العدد 739 صدر بتاريخ 25أكتوبر2021
علمنا أن بعض الفرق المسرحية المصرية زارت تونس، منها فرقة الشيخ سلامة حجازي، وفرقة جورج أبيض، وفرقة يوسف وهبي! وسنقرأ عن فرق أخرى زارتها مثل فرقة الريحاني والفرقة القومية .. إلخ، ورغم ذلك لم يستقبل التونسيون أي فرقة مثلما استقبلوا فرقة «فاطمة رشدي»! وأستطيع أن أقول إن الفرقة المسرحية المصرية الوحيدة، التي ارتبط اسمها بتونس كانت فرقة فاطمة رشدي، وأن التاريخ المسرحي سيظل يربط بين فاطمة رشدي وتونس لسنوات طويلة، بسبب رحلتها الأولى، والتي أعدّها رحلة العمر بالنسبة لفاطمة رشدي!
زارت فاطمة رشدي تونس في إبريل 1932 لأول مرة، وكان الشعب التونسي ينتظر زيارتها هذه قبل حدوثها بعدة أشهر! فمجلة «الصباح» نشرت في يناير رسالة من مراسلها في تونس «محمد المرساوي» عنوانها «هواة التمثيل في تونس يرحبون بفرقة فاطمة رشدي»، قال فيها: «ما كاد هواة التمثيل والفن يقرأون في «الصباح» نبأ عزم السيدة فاطمة رشدي على الرحيل إلى هناك، وإحياء فرقتها بعض الحفلات التمثيلية حتى ابتهج أهالي تونس وغمرهم السرور إذ سيشهدون مبلغ ما وصلت إليه النهضة الفنية التمثيلية في مصر. والتونسيون يبادرون بتقديم تحياتهم إلى فاطمة رشدي والأستاذ عزيز عيد وجميع أفراد الفرقة على صفحات الصباح ويرحبون بمقدمها أعظم ترحيب ويترقبون حضور الجميع بفارغ الصبر».
أما جريدة «المقطم» فقالت في فبراير، تحت عنوان «فخر الفرق التمثيلية المصرية في تونس»: «تتوالى دعوات التونسيين على فرقة فاطمة رشدي للرحيل إليهم لإحياء بعض الحفلات هناك من رواياتها الشيقة. ونزولاً على تلك الرغبة أوفدت السيدة فاطمة «علي أفندي يوسف» للسفر إلى تلك الأقطار الشقيقة للاتفاق مع أصحاب المسارح وسيبرح القاهرة يوم 9 الجاري. وقد اتصل بنا أن الفرقة أدخل إليها عنصر جديد وهو الغناء والطرب ترويحاً للنفس، وإننا لآملون أن تكون فاطمة وفرقتها فخر مصر كما كانت فخرها في سورية وفلسطين والعراق حتى صرحت وزارة المعارف المصرية وجاهرت برأيها رسمياً فأرسلت إلى السيدة فاطمة شكرها وثناءها وإعجابها».
وفي أواخر مارس – وقبل سفر الفرقة إلى تونس – نشرت جريدة «أبو الهول» ترتيبات استقبال الفرقة المتفق عليها في تونس، وهي: أن أعضاء 35 هيئة فنية وعلمية في تونس قد اعتزموا استقبال السيدة فاطمة رشدي وفرقتها على ظهر الباخرة، وأن هذه الهيئات اتفقت مع شركة البواخر أن تقام حفلة الاستقبال الأولى على ظهر الباخرة، حيث يتبارى مندوبو هذه الهيئات في إلقاء خطب الترحيب من النثر ومن شعر، وترد السيدة فاطمة رشدي على عباراتهم بكلمة تشكر لهم فيها عواطفهم الرقيقة واستقبالهم الرائع. ويقصد أعضاء الفرقة بعد ذلك إلى القصر الملكي في تونس فيقيدوا أسماءهم في سجل التشريفات. وفي المساء تقام الحفلة الأولى في سراي باي تونس، يحضرها وزراء الدولة وكبار الموظفين وسفراء الدول المفوضين بملابسهم الرسمية، ويشرفها جلالة باي تونس والمفوض الفرنسي العام وكبار رجال الجيش والقضاء ورؤساء العشائر وزعماء القبائل. وتلقي السيدة فاطمة رشدي في هذه الحفلة كلمة شكر وثناء».
