تأثير الملحمية في المسرح العربي «نماذج مختارة»(2)

تأثير الملحمية في المسرح العربي  «نماذج مختارة»(2)

العدد 820 صدر بتاريخ 15مايو2023

تحليل مقارن 
مما سبق سنحاول أن نقوم بعمل تحليل مقارن بين نص «علي جناح التبريزي وتابعه قفة» لألفريد فرج التي استفادت من مسرحية بريخت «السيد بونتيلا وتابعه ماتي».
 
أولا: صياغة العنوان 
لقد اعتمد بريخت في عنوانه على أسماء شخصيات مسرحيته، فعنونها بالسيد بنتيلا وتابعه ماتي، وهو ما فعله ألفريد فرج أيضا فعنون مسرحيته «علي جناح التبريزى وتابعه قفة، لقد اعتمد الكاتبان على ذكر البطل والتابع.
ثانيا: الرسالة العامة التي يقدمها النص:
إن الرسالة العامة التي تقدمها المسرحيتان. يتناوب علي (الشخصية الرئيسة) شخصية مختلفة يتقمصها هو ويؤكد وجودها للآخرين تابعه قفة، تظاهره بأنه أمير فاحش الثراء، والقطب الآخر له هو شخصيته الحقيقية كتاجر مفلس. أما تابعه فهو وجود واحد مستمر: صانع أحذية سابق أصبح متسولا. تبين المسرحية مغامرتهما في بلد حل به الفقر، لكن الصراع الحقيقي لا يدور في هذه المسرحية بين هاتين الشخصيتين، كما هو الأمر في مسرحية بريخت حيث اختلف الأمر.
إن  الصراع بين علي التبريزي والحكام الأغنياء في ذلك البلد الفقير، فتنقل علي بين القطبين عملية واعية تماما وتعد خداعا، وهو أمر لا يتفق مع ملحمية بريخت، ولكن يمكن اعتباره أيضا سخرية من خداع النفس عند البشر، فإن علي عندما يتعامل من منطلق أنه صاحب الأموال فاحش الثراء يقوم بتوزيع كل ما يتحصل عليه من أموال التجار على الفقراء مدعيا أنه يتنظر قافلته، ويمكن اعتبار هذا الفعل هو نتاج لصدمة علي جناح التبريزي بعد أن فقد ثروته على حفلات الولائم التي أقامها من أجل أصدقائه، ليجد نفسه وحيدا بعد فقد ثروته. 
يناقض هذا ما يحدث مع بنتيلا الذي ينتقل بين العالمين بشكل غير واعٍ نتيجة لشرب الخمر، حيث إن ظهور شخصية بنتيلا الطيبة العطوفة مرتبط بحالة سكر بنتيلا، فالخمر هي التي تتحكم في تقلبات بنتيلا على العكس من علي الذي ينتقل من حالة إلى أخرى بوعي كامل.
لهذا يمكن القول إن ألفريد فرج تأثر بصنع الحدث من بريخت، ولكن اختلف دافع كل من الكاتبين في صنع شخصيته الرئيسية وفقا لثقافة كل منهما، ففي الوقت الذي جعل فيه بريخت شخصيته بنتيلا تسكر، فيظهر بنتيلا كان ألفريد فرج يعتمد على حيلة الخداع والتنكر لتظهر الشخصية.
ثالثا: توظيف شخصية التابع  
اعتمد بريخت في مساعدة بطله على شخصية “التابع/ المربي” أو “التابع/ الصديق” الذي يرافق سيده في رحلته ويعمل أغلبية الوقت على عدم وقوع سيده في مأزق إما بمساعدته أو دفع الضرر عنه دون علمه. 
فقد حاول ماتي أن يمنع الأذى عن سيده بنتيلا حين حاول توضيح وضع السيد للعمال الذين تم انتقاؤهم للعمل لديه من السوق أثناء سكره، حيث أخبرهم بأن السيد بونيتلا لن يقوم بتوظيفهم حيث إن صفاتهم الجسدية لا تلائم الوظيفة. 
