المكان والزمان في المسرح بعد الدرامي(1-2)

المكان والزمان في المسرح بعد الدرامي(1-2)

العدد 756 صدر بتاريخ 21فبراير2022

المكان: المكان الدرامي والمكان بعد الدرامي:
 عموما يمكن القول إن المسرح الدرامي يجب أن يفضل مكان وسيط. ومن الخطورة علي الدراما المكان الوسع والمكان الحميم. ففي كلى الحالتين، تتعرض بنية الانعكاس للخطر. لأن إطار خشبة المسرح توظف كمرآة تسمح بشكل مثالي بعلم متجانس من المشاهدين لتمييز نفسه في عالم الدراما المتناغمة بنفس القدر. والمسرح علي العكس من ذلك لا يسيطر فيه نقل العلامات والإشارات على الإدراك فقط، بل أيضا يسيطر علي ما سماه جروتوفسكي «قرب الكائنات الحية»، ويتعارض مع المسافة والتجريد الضروريين للدراما. وإذا قللنا المسافة بين المؤدين والمتفرجين لدرجة أن يخفي القرب البدني والنفسي  (التنفس والعرق واللهاث – تقلص العضلات والتحديق) الدلالة الذهنية، وعندئذ تتطور مساحة الجاذبية المركزية الدينامية المتوترة يصبح فيها المسرح لحظة طاقات مشتركة بدلا من علامات منقولة. والتهديد الآخر للمسرح الدرامي هو المساحة الواسعة ذات التأثير الطارد. وهذا يمكن أن يكون فراغا يفوق أو يفسر مفهوم كل العناصر الأخرى ببساطة من خلال أبعاد مذهلة (أي مسرح برين أوليمبيا ستاديون في عرض جوبر «رحلة الشتاء») أو الفراغ الذي يستعصي علي الإدراك لأن الأفعال تحدث في نفس الوقت في مواقع مختلفة، كما هو الحال في المسرح المتكامل. فمن الشائع في كل أنواع الفراغات المفتوحة التي تتجاوز الدراما أن يصبح الزائر أقل أو أكثر نشاطا، أو يصبح إلى حد ما ممثلا مشتركا. فالعرض المنفرد لمسرحية K.I. المأخوذ من رواية «الجريمة والعقاب» للمخرجة «كاما جينكا Kama Ginka» (كما عرض في أفينيون عام 1997) حول المساحة التي لم يكن بها سوى عدد قليل من الأدوات المحطمة إلى مشهد ذو ذي توجه مباشر من المتفرجين الحاضرين. إذ تم الاتصال بهم بشكل فردي، وأخذهم باليد، وطُلب إليهم المساعدة وانجذبوا الهي الهيستريا المرحة للممثلة (أوكسانا ميسينا) وهي تؤدي شخصية كاترينا ايفانوفا من رواية دوستوفسكي. إن عدم وضوح الخط الفاصل بين التجربة الواقعية والخيالية إلى هذا الحد له توافقات بعيدة المدى لفهم المكان في المسرح: انه يتحول من فضاء رمزي استعاري إلى فضاء مجازي. إذ يخلق الشكل البلاغي للمجاز العلاقة والتكافؤ بين معطيين عن طريق جعل الجزء يحل مكان الكل (pars pro toto: انه عقل ذكي)، أو باستخدام رابطة خارجية (أي ما ينكره فيتشجنشتاين ...). وبهذا المعنى في علاقة المجاز أو التجاور، يمكننا أن نسمي مكان المشهد «المكان المجازي» إذا لم يكن معّرفا في المقام الأول بأنه يشترك رمزيا في عالم خيالي آخر ولكن يبرز كجزء من استمرارية مكان المسرح الحقيقي. 
 في المسرح الكلاسيكي، فان المساحة التي يغطيها الممثلون تعبر كمجاز أو رمز، فهي المساحة الخيالية التي يقطعها جروشا Grusha في جبال القوقاز. ففي مساحة التوظيف المجازي، تمثل المسافة التي يقطعها الممثل إشارة إلى مساحة حالة المسرح وبالتالي يشير مجاز الجزء يحل محل الكل إلي المساحة الحقيقية لمجال اللعب ومن باب أولى المسرح والمساحة المحيطة به. 
