بكري عبد الحميد وعالمه المسرحي

بكري عبد الحميد  وعالمه المسرحي

العدد 772 صدر بتاريخ 13يونيو2022

صدر عن المهرجان المسرحي الدولي شباب الجنوب كتاب (بكري عبد الحميد)، وعالمه المسرحي وكم سعدنا كثيرا بكتاب المسرح الذين أثروا الإبداع المسرحي من خارج القاهرة، وهم كثيرون على مدى أجيال كثيرة ممن عاشوا خارج القاهرة مثل الشاعر الكبير (محمد عفيفي مطر) الذي عاش لفترة طويلة في كفر الشيخ، وكذا الشاعر الكاتب المسرحي (درويش الأسيوطي) الذي ما زال يعيش في أسيوط، والراحلين (فتحي فضل) من المحلة، و(فؤاد حجازي) من المتصورة، وكذا الذين ما زالوا يعيشون وتستمتع بإبداعاتهم مثل (أشرف عتريس) و(محمود سيد عمر) من المنيا، وكثيرين غيرهم حاولت الإحاطة بأعمالهم في كتاب أو مبدعون خارج القاهرة، أو كتاب المسرح في الأقاليم، وما زال الجنوب والشمال يقدمون لنا مبدعين مهمين في عساكر المسرح وها نحن نلتقي بمبدع من أبناء الجنوب هو الكاتب.. بل والممثل (بكري عبد الحميد) (الذي استطاع أن يجمع ما بين التمثيل والكتابة)، واستطاع ناقدنا المتميز (أحمد هاشم) أن يقدم هذه الموهبة التي تتدفق بالعطاء، كواحد من أبناء جيل يقدم المسرح بشكل حداثي محتفظا بأصالته. فيتناول أولى من مسرحياته، «دم السواقي» مستلهما شخصيات شعبية محفورة في الوجدان الشعبي  مثل (شفيقة) متولي، حسن، نعيمة، بهية، حسين، ياسين، ويبتكر من الحاضر ثنائي أخر هما(نور/ وصبح)، ويتابع قصة كل واحد من الثنائي وهي قصص معروفة في (المواويل الشعبية والمآسي التي أحاطت بهم بسبب الحب والتقاليد البالية والتراتب الاجتماعي والصراع الطبقي، ويسقط الكاتب مثل هذه القصص على العصر الحاضر والواقع الآني وأن أسباب اغتيال الواقع الآني، وأن أسباب اغتيال الحب لا زالت قائمة مما حدث للثنائي الجديد (صبح ونور) حيث تتدخل شخصيات جديدة للتعليق على ما حدث ويتبادلون الحوار مع (صبح ونور) ، وبهذا الأسلوب يستدعون وعلى رأسهم شخصية (أبو الكلام) ليروي قصص العشاق السابقين الذين دارت حولهم المواويل، ويرى المؤلف أن (الكاتب) في هذا النص (كاتب ملتزم- يدرك قيمة الكلمة وقيمة المسرح، وأنه يقدر حرصه على الكتابة المسرحية بشكل مغاير، وأن نسخه المسرحي له دور في إيقاظ وعي متلقية ما وتحريضه للخروج عن صمته) 
وينتقل المؤلف إلى النص التالي وعنوانه (سلاطين الهلايل وتجربة مختلفة) وهم ثلاثي  الهلالي، تغريبه بنت الزناتي، أبواب تونس) مستوحيا إياها من ملحمة (السيرة الهلالية)، وهي معالجات لحدث واحد في ثلاثة أعمال منفصلة برؤى مختلفة، فتظنها منفصلة ويغير في كل معالجة طبيعة الشخصيات وطرق تعاملها مع الطرف الأخر مع تطورات الواقع حوله- فيبدأ بنص «الهلايل» عام 2007 الذي يعيد تجسيد الجدب الذي أصاب فيقرر( أبو زيد) مع أبناء أخته (يحيى ومرعي ويونس) الخروج لريادة الطريق إلى تونس الخضراء وفي عام 2007 يقدم نصا بعنوان (الهلالي) وفيه يبتكر شخصية (غراب البين) علي أحداث السيرة الهلالية عندما يحل الجدب  بنجد وينحسر الكلأ ينجو في جو شكله الكاتب ببراعة يسيطر عليه شواهد القبور وأشجار جرداء وينحصر الكلام فيتوجه فارسهم (أبو زيد) إلى الغرب بصحبة (يحيى ومريم ويونس) أبناء للسلطان حسن، ويعود أبوزيد وحدة تاركا