانية حتى القرن العشرين وكيف أنها وفرت أساسا لتغير الرؤى في عمل الممثل. فما أصبح واضحا في دراسة روش هو؛ نظرا لأن نماذج العلم تتغيرفإن نماذج التمثيل أيضا تتغير. وفي حين أن التطور البيولوجي متواصل بخطى بطيئة (رغم أنه يتقدم) فلسنا مختلفين عن اليونانيين القدماء أو الاليزابيثيين في هذا الصدد، فهناك تغيرات ضخمة ومتسارعة في الثقافة والتكنولوجيا. ومن المهم أن نميز بين ما هو ثابت (نسبيا) في التمثيل ورؤاه التي هي نتاج لحظات تاريخية بعينها. ومن المغري ولكنه في النهاية يأتي بنتائج عكسية أن نتعلق بنماذجأو حتى مكونات لنماذج تجاوزت فترة استخدامها. 
     لذلك ما الذي مازال مستمرا في فن التمثيل حتى الآن؟. المصطلحات المستمرة في الظهور هي “الحقيقي، والطبيعي، والتقليدي، والواقعي، والصادق” « الشخصية والفعل والعاطفة» (أو الشعور) على سبيل المثال. وهذه مصطلحات معقدة في ثقافتنا المعاصرة بشكل مثير؛ لأن الأشكال الشعبية والوسائط والتقنيات تغير أرضية ما نفهمه عنها. ويعد الأداء المنفرد للسيرة الذاتية Autobiographical solo performance  وتليفزيون الحقيقة والعروض التي تمزج المكونات الحية والرقمية هي من ضمن الأشكال الحالية التي تغير الحاضر وترسم مسار المستقبل. ومن المستحيل أن نتنبأ: ما هي أشكال الفن الأخرى التي سوف تنشأ في العقد التالي؟. ورغم ذلك  وسط الأشياء التي تربط الأشكال الحالية ببعضها البعض وبالمسرح والأشكال المسرحية في الماضي هي السرد (القصة) سواء من خلال حكي قصة أو ابتكارها. وكل هذه الأشكال أيضا مبنية على التخيل والفعل –السلوك المحفز كاستجابة لمجموعة ظروف معينة. ويوضح علم الأعصاب الأرضية البيلوجية لهذه الأسس الإنسانية ويقدم رؤية داخل أسس عمل الممثل. 
....................................................................................
  • روندا بلير  تعمل أستاذا للمسرح في Southern Methodist university. وحصلت على جائرة العالم المسرحي المميز من الجمعية الأمريكية للدراسات المسرحية عام 2019. 
 •  هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابها « Actor, Image , and Action: Acting and Cognitive Neuroscience» 2008


ترجمة أحمد عبد الفتاح