 وبالمقارنة، فان فراغ خشبة المسرح كلوحة يغلق نفسها بشكل متعد ومنظم عن قاعة المسرح. وانغلاق تنظيمها الداخلي هو أمر أساسي. ومسرح روبرت ويلسون هو نموذج لتأثيرات خشبة المسرح كلوحة. وقد قورن فعلا بتقاليد الصورة الحية. فالإطار جزء من اللوحة في الرسم. ومسرح ويلسون هو المثال الأساسي لاستخدام الأطر. فهو أشبه قليلا بفن الباروك، حيث يبدأ كل شيء وينتهي هنا – بالأطر. وتنتج تأثيرات الأطر، مثلا بإضاءة مميزة تحيط بالأجسام، وبالمجالات الهندسية المميزة لأماكنها علي أرضية المسرح، وبالدقة النحتية للإيماءات والتركيز الذي يبرز الممثلين الذي لهم تأثير احتفالي وبالتالي تأثير تأطيري. 
 يمكن أن يوجد الشكل الآخر للفراغ في المسرح بعد الدرامي في أعمال جان لوارث. ففيها يتم فصل الأجسام والإيماءات والأوضاع والأصوات والحركات عن استمراريتهم الزمنية المكانية، المتصلة من جديد والمعزولة والمجمعة في مونتاج أشبه بمونتاج اللوحة. ويصبح التسلسل الهرمي المعتاد في المكان الدرامي (موقع الوجه والإيماءة ذات المغزى ومواجهة الخصوم) قديما، ومعهم المساحة الذاتية؛ المساحة المرتبة وفقا لذاتية الأنا. ففي مواجهة ساحة اللعب التي ناقشناها في أجزاء فردية غير متجانسة، يكون لدى المشاهد انطباع بأنه يتم توجيهه للأمام والخلف بين تسلسلات متوازية كما هو الحال في السينما. ويؤدي إجراء مونتاج المشهد لمفهوم يذكرنا بالمونتاج السينمائي. وهنا يمكن إبراز أحد أهم المبادئ التنظيمية الغريبة علي فن الرسم الكلاسيكي: يتصرف الممثلون علي خشبة المسرح بشكل متكرر مثل المتفرجين الذين يشاهدون ما يفعله المؤدون الآخرين. وبالتالي، يتطور التركيز الغريب علي الفعل الذي يُشاهد ويوظف بشكل تناظري في اتجاه النظرة في اللوحات الكلاسيكية،  والتي تتم متابعتها من خلال نظرات الشخصيات التي يجري تمثيلها تتعقب مقدما المسار البصري للمشاهد. 
 ومع ذلك، يمكن ملاحظة استراتيجية أخرى في أعمال بينا بوتش حيث يبدو أن  الفراغ لممثل مشارك للراقصين يراقب زمن رقصهم بالتعليق علي العمليات البدنية. ففي عرض «قرنفل Nelken»، يداس حقل الآلاف في أزهار القرنفل بالأقدام، علي الرغم من أن الراقصين حاولوا في البداية عدم دهس الزهور. وهذه الطريقة يوظف الفراغ بطريقة متعلقة بالصوت. ويصبح في نفس الوقت مكانا للآثار، إذ تظل الأحداث حاضرة في متابعتهم بعد أن تحدث وتمر، ويصبح الزمن أكثر كثافة. والاحتمال الآخر لإحياء الفراغ هو عملية تحديد مكان الأفعال الجسدية بمساعدة الفراغ الصوتي المبتكر بواسطة الميكروفونات. فمثلا تصبح دقات قلب الراقصين مسموعة عن طريق مكبرات صوت القلب، ويتم تكبير صوت زفيرهم وشهيقهم من خلال الميكروفونات وتملأ الفراغ. مثل هذا الجسم المكاني المشحون بالطاقة يهدف إلى التواصل مع الجهاز العصبي للمشاهدين مباشرة، وليس إبلاغهم. فالمتفرجون لا يشاهدون، بل يعايشون أنفسهم داخل الزمان-المكان. 