وحين حاول أن يساعد ابنة السيد بنتيلا (إيفا) على الهروب من خطيبها (إينوسيلاكا) حيث إنها لا تحبه، هذا بالإضافة إلى تحمل ماتي إهانات سيده له، والشخصية الازدواجية التي يمتلكها بين سكره وبين وعيه، ولم يحاول قط استغلال شخصيته السكيرة التي يكثر خلالها بصرف الأموال.  
أما ألفريد فرج فهو يرى أن الثراء الحقيقي في الصديق الوفي وضرب لنا مثلا في توظيف “قفة” الذي تقاسم ماله الذي جمعه بصعوبة بالغة مع شخصية علي، وبالرغم من ضياع الأموال فإنه قد ساعده في النهاية بعد أن تسبب في الإيقاع به في يد الشرطة، مشيرا إلى أن القيم النبيلة لا يرتبط وجودها بالمال أو الوظيفة أو المكانة؛ بل هي طبيعة بشرية داخل الإنسان، فالأخلاق النبيلة وجدت في أشخاص مختلفين ووظائف مختلفة، وهو ما بينه من خلال علي جناح التبريزي وقفة تابعه وزوجته الأميرة ابنة الملك الجشع، والمفارقة في وجود ابنة تحمل الصفات النبيلة من أب جشع لا يهمه غير مصلحته، هو إبراز ذلك الاختلاف البشري أن نفس البيئة والمستوى قد يخرج منهما شخصان بصفات مختلفه تماما بين الخير والشر.
رابعا: السمات الأسلوبية داخل النصين
كتب بريخت المسرحية في برولوج واثني عشر مشهدا، إذ تبدأ المسرحية بالبرولوج ولا يعتبر هنا مدخلا لقصة المسرحية بقدر ما يوظفه بريخت في تقنية المسرح الملحمي، لكي يحقق به أسلوب التباعد الذهني ويستخدمه في تأثير أسلوب التغريب.
وهذا ما أكده د. أحمد سخسوخ حيث تحدث خلال تحليله للنص: “بالفعل اكتملت في هذه المسرحية عناصر الملحمية لدى بريشت إذ استخدم البرولوج، وأساليب التعريب المسرحي، وكتبت المسرحية في عدة مشاهد يفصل كل مشهد من الأخراعية وطرق إبعاد المتفرج ذهنيا عن الحدث ومفارقات كوميدية وغير ذلك من تقنيات المسرح الملحمي”.1
كتب ألفريد فرج مسرحيته «علي جناج التبريزي وتابعه قفه» من فصلين يحتوي كل منهما على عدد من المشاهد ويفصل بين الفصلين لوحة صغيرة تُسمى «الجراب» لا تمت أحداثها للمسرحية بصلة.
يعد تشابها مع نص بريخت الملحمي، حيث إن الهدف من الفصل الموجود في اللوحة الواقعة ما بين الفصلين هو نفس الهدف الواقع في نص بريخت الذي فصلت بين مشاهده أغنية، ليكون الهدف هو تحقيق أحد مبادئ الملحمية في فصل المشاهد عن الحدث منعا للاندماج في الأحداث بهدف إعمال العقل عند المتلقي في فهم الأحداث والتفكير فيها.  
 ويأتي الخيال في نص علي جناح التبريزي في مقابل ازدواجية الشخصية عند بنتيلا، حيث إن التبريزي المفلس الذي فقد ثروته يعي أن لدى الإنسان سلاحا آخر، هو الخيال، وبه يمكن للإنسان أن يغير الواقع أو على الأقل أن يراه كما يشتهي، فيترك لخياله العنان ليتصور مائدة عامرة بكل صنوف الطعام، وحين يشد رحاله إلى بلاد بعيدة، فإنه يتخيل أنه أمير تتبعه قافلة محملة بكل شيء، فتنفتح أمامه أبواب المدينة، وتجري أموالها بين يديه، فيوزعها على الفقراء. وهكذا يتمكن التبريزي –بالخيال– من تغيير الواقع وإقرار العدل. 