الثلاثي في سجون تونس ويصحبهم (دياب بن غانم) الذي ينتمي إلى أحد فروعها الزغابه ويتوقف (المؤلف) عند شعور (دياب) بأنه لا ينتمي إلى هذه القبيلة وشعوره بالظلم بعدم الاعتراف به كفارس ذي شأن وبأس شديد، وأنه طامع في السلطة، ويقسم بأنه قد اضمر الكراهية لبنى هلال، ويشير (الناقد) أي أن الكاتب (بكرى) لا يلتزم في صياغته بالفصول والمشاهد المسرحية في سلسلة تراتب، وفقا لتطور الأحداث ونمو الحبكة، الدرامية وإنما يقوم باستهلاك المشاهد من بعضها عبر الزمان والمكان في غير تراتب سردي منتظم.. إذ أن هذه التقنية في الكتابة تعطية حرية واسعة في تخطي المكان والزمان كما تعطية الفرصة في استخدام تقنية المونتاج السينمائي في نزول الحدث دون اكتماله في مشهد معين والذهاب إلى حدث أخر في مكان وزمان أخر مختلفين- ثم العودة مرة أخرى للحدث السابق الذي لم يستكمل ومن هنا يلعب الإضاءة دورا بالغ الأهمية في الخروج والدخول من وإلى المشاهد المختلفة دون الالتزام بتقاليد الكتابة المسرحية التقليدية كعمل أدبي، ويشير إلى لغة الكاتب المسرحية بأنها أقرب إلى العامية وهو في ذلك يشبه كثيرا عددا من كتاب المسرح في جيله الذي يتسم بمعرفته بلغة خشبة المسرح بعد تخليها عن الكثير من الصفات الأدبية وعن البناء الخارجي للنص، ويلتقط (الناقد) التجديدات التي طرأت على نصوص هذا الجيل في مسرحيته مستعرضا تاريخ بني هلال بالإضافة إلى (غراب اليمن) الذي يبشر رجال الهلالية بالشؤم من (خلقة البنات) حتى يصبحوا من الأموات في نظر ديان وهو يطارد (سعدي) بنت الزناتي خليفة سلطان تونس بعد أن غزاها الهلالية مجسدا ذلك الشؤم بالإضاءة البؤرية لبحر حب سعدي (المرعي) الهلالي السجين في سجن تونس وكراهيتها لدياب الزغبي ليضع سعدي أمام جرمها الذي ارتكبته من خيانة ولوالدها السلطان وهكذا تنتقل الأحداث إلى زمان ومكان مغايرين دون حاجة أي كتل ديكور مع ثبات صورة شاهد القبور والشجرة العجفاء_ بينما يواصل (دياب) مطاردة (سعدي) ويستحثه (غراب البين) أن يستولي عليها ليصبح سلطانا، ولا يستطيع أحد إغاثة سعدي- لا فرسان الهلالية الذين أصبحوا أمواتا ليسرد تاريخ هؤلاء الأبطال منذ ميلادهم، ولا يبقى للهلالية إلا (الجازية)
التي تقاوم – بلا جدوى- سطوة دياب- الذي لا يهتم بنصيحة أبيه أو غيره- فقد أصبح لا يخشى أحدا ويشير (المؤلف) إلى إجادة الكاتب (بكري عبد الحميد) لاختياره شخصية (غراب البين) و أن المؤلف هنا اهتم بتشابه ضياع الهلالية بسبب صراعاتهم وقبول الآخر بالعيش على أرضهم- وهو مغزى سياسي واضح، ويؤكد (الناقد) مقولته بالإشارة إلى عودة المؤلف إلى نفس الموضوع مرة أخرى عام 2017 في طرحه للقضية الوطنية ليكتب في عام 2019 تحت عنوان «أبواب تونس»، فالقضية ما تزال قائمة في معالجة ثالثة التي تختلف عن المعالجة الأولى المسماة (الهلالي) >
وينتقل الكاتب إلى المعالجة الثانية لسلاطين الهلايل بنصه تغريمة بنت الزناتي لتحاسب (سعدي) نفسها ..وجنايتها فتستنجد بالهلايل فلا يستطيعون نجدتها بعد أن أصبحوا خارج الزمن، وخسروا كل شيء، ويرى الناقد أن هذا النص قد جاء كنذير للمجتمع من خطر إنتشار تلك النماذج الخائفة المتخاذلة_ باللجوء إلى تجسيد نموذج دياب الذي ينتهك كل هذه القيم النبيلة.