 خرج فراغ المسرح التقليدي هناك احتمالات توصف بأنه المسرح محدد الموقع site specific theater وهو مصطلح يستخدم أصلا في الفنون البصرية. والمسرح هنا يسعى إلى بناء معماري أو موقع آخر - (في الأعمال الأولى لفرقة هولنديا كان مجرد قطعة أرض مسطحة) – ولا يوحي كثير بما يوحي به مصطلح الموقع المحدد، لأن كلمة الموقع Site تتطابق جيدا مع نص معين، ولكن لجعله يتكلم ويلقي ضوءا جديدا من خلال المسرح. فعندما تُعرض أرض مصنع، أو محطة كهرباء أو مكان مخلفات، فإنها نظرة جمالية جديدة عليهم. فالفراغ يقدم نفسه. ويصبح لاعب مشارك بدون معنى محدد. ولا يتم تغييره بل يصبح مرئيا. ورغم ذلك، يكون المتفرجون أيضا لاعبون مشاركون في هذا الموقف. فما يتم عرضه تحديدا في المسرح المحدد الموقع هو أيضا مستوى من القاسم المشترك بين المؤدين المتفرجين. فجميعهم ضيوف في نفس المكان: جميعهم غرباء في عالم المصنع أو محطة الكهرباء أو حظيرة تجميع طائرات. وبالمثل كما في الفنون البصرية، وفي النهاية في فن الأداء، غالبا ما نجد أعمالا محركها هو تنشيط الأماكن العامة. ويمكن أن تتخذ هذه الأماكن أشكالا مختلفة.  ففرقة Station House Opera تحت إدارة جوليان مينارد سميث تبحث عن رابط مع الحياة اليومية ومن أجل هذا الغرض تفهم المسرح علي أنه وعي متطور بالعمليات المعمارية (أي تستخدم في عروضها المعمارية كتلا من الهواء في مختلف المواقع). فالمسرح يفتح بطرق مختلفة في المشروع بعنوان «تفريق أمريكا Aufbrechen Amerika» والذي قدمه كريستوف نيل، وفولفجانج ستورش، وفيبرهارد كلوك في عام 1992 (في القرن الخامس عشر عند اكتشاف أمريكا) في مدينة بوخوم وما حولها. وبامتداد العرض لمدة ثلاثة أيام، وكان مزيجا من الرحلات الغريبة بالحافلات والقطارات والسفن عبر التنوع غير المتجانس للمناظر الصناعية بين بوخوم ودويسبرج وجيسنكرشين ومولهايم. وتحولت المنطقة وبيئتها اليومية إلى مشهد ضخم. فالمسرح الذي وجد مركزه منذ فترة طويلة في مكان آخر غير عالم المسرح الدرامي الخيالي يضم أيضا الفراغ غير المتجانس والفضاء اليومي والحقل الواسع الذي ينفتح بين المسرح ذي الإطار والواقع اليومي غير المؤطر بمجرد ظهور أجزاء من هذا الأخير الذي يتم تمييزه بطريقة مشهدية أو إبرازه أو عزله أو تعريفه من جديد. 