يبدو الحضور البريختي قويا في مسرحية «الملك هو الملك» لسعدالله ونوس، فالمسرحية مكونة من مدخل، وخاتمة، وخمسة مشاهد، وأربعة فواصل، لكل مشهد وفاصل عنوان يلخص هذا المشهد أو ذاك الفاصل، مثلما فعل بريخت في بعض أعماله المسرحية، فنجد سعدالله ونوس قد طرح عناوين المشاهد على لافتات مثل: (الملك يتذكر أن الرغبة مسلية وغنية بالطاقات الترفيهية)، (الواقع والوهم يتعاركان عندما يضجر بيت مواطن اسمه أبو عزة)، (الملك يعطي سريره ورداءة للمواطن أبي عزة)، (المواطن أبو عزة يستيقظ ملكا)، وعناوين الفواصل مثل: (حكاية عن تاريخ التنكّر وسر الجماعة السعيدة)، (محكوم على الرعية الآن أن تعيش متذكرة)، (تذكر بأنها لعبة ونتراهن على النتيجة)... إلخ، وهذه اللوحات الأربعة عشرة لعلم الأحداث وتعلّق عليها.

مسرحية «الملك هو الملك» حملت بين طياتها آراء سياسية واجتماعية مفادها أن الأنظمة لا تتغير بتغير الشخصيات، تدور أحداث المسرحية حول ملك مستبد قد اتخذ من أنين رعيته متعة له، فما إن حس بالملل حتى نزل إلى عامة الناس متنكرا ليتسلى بهمومهم، فيلتقي بتاجر قد انتكست حالته وأفلس فآل إلى الخمرة التي جعلته يهذي بالحكم رغبة في الانتقام ممن كان سببا في إفلاسه، فيجعل منه ملكا لفترة كي يستمتع بقرارته البلهاء، وما إن يتحقق حلم التاجر حتى يلجأ إلى أساليب القهر بغية الحفاظ على عرش الملك، فيحذو حذو الملك المستبد، وهنا تكمن العقدة، فيصدق عامة الشعب أن التاجر هو الملك، فيجد الملك نفسه قد راح ضحية لما خطط له في تلك اللعبة وخسر عرشه.    
يلاحظ من وسائل التغريب في النص، أن عمد سعدالله ونوس إلى قطع الحدث، وعدم الحرص طبعا على تطوره، حتى لا يحدث التشويق والاندماج بالنسبة للمشاهد، واستخدم سعدالله ونوس الفعل الماضي للتغريب التاريخي وحرصا على أن تظل هناك مسافة بين الحدث والمشاهد.
استخدم بريخت في مسرحيته «رجل برجل»، مشهد الجنود الإنجليز وهم يسلمون ملابس زميلهم المفقود إلى المغفل «غالي غاي»، ويتحول من مجرد حمال معقل إلى جندي نشيط، يستخدم سعدالله ونوس الحيلة نفسها في مسرحية «الملك هو الملك»، عندما يعطي أبو عزة المعقل تاج الملك ورداءه، ويتحول بذلك من مجرد معقل إلى ملك.
 تقوم الفكرة الأساس مختلفة في كلتا المسرحيتين عند كل من بريخت وسعدالله ونوس؛ إذ إن أبا عزة لم يتحوّل باختياره، كما هو حال “غالي غاي”، فالرداء عند بريخت لا يلعب إلا دورا ثانويا، أما عند ونوس تلعب دورا أساسا وأعطيت رداء وتاجا، وأعطيت ملكا، وتقوم الغاية الأساس على استبدال إنسان بآخر من خلال تغيير التوب، إنها تنفي إمكانية تغير الإنسان، إذا لم يستبدل النظام، وتقوم المسرحية إجمالا على الخليل بنية السلطة في الأنظمة القائمة على الملكية.
“اعتمد ونوس في بناء مسرحية (الملك هو الملك) على إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، ساعيا إلى إسقاط التراث على الواقع العربي المعاصر للتعبير عن مشكلات عصره وهموم شعبه، وهذه هي القضية الأساس التي شكلت هاجسا فكريا وفيا في مسرحيته (الملك هو الملك)”2.
يمكن القول إن الدرس الواضح الذي طرحته المسرحية، يتمثل في أن تغيير الأفراد، لا يعني إطلاقا تغير الأنظمة، فليست المسألة مسألة شكل فقط، وتغيير الشكل، لا يعني في حال من الأحوال تعبير المضمون أو الجوهر، فعلى الأنظمة أن تعبر من قواعدها. وهكذا تمكن ونوس في مسرحية «الملك هو الملك» أن يطرح للمشاهد العربي، شكلا مسرحيا عربيا استخدم التغريب وسيلة لكسر إيهام المتلقي، وجعله يقظا، دافعا به إلى التفكير فيما يدور حوله من أحداث.
وفيما يلي نستعرض بعض النماذج من مسرحيات قاسم محمد، مسرحية «بغداد الأزل بين الجد والهزل» [...] تعالج هذه المسرحية قضايا النضال السياسي حيث القدم (حركة النساجين) وانتفاضتهم قبل مئات السنين هذا على مستوى الرسالة الفكرية التي تستهدفها المسرحية، فإنها تتناول الكفاح المعاصر من أجل الديمقراطية – وهذه مسألة جوهرية في الصراع الطبقي اليوم سواء أكان ذلك في العراق أم في سائر البلدان العربية.
يناقش في «كان يا ما كان» وهو عنوان مسرحية تاريخية أخرى. وهي شعبية تلتحم في كل واحد بشخصية (الرواية) الذي يفتتح المسرحية ويقود الجوقة ويخبر الجمهور من الحدث قبل تقديم المشهد ويعلق على الأحداث بالأغاني والمقامات . إنها الهوية التعليمية/ التربوية»3.
في الختام توصل الباحث إلى وجود بعض المتشابهات في النصوص النماذج الثلاثة المتأثرة بالمسرح البريختي: 
استلهام التراث تشابه في النماذج الثلاثة لنقض الأوضاع المجتمعية. 
 تقسيم النص المسرحي إلى عدد من المشاهد. 
وجود فصل بين المشاهد بأغنية أو بمشهد فاصل ليعمل على عدم تسلسل الأحداث في إطار ثابت ليحث المتلقي على التفكير.
 وجود تشابه ملحوظ في عناوين النصوص المسرحية المستخدمة بين بريخت والكاتب العربي.
 التشابه في الرسائل العامة للنصوص من حيث الفكرة والاختلاف في المضمون وطريقة التناول. 