نأتي إلى المعالجة الثالثة للهلايل – بعنوان «أبواب تونس»، والتي كتبها المؤلف بين ديسمبر 2019 وفبراير 2020_ أي بعد عامين_ وفي هذا الجزء يشكل الكاتب فضائه المسرحي من صحراء قاحلة، وفي العمق أحد أسوار تونس وتقف(سعدي) في مقدمة المسرح ويشير (الناقد) أن علينا الانتباه إلى تلك الصياغة البصرية الدالة، كذا انعكاس حمدا الواقع لهذا العربى وفي شخصية (سعدي) كارثة الهزيمة، والتي ترفض أن تكون النهاية التسليم لدياب، ويلاحظ الناقد عدم  ظهور، دياب في النصف الأول من المشهد_ لتظهر (خضرة) أم أبو زيد لتحاول أن تحمي سعدي من دياب- ليتحول دورها إلى الزعامة العربية، ورغم تهافت الهلالية إلا أن (المؤلف) على المستوى الدرامي يجد حلا عبقريا (إذ أنه رغم الحالة العربية المتردية تلك يستدعي صوت صرخات نساء الهلايل في حالة المخاض الموحى بالولادة بجيل جديد يكون قد استوعب التجربة القاسية مجتمعيا بنوعي ما حدث للأجيال السابقة، ومحذرا (الزغابي) دياب- وسيغا علينا بالأمل القادم)>
وينتقل الناقد إلى الجزء الثالث من كتابة وعنوانه (استلهام للتاريخ) الذي يتناول فيه نص «نصب تذكاري» الذي كتبه عام 2009، ليبتعد المؤلف قليلا عن التراث الشعبي ليخوض في عمق التاريخ المصري القديم في (مسرحيته) (نصب تذكاري) ويبدأها (لاخناتون) قبل أن يتولى العرش وأفكاره الدينية والسياسية التي تدور حول مملكة أبيه المريض، وغضبة من شطرة كهنة آمون، وحب الناس للملك، وأنه لا بد أن يتغير أمون ليفقد كهنة آمون سطوة، ويتساءل الناقد (بكري عبد الحميد) كيف حاول بكري عبد الحميد طرحه لهذه القضية وهي التخلص من عبادة أمون، واستبداله بأتون، حيث يؤجل إخناتون الصراع بينه وبين كهنة آمون- إلى يأتي يوم تنصيبه ملكا فيسمع للشعب لأول مرة بحضور حفل تنصيبه، وبذلك أخذ زمام المبادرة في صراعه معهم، ويرى (المؤلف) أن بكري عبد الحميد يمتلك مهارة الكتابة المسرحية الدرامية حيث عرف كيف يدير صراع مسرحيته ليجذب انتباه المتلقي حين كشف الوجه الأخر للكهنة الذين يتفرغون لنيل القرابين والهدايا، ويتصدى له (الكاهن الأكبر) بعد أن أفصح كل من طرفي الصراع، عن أصول اللعبة، ويربط ذلك بما حدث في منتصف القرن العشرين حين حصل (السادات) على بعض الشرعية وما تبناه من الانفتاح الاقتصادي والسوق الحر وإطلاقه للتيار الديني لكنها قتلته – بعد أن انتشرت (الجماعات) فيقيم علاقة بين الواقع المعايش والراهن الأتي، ويكثف النص على ممارسات بعض رجال الديني والتابعين  لهم من ملاحقة الناس الذين يعبدون (إتون) إله إخناتون، وما ارتكبوه من إرهاب كما حدث في البر الغربي بالأقصى عام 1996 عن قتلهم للسياح، ويشكو أبناء الشعب من ظلمهم، وتحدث المواجهة الأولى بين أخناتون وكهنة أمون، وتتدخل (أي) والدة اخناتون الصالحة على الكهنة لكنه لا يخشى أحدا  قدر ما يخشى على الشعب، وإلا سوف يعيش في بلد تأكله الفتنة وتمزقه الضغائن، ويتوقف الكاتب أمام مهارة المؤلف في الصنعة المسرحية وقدرته على كيفية الترتيب بمشاهده المتأزمة دراميا بشكل سلس ما ومتسلسل، خاضع للقانون الأرسطي (الضرورة والاحتمال) حين ترفض الأم الخروج من القصر مع إخناتون، وأنه فيلجأ الكاتب إلي حيلة كاشفة لمكنون طرفي الصراع (الكاهن الأكبر ومعه كهنة أمون من جانب، والفرعون أخناتون من جانب أخر .. حين يكشف الكهنة عن هدفهم وهو السيطرة على الناس والاستحواذ على الذهب والفضة تتراكم في المعبد من جديد-  إلى أن يموت الملك إخناتون ويعود العرش إلى معبد أمون (رب الأرباب لكن فكرة اYخناتون تعيش عند الشعب الذي تصنع من أجله كل الأشياء وتظل رؤية المؤلف واضحة ومؤكدة طوال الوقت في أن اطراف الصراع على السلطة الدينية والمدنية تتصارع فيما بينها على السلطة وإحكام السيطرة ويظن الشعب مرازحا تحت نير الظلم، وهو الذي يدفع ثمن الصراع بين الأطراف المختلفة_ دون أن يجني ثمار الانتصار أي طرف) كما يقول المؤلف.