الزمن: 
الجماليات بعد الدرامية للزمن: 
اعتاد المسرح علي البعد الزمني الغريب عنه. ففي الوقت الذي يمنح فيه النص للقارئ خيار القراءة الأسرع أو الأبطأ، أو يكرر أو يتوقف، فان زمن الأداء المحدد للعرض في المسرح بإيقاعه المحدد والدراماتورجيا الخاصة به (سرعة إيقاع الفعل والكلام، والمدة، والوقفات والصمت) ينتمي إلى العمل. ولم تعد مسألة الزمن تتعلق بذات واحدة (قارئة) بل بالزمن المشترك لعدة ذوات (قضاء الوقت بشكل جماعي). بهذه الطريقة، تتشابك الحقيقة المادية والحسية لتجربة الزمن بشكل لا ينفصل مع الحقيقة الذهنية، وتحديدا التجسيد الجمالي لما هو مقصود في الأداء (كما يقول بافيس اتباعا لانجاردن). وقد كان عرض «عصر الذهب L’Age d’Or» الذي قدمته فرقة مسرح الشمس Theatre du Soleil (1975) حدثا رئيسيا في تاريخ مسرح ما بعد الحرب، الذي يحكي في محطات فردية حياة عامل جزائري مهاجر (المشاهد الأسرية والصراعات في العمل ..الخ) بأسلوب الكوميديا دي لارتي التمثيلي. حيث قُسمت قاعة كارتوشري في فينسين إلى أربعة أروقة، مغطاة بسجاد رمادي، جلس الجمهور علي منحدراته يشاهد الأداء في الرواق الخاص به.  ومن مشهد إلى آخر، يُقاد الجمهور إلى رواق مختلف، وهو انتقال يؤدي دائما إلى تشكيل مجموعات جديدة وترتيبات للجلوس. وقد ظهرت شدة الكثافة الخيالية للمسرحية، التي نقلت الجمهور إلى الزمن الآخر برغم تقنياتها الملحمية وبسببها أيضا، من خلال العديد من الابتكارات المذهلة. وأحد أبرز الأمثلة: أن العامل يضطر إلى العمل علي الدعامة العالية، علي الرغم من العاصفة الشديدة، فيسقط منها ليلقى حتفه. وقد نجحت الطريقة التي يقف بها المؤدي في جعل وضع جسمه المرتفع في الهاوية مرئيا من خلال الطريقة التي فتح بها رجليه وهو ينظر إلى أسفل في قلق ؛ والطريقة التي عرض بها العاصفة من خلال رفع رجلي سرواله بحيث ظهر أنهما يرفرفان بشكل مرعب وكأنه في عاصفة شديدة ؛ والطريقة التي حدث بها سقوطه وكالعدو سريع  خلال القاعة بذراعين ممدودتين ؛ فقد كانت هذه من أعظم لحظات السحر في المسرح. وفي نهاية العرض حدث شيء ملحوظا: عندما رُفعت الستارة جانبا لمع ضوء باهر من الخارج. لقد كان محاكاة لضوء النهار، ومع ذلك، فقد أدت حقيقة فقدان المتفرجين الإحساس بالزمن بالكثير منهم إلى أن ينظروا إلى ساعاتهم – وكأن الأمر ربما كان صباحا دون أن يشعروا بمرور الساعات. وللحظة من الارتباك، يمكننا فعلا أن نعتقد أن هذا ممكنا: لقد أكد الزمن الآخر للأداء نفسه في مقابل حقيقة الساعة الداخلية عند الناس .
 الفعل الخيالي والعرض علي خشبة المسرح مألوفان مع بعد آخر يتخطى المستويات الزمنية المذكورة هنا، وهو تحديدا بعد الزمن التاريخي. وهو أمر مهم لكل العاملين في المسرح الدرامي الذي يتعامل مع النصوص القديمة ويتغذى علي فهم الشخصيات والقصص القديمة.  ورغم ذلك، يظل هذا التمييز بالنسبة لتلقي المسرح نظريا، لأن هنا يتطور اندماج مستويات الزمن غير المتجانسة في زمن واحد في تجربة المسرح. فحتى البنيات المعقدة مثل «المسرحية داخل المسرحية»، والمفارقة التاريخية، وكولاج الزمن، لهم أهمية في المسرح أكثر من أهميتهم في النص. يتم تفعيل زمن الأداء الحي إلى درجة أنه يحدد جميع مستويات الزمن التي يمكن تمييزها نظريا. وبالمقارنة إلى الزمن التاريخي الذي يتم تمثيله في الدراما، وزمن الدراما (زمن القصة والحبكة) والبنية الزمنية للعرض علي خشبة المسرح، يجب أن نؤكد علي زمن نص الأداء the time of performance text. واتباعا لشيشنر، فاننا نسمي الموقف الحقيقي الشامل والموقف المعروض علي خشبة المسرح «نص الأداء performance text» لكي نؤكد دافع الحضور الكامن فيه دائما، وهو الباعث الذي يحفز فن الأداء بمعنى أضيق. وتضمين زمن الأداء في هذا يسمى «العوامل الخارجية» (والتي هي ليست كذلك) مثل الرحلات الطويلة للوصول إلى الأداء في وقت متأخر، علي سبيل المثال الأداء الليلي، وأزمنة الأداء، وفترات الأداء على مدى عدة أيام أو طوال الليل وحتى الفجر (مثل عرض المهابهارتا الذي قدمه بيتر بروك في محجر بالقرب من أفينيون واستمر حتى وقت متأخر من المساء وحتى الصباح). وبالتالي من المهم عموما أن نحلل الزمن الحقيقي لعملية المسرح في مجملها، وصدارته بعد المسرحية والظروف المصاحبة له؛ وهي ظروف أن استقباله يستغرق وقتا بالمعنى العملي، وهو زمن المسرح الذي هو زمن الحياة ولا يتزامن مع زمن العرض. 