المراجع
كتب 
أ.د إدريس قرقوي, أثر التغريب في المسرح الجزائري الناطق باللغة الأمازيغية, مجلة النص المجلد 80 / العدد: 3 , ص 633-656, 2021
ألفريد فرج, أضواء المسرح الغربي, دار الهلال, 1989
 د. إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، 1985
د. أنيس فهمي إقلاديوس، من أعلام المسرح الألماني المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة، 1999
د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، سلسلة عالم المعرفة, الكويت، 1978
   د. ماري ألياس – د. حنان قصاب، «المعجم المسرحي»، كتبة لبنان ناشرون، لبنان،1997
د. محمد صالح مروشية, أثر المسرح الملحمي البريختي في التغريب عند سعدالله ونوس, مجلة دراسات اللغة العربية وآدابها - فصلية محكمة - العدد الثامن عشر, 2014
مقالات 
[https://www.marefa.org/%D8%B3%D8%B9%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D9%88%D9%86%D9%88%D8%B3]
   ألفريد فرج، وعبلة الرويني. “حوار مع الكاتب ألفريد فرج. قسم أدب ونقد، بنك المعرفة المصري [http://search.mandumah.com/Record/306899 ]
 غازي شريف “المسرح الملحمي والتغريب عند بريشت. “مجلة الآداب, بنك المعرفة [http://search.mandumah.com/Record/264485]
لميس العماري، “برتولد بريخت والمسرح في العالم الثالث” مجلة الأدب بنك المعرفة[25516.search//:4/Record/com.mandumah http]]
 مقال على موقع المعرفة الإلكتروني يتحدث عن سعدالله ونوس.

هوامش
  1- د.أحمد سخسوخ, برت بريخت “ النظرية والتطبيق .. مسرحاً وسينمائياً”، اكاديمية الفنون, دراسات ومراجع, 2006, ص162
2- د. محمد صالح مروشية, أثر المسرح الملحمي البريختي في التغريب عند سعد الله ونوس ( مرجع سابق)
3 - لميس العماري،. «برتولد بريخت والمسرح في العالم الثالث.» مجلة الأدب بنك المعرفة[25516.search//:4/Record/com.mandumah http]]


محمد أحمد كامل