هذا هو التخطيط المرسوم والمنشور في الصحف قبل وصول الفرقة إلى تونس! أما بعد وصولها، فقد نشرت مجلة «الكواكب» رسالة من مدير الفرقة الإداري «إبراهيم يونس»، وفيها وصف الاستقبال الذي تم فعلياً، قال فيها: «وصلنا تونس ونحن جميعاً بصحة جيدة والكل يهدونكم تحياتهم وخصوصاً السيدة فاطمة. أما استقبالنا فكان عظيماً باهراً لم يسبق له مثيل، فقد احتشد على رصيف الميناء آلاف من الخلق كما خرجت القوارب بالموسيقى إلى عرض البحر لاستقبالنا قبل أن ترسو السفينة. وفي ساعة الوصول إلى الرصيف وجدنا فرقتين موسيقيتين بدأت إحداهما في التو تعزف السلام المصري المحبوب، ثم أعقبته بالسلام الوطني لتونس «مارش الباي»، وظلت الجماهير تهتف هتافاً شق عنان السماء. وقبل أن نضع أقدامنا على سلم الباخرة صعدت إلينا هيئة الاستقبال، وكانت مؤلفة من نواب تونس وأعيانها ورجال صحافتها الذين ألقى بعضهم كلمات الترحيب المناسبة للمقام. وبعد ذلك غادرنا الباخرة حيث وجدنا رتلاً كبيراً من السيارات أوصلتنا إلى فندق «ماجستيك» حيث كانت الجماهير تتدفق كالبحر الزاخر. وقد ظهر أثر نجاحنا في الحفلات التمثيلية التي بدأناها يوم 15 إبريل برواية «مصرع كليوباترا» فإن أبواب التياترو أقفلت من الزحام الذي امتلأ به الشارع العام بعد أن غصت أماكن التياترو ولم يبق منها شيء خال ...... أما نهاراً فلا تسل عن الوفود التي تمثل الجمعيات والأندية المختلفة وكلها تلح في ضرورة تحديد أوقات لحفلات تكريم لنا. ولكن أين الوقت الكافي لكل هذا؟ ....... وأخيراً أقول لك بأننا لقينا في الأقطار التونسية ما لم نكن نتصوره من حفاوة وإقبال».
أما «محمد المرساوي» - مراسل مجلة «الصباح» في تونس، فقال عن الاستقبال أيضاً: عندما انبلج صباح يوم 13 ابريل سنة 1932 حتى كان رصيف مرسى تونس غاصاً بالوفود المتجمهرة منذ الساعة السابعة صباحاً، وجميعهم من أعيان وأدباء تونس تحت إشراف لجنة استقبال خاصة كونت لذلك وحضرت لاستقبالها فرقة الموسيقى الإسلامية بملابسها الرسمية، كما حضر مديرو الجمعيات التمثيلية والأدبية حاملين باقات الزهور مع أسماء مقدميها. وما كادت الباخرة تظهر في الساعة 9 وربع حتى بدأت التحية تتبادل عن بُعد بين أفراد الفرقة والمستقبلين، وركب الكثيرون منهم الزوارق لاستقبال الفرقة في عرض البحر، وتعالى الهتاف ودوى التصفيق الحاد المتواصل، وظل هكذا حتي رست الباخرة وأقبلت الوفود المتجمهرة، ولا يقل عددها عن الألف نسمة. وصدحت الموسيقي بالسلام الوطني المصري أولاً، ثم عزفت السلام الوطني التونسي، فالسلام الوطني الفرنسي. وقد أحتشد المصورون وأخذو يتسابقون لالتقاط صور للفرقة، وهم على ظهر الباخرة. وقد تمكنوا من ذلك بالرغم من الازدحام الشديد. وصعد لفيف من الصحفيين والأدباء والأعيان المستقبلين إلى صالون الدرجة الأولى في الباخرة حيث قدموا إلى السيدة فاطمة رشدي باقات الأزهار، فتقبلتها شاكرة. وبعد أن تم التعارف بين الصحفيين والفرقة أنشد الشاعر العصري السيد «محمود أبو رقيبة» أبياتاً عامرة بالترحيب. ثم استقل أفراد الفرقة السيارات التي أعدتها لجنة الاستقبال بين الجموع الزاخرة، وقد نزلت السيدة فاطمة رشدي والأستاذ عزيز عيد وعزيزة عيد [ابنتهما]، والسيدة زينب صدقي في أوتيل الماجستيك، وهو أفخم أوتيل في المدينة. أما باقي أعضاء الفرقة فقد نزلوا في منزل جميل، وهو جديد البناء لا يقل عن أحسن أوتيلات أوربا.