 لقد كان جوهر الدراما هو الذات الإنسانية أثناء الصراع، في تصادم درامي (كما يقول هيجل). وقد أنشأ هذا، جوهريا، الذات من خلال علاقة ذاتية مشتركة مع البطل المضاد. ويمكننا أن نقول إن موضوع المسرح الدرامي موجود فقط في مساحة هذا الصراع. وفي هذا الصدد، إنها بين ذاتية محضة تنشأ من خلال الصراع كموضوع للتنافس. ورغم ذلك يجب أن يكون زمن الذاتية المشتركة زمنا غير متجانس، زمن واحد يجمع الأعداء في الصراعات. يتطلب المسرح الدرامي زمنا واحد يتقابل فيه الخصوم، البطل والبطل المضاد. ولا يكفي المنظور الزمني للذات الفردية المنعزلة هنا (كما في الغنائية والمونولوج)، ولن يكفي أيضا الزمن الشامل لسياق العالم الذي يحدث فيه التصادم (كما هو الحال في الملحمي). وعندما نلاحظ منظور وصفنا: بمجرد ألا يعمل هذا النوع من الذاتية المشتركة التي نناقشها – دعنا نسميها الثنائية – يصبح الشكل الزمني بين الذاتي الرابط قديما أيضا. وبشكل معكوس، بقدر ما يصبح الزمن المشترك المتجانس مضطربا أو يتفكك، اذ لم يعد بإمكان المتنافسين العثور علي بعضهم البعض، أن جاز التعبير، ويضيعون في جزيئات تعمل علي أصعدة مختلفة لا علاقة ببعضها البعض. فقد كانت أزمة الدراما في مطلع القرن هي أزمة الزمن. اذ ساهمت تحولات الصورة العلمية للعالم (النسبية والنظرية الكمية، والزمن والمكان) في هذا بقدر تجربة مزيج فوضوي من سرعات وإيقاعات مختلفة للمدينة ورؤى جديدة في البنية الزمنية المعقدة للاوعي. ويميز برجسون الزمن المجرب experienced time باعتباره «المدى الزمني» عن الزمن الموضوعي. أدى الاختلاف الواضح بشكل متزايد في زمن العمليات الاجتماعية (كتلة المجتمع، والاقتصاد) عن زمن التجربة الذاتية إلى تكثيف الانفصال بين الزمن العالمي وزمن الحياة الذي لاحظه بلومينبرج في الحداثة. ويرى بلومينبرج أن هذا الانفصال ناتج عن المنظور التاريخي للماضي والمستقبل ومصاحبة الذات للتجربة الجديدة لصورة التاريخ بهذه الرحابة والتوسع بحيث لم يعد للحياة الفردية أي أهمية فيها. وقد حوّل لويس ألتوسير التغيير غير القابل للاختزال بين الديالكتيك الاجتماعي والتجربة الذاتية للزمن إلى نموذج أساسي لأي مسرح مادي ونقدي، وتتمثل مهمته في زعزعة الأيديولوجيا بمعنى الإدراك الباطني وإدراكه الخاطئ للواقع. وفي أعمال كانط Kant، كانت وظيفة «الحس الداخلي» هي ضمان وحدة الوعي الذاتي من خلال الترتيب الزمني (Zeitordnung). إذ عرّف الزمن بأنه «شكل من الحس الداخلي»، وهذا الشكل يدعم ترابط التمثيلات المتغيرة – التي من شأنها أن تسحق الوعي – مع الاستمرارية المتواصلة للزمن التي يمثلها كانط في تشبيهه بالخط. هذه الاستمرارية الخطية تدعم في النهاية وحدة الذات لأنها تضفي التوجيه والاتجاه علي التجارب التي هي متقطعة جذريا فيما بينها. ومع ذلك، علي الأقل منذ نيتشه، ومنذ أن وضع فرويد نظرية لخطاب الوعي، أصبحت الهوية، باعتبارها ألفة قديمة للذات المستمرة بذاتها موضع شك في كونها مجرد وهم. فالذات في الحداثة – ومعها الانعكاس بين الذاتي الذي يمكنها من خلاله أن تعزز نفسها باستمرار – تفقد القدرة علي دمج التمثيلات في وحدة واحدة. أو بعبارة أخرى: أن تفكك الزمن كسلسلة متصلة يثبت أنه علامة علي أنه تحلل – أو علي الأقل هدم – للذات التي تملك اليقين في زمنها. 
