فرقة شبرا بخوم.. ومسرح الموروث الشعبي

فرقة شبرا بخوم.. ومسرح الموروث الشعبي

العدد 688 صدر بتاريخ 2نوفمبر2020

فى بحثه الدءوب عن جوهر المسرح يرى “جرتوفسكي” أنه يمكن للعمل أن يتم بدون مكياج أو ديكور أو أزياء أو إضاءة أو مؤثرات لكنه لا يمكن أن يوجد دون تلك العلاقة “الحية” بين الممثل والمتفرج وهذه الدعوة تنبني ـ فى الأساس ـ على رفض تام لكل آليات المسرح لذا كانت دعوته المستمرة للخروج من أسر الخشبة أو “مسرح العلبة إلى فضاءات أرحب، فيرى أن أرض المسرح يمكن أن تكون بحرا أو مائدة أو مسند مقعد أو قاربا أو زنزانة سجن”.
وهذا التصور الشكلي يأتي من تصور مواز ينبثق من الروح الإنسانية حيث كان يهتم بـ “عرض العملية الروحية للممثل لا يشترط فيه أن يكون محترفا، فالمهارة التمثيلية إنما تتأتى بإقامة ورش فنية تهتم بطرق الأداء المختلفة فى محاولة لبناء نسق جديد يعتمد على اختراق حاجز اللحظة الشعورية لدى المتلقي ولن يتأتى ذلك إلا بالاندماج الكامل أو على حد تعبير ستنسلافسكي “إن الممثل يجب أن يكون قادرا على التعبير ـ بالصوت ـ عن تلك الدفعات التى تتذبذب على الحدود الفاصلة بينه والحقيقة، إنه باختصار يجب أن يكون قادرا على أن يبنى لغة التحليل النفسي الخاصة به للأصوات علي نفس النحو الذي يبني الشاعر العظيم قصيدته من كلمات وهو يقصد بذلك القفز على الحواجز الفاصلة بين الممثل ـ باعتباره مؤديا وبين شخصيته الحقيقية في الحياة ـ من ناحية، ومن ناحية أخرى تفتيت الهوية بين شخصية الممثل والجمهور فى محاولة لإقامة جدلية مسرحية تتوازى مع العرض بفضاءاته المختلفة، دون طغيان معرفى لفكرة التكنيك.
ومن الذين التقطوا هذه الرؤية وحاولوا تطبيقها فى مصر المخرج أحمد إسماعيل والذي تعتبر تجربته من أكثر التجارب استمرارية وحفرا في أرض الإبداع المسرحي من خلال تقديمه لنموذج مسرحي خاص بقرية “شبرا بخوم” إحدى قرى محافظة المنوفية، ولأنه ابن هذه القرية فقد تزامن اهتمامه بالنشاط المسرحي مع التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج ميه عام 1975، حيث قام مع صديقه الراحل أحمد عبد العظيم بتأسيس الفرقة عام 1973 وهو لم يزل طالبا بالفرقة الثانية وفى الفترة ما بين 1973 إلى 1977 قدمت الفرقة عدة عروض عبارة عن مسرحيات ذات فصل واحد، بالإضافة إلى تقديم مسرحية “الزوبعة” تأليف محمود دياب والتي كانت بمثابة ختام للمرحلة الأولي.
الإبداع الجماعي
وفى عام 1977 سافر المخرج أحمد إسماعيل لدراسة المسرح فى فرنسا عاد بعدها عام 1979 ليجدد فى الإطار التنظيمي للفرقة من خلال الإبداع الجماعي، الذى يقوم على جمع كل ما يتعلق بالقرية من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وعلى المستوى الفني كل ما يتعلق بفنون الأداء الشعبي من جمع للأغاني والحكايات الشعبية مع إعلاء قيمة المقاومة، للأغاني الشعبية والأمثال والمواويل والحكاوي.
وقد تم تدعيم الفرقة بالمواهب الفنية الفطرية لدى الفلاحين الذين وصل عددهم – فى ذلك الوقت – إلى عشرين رجلا وأربع فتيات، وفى هذا الإطار تم تقديم عدة عروض كان من أهمها “سهرة ريفية” وهى “تجربة في الإبداع المسرحي الجماعي”، قدمت على ثلاثة أجزاء أعوام 1982، و1984، و1986 وقد لاقت هذه التجربة كثيرا من الاستحسان النقدي.
فتقول الناقدة عبلة الروينى فى جريدة “الأخبار” 1986 “السهرة الريفية” فى أجزائها الثلاثة تتناول مشكلات القرية المصرية حيث أزمة الإنتاج وأزمة الغذاء، وكيف تحولت قوى الفلاحين المنتجة إلى قوى مستهلكة، وما استتبع ذلك من مشكلات أكبر، وقد استخدمت الفرقة الأغنيات الريفية والألعاب الشعبية والارتجال لتحقيق صيغة فنية يحدث من خلالها التواصل.
