«خلطة شبرا» والدراماتورجيا

«خلطة شبرا»   والدراماتورجيا

العدد 767 صدر بتاريخ 9مايو2022

يمثل عرض «خلطة شبرا» الذي (يقدمه مسرح الطليعة) تحديا لصانعيه، والذي كتبه وقدم أشعاره الكاتب (يسري حسان)، ومن إخراج: (محمد سليم) - هذا المخرج الذي قبل التحدي واستطاع من خلال دراماتورجيا النص والإخراج أن يقدم عرضا جادا خفيف الظل يتسم بالطرافة والظرف – فمن خلال (حكايات شبرا) مقصدا علي خماسي الأداء التمثيلي والغناء (عادل النقيب) احمد عبد الجواد، محمد هاني، محمود عبد الرازق)، وغناء (ماهر محمود)، وألحان الراحل (احمد الحجار)، وديكور وملابس (مني كمال)، ومادة فيلمية بسيطة (لعبد الحميد حسن ) أن يحول تلك الحكايات إلي عرض حي بخطة حركة محسوبة قابلة للتلقي، وفريق (إضاءة) متمرس نفذ رؤية المخرج بدقه، وعن طريق (دراماتورجيا) للنص والإخراج، وقد يتساءل البعض عن معني (دراماتورجيا) التي أصبحت مصطلحا أساسيا في المسرح الحديث لأنها هي التي ساعدت النص علي الخروج من ذواته كي نخلق (تناسيا) بين عالم التمثيل وعالمنا نحن -  فهو يقع في مفترق الطرق بين الكتابة الدرامية، والإخراج المسرحي، بل و(النقد) -  فهو رفيق المخرج والمسئول عن الإنجاز الفعلي لرؤية المخرج، والمكلف بأعداد تصور حول كيفية تحقيق تلك الرؤية في صحبة فريق العمل -  ومن خلال إلغاء الحدود بين مختلف التخصصات ليضطلعوا جمعيا علي تحققه فوق مساحة العرض أي أنها كما يقوم المنظر  الألماني (هانس ليمان) (فرجة) مخطط لها ومفكرا فيها بشكل تشاركي / تفاعلي -  لأنها مسرح غير أدبي، رغم أن هذا المنحي لا يلغي شعرية المنجز المسرحي بكل مكوناته) حيث يصبح الممثل هو مركز الاهتمام كعلامة مسرحية مركزية، وتتشكل في هذا العرض من خلال التقاطعات بين ما هو سردي وما هو درامي بهدف خلخلة (أفق انتظار) المتلقي السلبي، لأننا في هذا العرض الدراماتورجي غالبا ما يستفز البناء الدرامي التقليدي من خلال إحداث فجوات بين المجزؤات لخلق حالة تكسير الإيهام، وفي نفس الوقت تساعد النصوص علي الخروج من ذواتها كي تخلق تناسجا بين عالم التمثيل وعالمنا نحن، ومن هنا كان ( التمثيل) هو السبيل لمساعدة مثل هذه النصوص علي الخروج من ذواتها كي تخلق تناسجا بين عالم التمثيل وعالمنا نحن كما سبق أن ذكرنا عن طريق إدخال المتفرج في تجربة فيزيقية ونفسية مكثفة، وقد قام هذا (المخرج) من خلال التصور العام للعرض الذي يندمج فيه مختلف العناصر المسرحية في تناغم مع القصدية الدلالية التي يقدمها في مسرح شبه عار تقريبا بمجموعه من (الموتيفات) والأكسسوارات البسيطة والملابس(لمي كمال) حيث أدار العرض أحداثه في (شبه) مقهي شعبي، وحيث يتبادل اللاعبون (الطاولة والكوتشينه)، وفي ركن من المقهي يجلس (المغني) وحوله أربعة عازفين (مايكل رفعت فكري، نوار مجدي عبيد، عمرو بكار، توماس القمص لوكاس) (وكأنهم جزء من المشاركين ليشاركوا في في مجموعة ألحان شرقية تناسب الجو العام للراحل (احمد الحجار) فالديكور والموسيقي عنصران لا ينفصلان عن العرض الذي أتصوره عرضا جديدا يختلف عن (عروض الحكي) السابقة التي هجرها أصحابها .. فلربما يصبح شكل (الحكي) الجديد يعطينا الأمل أن ننقذ المسرح المصري من تقليديته أو استهواءات المجددين الذين يبحثون عن الفراغ في مسرح حديث .