 في نهاية الخمسينيات، بدأنا نلاحظ تطورات في التصوير الزيتي الوسائطي، والموسيقى المسلسلة والأدب الدرامي، والتي وصلت إلى رفض الكليات المنظمة. ونستطيع أن نشخص فقدان إطار الزمن. وعندما تصور ستوكهاوزن في الستينيات أن زوار الحفلات الموسيقية يصلون متأخرين وينصرفون مبكرا أو عندما سبب ويلسون ضجة باشتراط أن فترات الاستراحة حسب تقدير المتفرج، لخص هذا ميلا أساسيا لدراماتورجيا الزمن الجديد. فهم يعلقون وحدة الزمن مع البداية والنهاية كإطار مصاحب لخيال المسرح من أجل اكتساب بعد للزمن الذي يتقاسمه المؤدون والجمهور كعملية مفتوحة من حيث المبدأ وليس لها بداية ولا وسط ولا نهاية من الناحية البنيوية. وقد طالب أرسطو بهذا تحديدا، رغم ذلك، كقاعدة أساسية للدراما، حتى يتحقق الكل. يعد المفهوم الجديد للزمن المشترك الزمن المشكل جماليا والزمن الممارس فعلا كأنه كعكة واحدة، أن جاز التعبير، زمنا مشتركا بين الزوار والمؤدين علي حد سواء. تؤسس فكرة تجربة الزمن المشترك من خلال الجميع أساس دراماتورجيا الزمن الجديد: من التشوهات المتنوعة للزمن إلى استيعاب سرعة الفرقعة، من مقاومة المسرح البطيء إلى تقارب المسرح مع الأداء. يعيش الفن واستخدامه المتطرف للزمن الحقيقي كموقف أناي تعيش معا خلاله. 
 لقد كان أساس المسرح الدرامي مطلب أن يترك المتفرجون زمنهم اليومي العادي لكي يدخلوا إلى منطقة زمن الحلم، ويتركون مجال زمنهم ويدخلون في مجال زمن آخر. وفي لمسرح الملحمي يدل ملء مكان الأوركسترا علي مستوى مشترك من التفكير. وقد أراد بريخت المتفرج المفكر والمدخن، حيث كان يعني التدخين دلالة علي ابتعاد المتفرجين وعدم تعاطفهم، وليس تحديدا تجليا لفراغنا الزمني المشترك. فالمتلقين لبريخت لا يغرقون أنفسهم في « الوجود هنا والآن « الذي يدمجهم عاطفيا في الأحداث علي خشبة المسرح (ويمكن أن يكون هذا تطابقا مع الأحداث الدرامية) ولكنهم يعتدلون ويدخنون، منفصلين في داخل زمنهم. ورغم ذلك، بينما لا تسعى جماليات الزمن بعد الدرامي إلى الإيهام بما يعنيه الزمن الفعلي، فلا يمكن فصل هذه العملية المشهدية عن زمن الجمهور. وإذا أصبح الزمن موضوع التجربة المباشرة، فانه منطقيا أساليب تشويه الزمن التي تبرز. لأن تجربة الزمن التي تنحرف عن المعتاد تثير مفهومها الواضح، وتسمح له بالتحرك من شيء مسلم به كمجرد مصاحب لترتيب الموضوع. وبالتالي تنشأ ظاهرة جديدة في جماليات المسرح: قصد الاستفادة من خصوصية المسرح كأسلوب عرض لتحويل الزمن بما هو كذلك إلى موضوع للتجربة الجمالية. 