وفي هذا الفصل (4) منذ هذا الكتاب يتناول المؤلف تجربة بكري عبد الحميد في (الإعداد المسرحي) حيث أعد رواية رد منافي الرب)  اللي كتبها  الروائي (أشرف الخمايسي) عام 2018- بعد أن قدم المؤلف إعدادين من قبل لروايتي (شيء من الخوف) 2009، و (دعاء الكروان) 2015- ويقرر (المؤلف) (إذن فهو يتناول في كتابه هذا رواية  «د منا في الرب» والمسرحية السينمائية)، ويقدم دفاعا عن فكرة (الإعداد المسرحي) بحجة ضعف النصوص المسرحية لذا فهو يرى أن إعداد بكري عبد الحميد لهذه النصوص الثلاثة هو (أنه استطاع أن يضع يده ببساطة على ما عتالة من جرأة يُحسد عليها عندما تناول  (شيء من الخوف) و (دعاء الكروان) لأنهما أيضا عملين سينما تبيين كبيرين قبل أن يكونا عملين روائيين، وهو في هذه التجربة الأخيرة كان أكبر جرأة لأنه يتناول هنا- عبر تقنية شديدة الخصوصية حول الشخوص والأمكنة والتقنية لرواية  لأن كاتب الرواية يركن إلى الصعب في وسط الصحراء الغربية، وعلى مساحة زمنية عريضة، واستدعاء للحظة ماضوية بشخوصها وHحداثها لإعادة تشخيصها أمام من يستمعون إلى الحكي عن طريق (العودة إلى الماضي)، حيث دارت الأحداث أيام الاحتلال البريطاني لمصر، وتتمحور الأحداث على مجموعة من المهمشين وأحداث متكررة، وصبية يقومون على رعي الأغنام، ويشير إلى عبقرية، الروائي (أشرف الخمايسي) في القدرة على نسخ مجموعة من الأحداث البسيطة، حول احتراق منزل (سعدون)، ومحاولات استخراج جثة الطفل الميت من عين الماء، وحكاية (غنيمة) ، و(......) ذا المائة عام ورحلته مع الراهب، وسلوك المستعمر، وأن من يدخل إلى عالم هذه الرواية ويتعرف على تفاصيلها الفنية والبنائية لا يستطيع أن يتخلص من الشعور، بالاشتقاق على من يقترب منها، وتوانيه الجرأة أو الحماسة لتحويلها إلى نص مسرحي-  فهي تشكل شركا  أملس لكل مقترب منها حتي وإن توافرت له حسن النوايا_ إذ كيف يتعامل مع مثل ذلك العمل المكتمل، وماذا يمكن أن يضيف لنا العالم المكتمل، لكن (بكري عبد الحميد) حدد  ثورة أن ينقل النص من الوسيط الروائي إلى الوسيط المسرحي.. محددا دوره بتواضع وذكاء ومحددا مسؤوليته في إطار الدور الذي قام به وأعلنه- فهو يضع في السطور الأولى شخصيات المسرحية في الفضاء المسرحي دفعة واحدة، وبتوزيع محسوب في غير ارتجال ولتكتشف تلك الشخصيات في الفضاء المسرحي دون ارتجال أمام المسرح لتظل دائما أمام المنفرج ليتجاوز بذلك تعدد الأمكنة والمشاهد بشكل كمي وكيفي، وتوفر له حرية الالتجاء إلى أكثر من ممثل ليجسد الشخصية ومراحلها العمرية، ويستخدم بعض التقنيات السينمائية على مستوى الصورة وعلى مستويات أخرى، وتوظيف الإضاءة مثل تقديم مشهد مكثف للنص المسرحي كامل كتمهيد للأحداث، ويرى الناقد أن المؤلف سبق في هذا الكثيرين، وكذا اللجوء إلى تعدد الأصوات (اليوليفونية) على  الأحداث الكثيرة التي يستدعيها.. مع اعتماده على التقنية المسرحية التقليدية في غرضه للحدث، وجعل النص مجموعة من المشاهد السينمائية تنقسم إلى مجموعة من اللقطات مختلفة الأمكنة والأزمنة- إذا لعبت الإضاءة دورا رئيسيا في هذه التقنية، وكذا يعتمد تقنيات الدراما الإذاعية في تنشيط خيال المتلقي، وإلى التوليف (أي المونتاج في كثير من تفاصيل النص ويتعدد (التقطيع) بين تلك المشاهد ذهابا وإيابا مع كثرة الشخصيات وتعدد الأمكنة والأزمنة أصبح نصا مسرحيا متميزا.
والكتاب في النهاية جهد متميز للبحث عن الأصيل والصادق في أدبنا المسرحي القادم من أقصى الجنوب الذي لم ينل حقه الطبيعي في الوجود للمشاركة المتميزة في حياتنا المسرحية التي تعاني في كل الظروف.. وتحتاج إلى من يأخذ بيدها.


عبد الغنى داوود