أما الناقدة فريدة النقاش فتصف العرض في مقالها المنشور فى جريدة “الأخبار” 1982 قائلة “تحول المسرح في هذا العرض إلى ظاهرة اجتماعية كاملة الأركان بصرف النظر عن الشكل السردي العادي لمشكلات الحياة اليومية للناس دون استخلاص أبعد مدى من التفصيلات، ولكنه عمل يفتح الطريق – بقوة – أمام تجارب مشابهة تطرح من واقع الأرض التي تعمل عليها.
ومن وجهة نظري أن “أحمد إسماعيل” قد لعب في منطقة شديدة الخصوبة وهى إنتاج ما يمكن أن يسمى بـ “المسرح داخل المسرح” بمعنى أنه قدم العرض برؤيتين مختلفتين فى نفس الوقت عبر فكرة التحرر من “التشخيص” حيث أشرك مجموعة من الأطفال فى العرض ليعيدوا تمثيل المشاهد التي قام بها الممثلون مرة أخرى بحيث يعود المشهد كله إلى الطفولة فى لعبة مسرحية جذابة ومفرحة فى آن.
والملفت للنظر أن العرض ـ فى جوهره ـ كان يناقش أحوال أهل القرية وألاعيب المجلس المحلى الذين يحتكروا بيع المواد التموينية ويخفونها عن الفلاحين البسطاء ويمارسون سلطة سياسية عليهم، وقد حضر الجميع ليشاهدوا أنفسهم وقد جسدت شخصياتهم على خشبة المسرح.
ويعد العرض من القصص التقليدية كحكاية الحب التي من الممكن أن تقع بين ابن الفلاح البسيط وبنت أحد محتكري السلع التموينية كما يحدث فى الأفلام وهو السؤال الذى طرحه أحد المشاهدين مما جعل المخرج يرد عليه – هو وفريق العمل – بأن الحكاية ليست مسلسلا تليفزيونيا يشوه الوعي وإنما هو الواقع بصورة تقريبية.
وقد أثبت العرض – عن طريق التجربة – أن العمل المسرحي الحقيقي لا يعترف بقلة الإمكانيات وإنما هو الذي يتكئ على قدرة استنساخ الواقع ومناقشة قضاياه بلغة بسيطة، وإن اعتمدت على بعض تقنيات المسرح التقليدي بشكل به قدر كبير من المزاوجة بين روح المكان وفضاءات التقنية.
تصميم الخشبة
وبعد عرض “سهرة ريفية” تحقق كثير من أغراض الفرقة وأهمها أن يكون خطابها المسرحي معبرا عن القرية من خلال خصوصية الأداء ومصداقية التعبير بخطاب نقدي، لكشف أى زيف أو عدوان يمارس ضد البسطاء والمهمشين من أهلها.
وعلى حد تعبير المخرج أحمد إسماعيل “أصبحت الفرقة بمثابة برلمان القرية، يحضر إليها كل من عنده شكوى أو هم، فقد وضع الطابع النقدي لسهرة ريفية أصحاب المسئولية والنفوذ بالقرية فى موقف المُسألة، ومن أساء واستغل نفوذه أصبح موضع سخرية واتهام من الرأي العام بالقرية”.
وفى تلك الأثناء كانت فكرة تطوير بناء المسرح الذي صممت خشبته على هيئة دائرة، ومدرجات الجمهور البسيطة تحيط بها من نصف محيطها، فكأن خشبة المسرح تحتضن المدرجات مما يجعل الجمهور فى قلب العرض والعكس، وقد ساهم فى بنائه أبناء القرية بمجهود ذاتي، حيث تبرع الأهالي كل قدر استطاعته، رغم أنه لم يتكلف إلا مبلغا ضئيلا، نظرا لأنه لا يحتاج إلى تقنيات كثيرة، وعلى خشبته تم تقديم “سهرة ريفية” استعدادا للمشاركة فى مهرجان القاهرة الأول للمسرح التجريبي.
وفى عام 1988 أعادت الفرقة عرض “الشاطر حسن” تأليف فؤاد حداد ومتولي عبد اللطيف الذى قدمته لأول مرة عام 1984 من خلال بناء درامى جديد يهتم بالآليات الفنية في المسرح الشعبي مع إعلاء قيمة المقاومة، واستمر عرضه ثلاثين ليلة، كما تم عرضه – أيضا – بقصر ثقافة الغوري، بعد ذلك قدمت الفرقة عرض “ليالى الحصاد” تأليف محمود دياب وقدمت فى ثلاثين ليلة عرض وذلك عام 1999، وهو نص يقوم على فكرة السامر الشعبي من خلال حكاية عن قرية يجلس أهلها يتسامرون فى المساء ويقومون بتشخيص بعضهم بعضا، ومن خلال هذه اللعبة – ذات الأقنعة – يطرحون مشاكلهم وقضاياهم الاجتماعية وأفكارهم وأحلامهم.
 


عيد عبد الحليم