 المدى الذي يمكن ملاحظته بوعي هو أول عامل مهم في المدى الزمني في تجربة المسرح المعاصر. إذ يمكن ملاحظة الجماليات المتعلقة بالمدى الزمني في العديد من الأعمال المعاصرة في المسرح. فإطالة الزمن سمة بارزة في المسرح بعد الدرامي. وقد ابتكر روبرت ويلسون «مسرح العرض theater of showness». ومنذ ابتكار ويلسون، يمكننا أن نتحدث عن جماليات ملائمة للمدى الزمني. إذ يبدو أن الشيء المعروض علي خشبة المسرح يختزن الزمن في داخله. فيتحول مرور الزمن إلى حاضر مستمر، باستخدام كلمات  قدوة ويلسون جرترود شتاين. فيصبح المسرح مماثل للنحت الحركي، وتحول إلى نحت في الزمن. وهذا صحيح في النموذج الأول للأجسام البشرية، التي تتحول إلى نحت حركي من خلال الحركة البطيئة. وكنه من أجل اللوحة المسرحية ككل، والذي بسبب إيقاعه غير الطبيعي يخلق انطباع بوجود الزمن بحد ذاته – منتصف الطريق بين زمن الآلة والعمر الملموس والقابل للتتبع عند الممثلين من البشر، الذين يصلون إلى رشاقة مسرح الدمى. 
 وإلى جانب جماليات المدى الطويل، تطورت جماليات التكرار. ونادرا ما يكون هناك إجراء نموذجي آخر في المسرح بعد الدرامي مثل التكرار – نحتاج فقط أن نذكر تادوش كانتور، والتكرار الشديد في باليهات ويليام فورسيز، وأعمال هاينر جوبيلز، وأيريك واندر، حيث التكرار هو الفكرة الواضحة. وكما هو الحال في المدى الزمني، يحدث تبلور الزمن في التكرار، وهو ضغط دقيق ونفي لمسار الزمن نفسه. إذ بالتأكيد استخدم كل من الإيقاع واللحن والبنية البصرية والبلاغي والنظم الشعري التكرار: فلا يوجد إيقاع موسيقي، ولا تكوين في الصورة ولا بلاغة مؤثرة ولا شعر، باختصار لا يوجد شكل جمالي بدون التكرار المستخدم بشكل متعمد. ومع ذلك، في لغات المسرح الجديدة يأخذ التكرار معنى مختلفا بل وربما معاكسا: تم استخدامه سابقا في بناء وتفكيك القصة والمعنى والشكل الكلي. فإذا تكررت العمليات لدرجة أنه لا يمكن تجربتها كجزء من عمارة المشهد وبنية التنظيم، فسوف يختبرها المتلقي المرهق علي أنها بلا معنى وزائدة عن الحاجة، كمسار أحداث لا متناهي لا يمكن السيطرة عليه . فنحن نشعر بالضجيج الرتيب الناتج عن موجة من الدوال التي تم نزعها من طابعها التواصلي ولم يعد ممكنا استيعابها كجزء من كلية شاعرية أو ذات مناظر خلابة أو موسيقية للعمل الفني: نسخة بعد درامية سلبية من المتسامي. ولكن عند البحث الدقيق، حتى في المسرح، لا يوجد شيء اسمه التكرار الحقيقي. فالموقف الفعلي في زمن المتكرر يختلف عن زمن الأصلي. فنحن دائما نرى شيئا مختلفا فيما رأيناه من قبل. ولذلك فان التكرار أيضا قادر علي تقديم تؤكده ذاكرة الأحداث السابقة، والاهتمام بالفروق الصغيرة. فالأمر لا يتعلق بمعنى الأحداث المكررة بل يتعلق بالتكرار نفسه. إذ يتم تنفيذ العمل: تحول جماليات الزمن خشبة المسرح إلى ساحة انعكاس علي فعل رؤية المتفرجين. انه نفاذ صبر المتفرجين أو لا مبالاتهم التي تظهر في عملية التكرار، أو انتباههم أو إحجامهم عن التعمق في الزمن، وميلهم أو عدم ميلهم لفعل الصواب وإحداث اختلافات في  الفراغ ، من أجل أصغر شيء ولأجل ظاهرة الزمن من أجل إغراق أنفسهم في فعل رؤية  الاغتراب الذاتي. 