العروض المسرحية
بدأت الفرقة عروضها على مسرح البلدية في تونس بعرض مسرحية «مصرع كليوباترا». وأمام الإقبال الجماهيري، بدأت الفرقة في عرض مسرحيتين في اليوم الواحد «ماتنيه وسواريه»! لذلك عرضت في اليوم الثاني مسرحيتي «غادة الكاميليا» و«النسر الصغير»، وفي اليوم الثالث عرضت مسرحيتي «خلي بالك من إميلي» و«مجنون ليلى»، وكانت جميع الحفلات «كاملة العدد». ثم انتقلت الفرقة إلى مدينة «سوسة» لعرض بعض هذه المسرحيات مع مسرحية «السلطان عبد الحميد» في يومي 21 و22، وتكررت العروض في مدينة «صفاقس» يومي 23، 24، وكذلك في مدينة «بنزرت» يومي 26 و27.
وأرسل مراسلو الصحف والمجلات المصرية عدة رسائل، عرفنا منها أن فاطمة رشدي ألقت كلمة على الجمهور قبل عرضها الأول، قالت فيها: «شكراً لكم يا أهل تونس على هذا التشجيع والسرور الذي قابلتموني به، وأني والله ما فارقت مصر التي حُبها بين الضلوع والفؤاد، وتحملنا مشاق السفر وصعاب الغربة، ففارقت وادي النيل إلى واديكم، وكان اعتمادي بعد الله عليكم، وغايتي الأولي هي نشر الفن المصري بينكم خدمة لمصر أخت تونس. فليحيى القطران الشرقيان الشقيقان تونس مصر».
وإن كانت الصحف اهتمت بأدوار فاطمة رشدي في عروضها المسرحية، إلا أنها في الوقت نفسه أشادت بتمثيل «زينب صدقي» في دور مرجريت، و«حسين رياض» في دور أرمان في مسرحية «غادة الكاميليا»، و«عزيز عيد» في دور المجنون في مسرحية «مجنون ليلى». وأمام الإقبال الكبير على مسرحيات الفرقة ارتفعت أسعار التذاكر، فثمن «الفوتيه» أصبح ستين قرشاً بدلاً من 22 قرشاً.
وذكرت مجلة «الصباح» - في مايو 1932 عن طريق مراسلها التونسي «محمد المرساوي» - أموراً مهمة حول زيارة الفرقة وعروضها في تونس، منها ما حدث في يوم 18 إبريل، عندما دُعيت فاطمة رشدي وكبار أعضاء فرقتها لملعب «موسى» الرياضي لتفتتح مسابقة كرة القدم بين الفريقين الوطنيين «الترجي الرياضي» و«النادي الرياضي البنزرتي» على كأس «ابن عمار إخوان». فنزلت السيدة فاطمة رشدي لميدان اللعب مع زينب صدقي بين الهتاف الشديد والتصفيق، ففتحت اللعب بضرب الكرة الضربة الأولي، ثم جلست على مقعد مخصوص بعد أن أهديت إليها باقات الرياحين من الرياضيين فتقبلتها بالسرور والشكر، ولعب أمامها الفريقان بانتظام رياضي وفن دقيق بعد أن أخذت عدة صور.
وفي يوم 19 مساء عرضت مسرحية «السلطان عبد الحميد» بحضور أصحاب السمو الأمراء من أعضاء بيت الملك المعظم، وكبار الموظفين من مدنيين وعسكريين وسراة التونسيين. وقد أطرب الحضور «سيد فوزي» بمقطوعاته الغنائية بين الفصول على نغمات بيانو «محمد الدبس». أما مسرحية «خلي بالك من إميلي» فمثلتها الفرقة عوضاً عن مسرحية «سلامبو» التي اعتذرت الفرقة عن تأخرها بسبب مرض السيدة فاطمة رشدي، وعدم الاستعداد لإخراجها في موعدها. وفي «صفاقس» أقام أعيانها وأدباؤها حفلة تكريم للفرقة في منزل كبير، وعلى مسرح المدينة مثلت الفرقة مسرحيتي «مصرع كليوباترا» و«السلطان عبد الحميد»، وإكراماً لجمهور صفاقس مثلت الفرقة مسرحية «العباسة أخت الرشيد». وفي مدينة «بنزرت» مثلت الفرقة مسرحية «مصرع كليوباترا» وعندما أرادت تمثيل مسرحية «السلطان عبد الحميد» منعتها الحكومة لأسباب سياسية، فأبدلتها بمسرحية «العباسة أخت الرشيد».