وقد تعامل المخرج مع مكان الأحداث وهو المقهي الشعبي حيث تلتقي الشخصيات الأربع والمغني وفريق العازفين، فقد أجاد الممثلون الأربعة الدخول والخروج من تلك الشخصيات أو الأنماط التي يجسدونها ويتقمصونها في تلقائية وبساطة وسلاسة، والعودة إلى الحكي الدافئ الحميم – مع ذلك الصوت الدافئ والرخيم لـ(ماهر محمود) والمجموعة من افضل أبناء الحي الشعبي الذين يجسدون أنماطا من الحي الشعبي (حي شبرا)، والذي يعشقه الكاتب وهي أنماط تتسم بالغرابة وإثارة الدهشة ما بين قهوة الحرامية، والمخترع الشعبي العاطل والفاشل، والقبطي الذي يصعد إلى منزله ليؤذن، والعلاقات الحميمة بين المسلمين والأقباط من خلال الأمهات والزوجات، وفي (أم فخري)  التي تتشاجر مع (حسن مدفع) الذي أراد أن يفرض نفسه فتوة المكان ففشل فتحول وعمل من نفسه مدرسا فاشلا.. لأنه غير مؤهل بعد أن جمع حوله مجموعه من التلاميذ الصغار، وكلنها شخصيات تقمصها الممثلون الأربعة (علاء النقيب)، وأحمد عبد الجواد، ومحمد هاني، ومحمود عبد الرازق، بسلاسة الإيحاء وبساطته وبلغة الجسد دون مبالغة، أما الصوت المميز (ماهر محمود) الذي أدي بإخلاص ألحان الراحل (أحمد الحجار) ببصمات مليئة بالشجن والروح المرحة في نفس الوقت، والتي تثير الذكريات بالزمن الجميل والمرير في نفس الوقت، وكلمات المبدع الشاعر والمؤلف الكاتب (يسري حسان) والتقاطه الحساس للجو العام  وللأنماط البشرية في الحي الذي يعشقه دون فزلكة أو تعقيد وبحميمية، ويقف وراء هؤلاء المبدعين مخرج شاب مخضرم وحساسيته في الوصول بسلام إلى قلب الملتقي بخطة وحركة تعتمد علي الدراماتورجيا للنص والإخراج – حرصا علي ألا يفقد الحكي حيويته لدي الملتقي .
وفي تصوري أن مثل هذه العروض الصادقة والجادة ذات الأعماق الملهاوية هي التي من الممكن أن تنقذ حركتنا المسرحية من عثراتها.
وأتصور هذا العرض الجاد هو بداية طيبة لاحتفال مسرح الطليعة بمرور 60 عاما علي إنشاءه -  بداية من (مسرح الجيب) الذي قدم عددا من العروض الجيدة على خشبة المسرح المصري (من المسرح الإغريقي والمسرح الملمحي ومسرح العبث (اللامعقول)) في مسرح الطليعة، والتجارب الجديدة في المسرح المصري والعربي، فريبرتوار هذا المسرح يضم الكثير من العروض المتميزة وعلي خشبته جرب المخرجون من أجيال مختلفة – كبارا وصغارا. ومن هنا كان ريبوتوار هذا المسرح يضم اعمالا مسرحية من حق الأجيال الحالية أن تتعرف عليها  والتي اخذها على عاتقة مخرجون مثل (سعد اردش، كرم مطاوع، احمد ذكي، كمال عيد، محمد عبد العزيز. جلال الشرقاوي)، ومن جاء بعدهم (سناء شافع، سمير العصفوري) علي توالي السنوات، ومن وقفوا علي خشبته من ممثلات وممثلين تركوا بصامات مميزة في الأداء التمثيلي وغيرهم من مصممي السينوغرافيا والملابس، ومبدعي  عناصر العروض المسرحية على (خشبتي) سواءا في قاعة (صلاح عبد الصبور) التي أنشأها المخرج سمير العصفوري، أو مسرح (ذكي طليمات) الذي لم ينل التكريم في حياته أو بعد رحيله  كرائد للمسرح بشكلة العلمي.


عبد الغنى داوود