 إن التأثير الساكن للمسرح فيما وراء الحركة الدرامية، الذي ينتج من خلال المدى الزمني والتكرار، وبالتالي له نتيجة ملحوظة هي أن التركيز علي صورة الزمن، أي ميل الفهم الغريب علي مشاهدة الصور، يدخل في فهم المسرح. وقد أخذت الفنون البصرية، مثل المسرح تماما، خطوة تحويل حقيقتها المادية الفعلية، نحو العامل السائد في تأسيسها ونتيجة لذلك أيضا فرضت زمنية الصورة علي التلقي: فما ظهر هو ليس فقط مطالبة المشاهد بادراك زمنية ما يتم تمثيله بل الجوانب الزمنية للصورة نفسها. ومتابعة لجوفريد بوم، دعونا نفترض أن الصورة كشكل من أشكال العلاقات تعرض زمن صورة خاص بها. فهي تلح علي الحس الزمني للمشاهدين لاستعادتها واستشعارها واستمرارها، باختصار تقديم الحركة الثابتة والكامنة في الصورة. فالصور تبدو مبدئيا بغير زمن. ومع ذلك من خلال إحساس المشاهدين بالزمن، والتخيل، والتقمص، والقدرة على الارتباط بدنيا بتتابع الحركات، يتعرفون علي الحركة الزمنية في الصورة. إنها تكمل مشاهدتهم (في حالة التمثيلات الواقعية للشيء المتحرك أو الشخصية) وتكررها، أو بالأحرى تنتجها في المقام الأول (في حالة التشبيهات غير التمثيلية أو شديدة التجريد). وتحت راية الدراماتورجيا البصرية، لم يعد مفهوم المسرح جاهزا لقصف أدوات الحواس بالصور المتحركة ولكن، تماما كما هو الحال عند الوقوف أمام اللوحة، تنشط القدرة الدينامية للنظرة لانتهاج العمليات والتركيبات والإيقاع علي أساس البيانات التي توفرها خشبة المسرح. ونظرا لأن السيميوطيقا البصرية يبدو أنها تريد إيقاف زمن المسرح، وتحويل الأحداث الزمنية إلى صور للتأمل، فان نظرة المتفرجين مدعوة لتنشيط حالة الركود الممتد المقدمة لهم من خلال رؤيتهم الخاصة. والنتيجة هي تركيز إدراكي يحلق بين مشاهدة ذات طابع زمني ومشاهدة مناظر طبيعية بين نشاط الرؤية والتقمص (الأكثر سلبية). بهذه الطريقة، يؤثر المسرح بعد الدرامي في إزاحة المفهوم المسرحي – تدفق السرد نحو تقديم بنائي مشترك للتركيب السمعي البصري الكلي للمسرح. 
....................................................
• هذا المقال الجزء الثاني من الفصل الرابع في كتاب « المسرح بعد الدرامي» تأليف هانز سيز ليمان والذي صدر عن روتليدج عام 2006 . وقد سبق أن قدمت مسرحنا عدة مقالات لهذا المؤلف ...  


ترجمة أحمد عبد الفتاح