قصة نيشان
نجاح فاطمة رشدي في تونس في أول زيارة لها، جعل باي تونس يقلدها نيشاناً، فنشرت الخبر جريدة «المقطم»، فعلقت على الخبر مجلة «الكواكب» في مايو 1932، قائلة تحت عنوان «نيشان مجيد!!»: «نشرت «المقطم» في أحد أعدادها الأخيرة أن باي تونس أنعم على الممثلة الكبيرة «فاطمة رشدي» بنيشان الاستحقاق من درجة فارس تقديراً لها واعترافاً بنبوغها. وأضافت إلى ذلك أن أول مصري حاز شرف الحصول عليه كان المرحوم الشيخ سلامة حجازي ثم ظفرت به السيدة منيرة المهدية فالأستاذ جورج أبيض. وقد فات الزميلة العزيزة أن تذكر اسم مصري آخر كان له شرف حمل هذا النيشان وإن لم يشأ الإعلان عن نفسه فهو متواضع راض بما قسم الله له، ألا وهو الممثل المطرب القدير الشيخ «سيد إسماعيل» أحد أعضاء فرقة الماجستيك، ذلك أنه كان ضمن أفراد فرقة المرحوم الشيخ سلامة حين زارت تونس، وحدث أن الشيخ مرض في إحدى الليالي فناب عنه في تمثيل دور «روميو» برواية «شهداء الغرام» الشيخ سيد إسماعيل. وصادف أن كان رئيس بلاط الباي ضمن المتفرجين في هذه الليلة فسر كل السرور وأطنب للباي في مكانة الشيخ سيد. وكان من نتيجة ذلك أن استدعى للسراي وتشرف بالمثول بين يدي الباي فنفحه نفحة مالية كبيرة وسلمه بيده الكريمة براءة نيشان الاستحقاق. هذه هي الحقيقة التي ظل يخفيها تواضع المطرب الكبير الشيخ سيد إسماعيل إلى أن سنحت فرصة حصول السيدة فاطمة رشدي على هذا النيشان، فأردنا أن نرد الفضل إلى ذويه».
هذه القصة الغريبة والتي تحمل مفاجأة تاريخية أغرب من الخيال، تحتمل أكثر من وجه! فالمعروف تاريخياً أن الشيخ سلامة حجازي نال وساماً من باي تونس بالفعل عندما زار تونس عام 1914، ونشرت الخبر جريدة «المؤيد» في يوليو بصورة تهكمية من الحكومة المصرية، قائلة: «الظاهر أن العناية بالتمثيل العربي في جميع البلاد الشرقية أفضل منها في مصر. فبالأمس قررت الحكومة العثمانية إنشاء معهد علمي للتمثيل «كونسرفاتوار». واليوم جاءنا من تونس أن سمو الباي أنعم على حضرة الشيخ سلامة حجازي الممثل المصري الشهير بالوسام الثاني من درجة أوفيسيه، وهو الذي قضى حياته في مصر فلم ينل من الحكومة أدنى مساعدة مادية أو أقل وسام».
وفي حفل تأبين الشيخ سلامة عام 1917، قال «جورج طنوس» كما جاء في كتابه «الشيخ سلامة حجازي وما قيل في تأبينه»: «في مساء الأحد 21 يونيو سنة 1914 مثّل الشيخ سلامة بجوقته في مسرح قصر الباي رواية «صلاح الدين الأيوبي» فشهدها مع سمو الباي الحاكم الفرنسوي والوزراء والأعيان فأعجبوا جميعاً بما رأوا وسمعوا. وتفضل سمو الباي وأنعم عليه بالوسام الثاني من درجة «أوفسيه»».
ومما سبق يتضح أن الشيخ سلامة هو الذي قام بالتمثيل، وأن باي تونس شاهد تمثيله فقلده الوسام!! ولكن إقحام اسم «الشيخ سيد إسماعيل» هنا له منطق مقبول!! لأن الشيخ سلامة كان في هذه الفترة مريضاً بالفالج «الشلل»، مما يعني عدم قدرته على التمثيل بحرية، وكان يمثل وهو جالس على كرسي!! فكيف أدى دوره بصورة أعجب بها الحضور وعلى رأسهم الباي فمنح الشيخ سلامة وساماً؟!! إذن المنطق يقول إن الشيخ «سيد إسماعيل» أدى الدور بالفعل على أنه الشيخ سلامة، وتقلد الوسام على أنه الشيخ سلامة، والجميع أخفى الحقيقة من أجل رفع معنويات الشيخ المريض .. هكذا أظن!!