حينما يفتح الفن أبواب الحياة.. أو النسر يسترد أجنحته

حينما يفتح الفن أبواب الحياة.. أو النسر يسترد أجنحته

العدد 750 صدر بتاريخ 10يناير2022

ضمن فاعليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي دورته الثامنة والعشرين قدمت دولة السودان العرض المسرحي «النسر يسترد أجنحة» من إنتاج فرقة «منطقة صناعة العرض المسرحي» دراماتورج وإخراج وليد الألفي. . حينما يفتح ستار خشبة مسرح البالون يشعر المتلقي أنه في بيئة مُغايرة: حيث يتم استغلال وإعادة تدوير مجموعة من الاستخدامات اليومية للإنسان العادي على خشبة المسرح متخذة شكل جمالي، فزجاجات المياه الفارغة يمكن أن تتحول ضمن سياق العرض إلى مياه هادرة وأعمدة للخيام، وحبات الرمل أسفلها يمكن أن تراها قاع النهر، حيث تدور أحداث العرض على شاطئ النهر، أو في البيوت الصغيرة على ضفافه، في دلالة على أهمية النهر في هذا المجتمع، وتنطلق الأحداث الدرامية من ورشة الفنان /النحات.
يمكنك كمتلقي رؤية جميع أحداث العرض وكأنها داخل عقل هذا الفنان، والذى يحاول أن يكمل تمثاله من الطين اللين، وهو تمثال لامرأة يتصورها المخرج وكأنها الحياة التي يتماهى معها الفنان أحياناً، وما من حكاية تقدم على خشبة المسرح إلا وكان المتمم لأحداثها والمساهم في تطورها امرأة، فهي الأم والحبيبة والأخت والنموذج الجمالي للإبداع الفني بالنسبة لشخصية الفنان المبدع في هذا العرض المسرحي.
يقدم العرض حياة المجتمع السوداني بجمالها وصعوبتها وقضاياها المتشابكة وطبيعتها الخاصة وطقوسها، وعلى ضفاف النيل تنشأ حكايات البنات والحب، وهنا أيضاً يتم العقاب، فالبنت يتم عقابها من الأب ويحتقرها مجتمعها، على خلفية نزولها النهر واستسلامها لأن ينقذها شاب لحظة الغرق، وكأنه من المفترض أن تموت غارقة ولا أن تترك شاباً ينقذها من الموت، وبذلك يبرز دور العادات والتقاليد وقسوتها إن كانت تطبق في غير موضعها وبلا وعي، يقدم العرض حكايات الحب البريئة المرفوضة على الدوام من المجتمع، وأيضاً يقدم حكايات الغدر والموت والسياسة، معتمداً في التعبير عن ذلك على أغاني الموروث السوداني، فالعرض مزيج من الأداء الصامت والرقص والغناء والحوار، وإذا قدمت الصورة المرئية على خشبة المسرح راقصة فإن المغنية في أقصي عمق يمين خشبة المسرح تغنى، وتعزف الموسيقى الحية معبرة عن الحالة الدرامية التي تنسج أمامها من خلال الأداء الصامت وتفاعل الممثلين ورقصاتهم المبهجة.
يمكن أن تعرف عن القتل والاستشهاد والعنف ضمن سياق العرض، فالعرض يقدم تفاصيل دقيقة عن المجتمع السوداني في محاولة للبوح الذى يهدف إلى محاولة التغيير في الأساس، في خضم الأحداث الدرامية التي تعتمد على مجموعة من الشباب والبنات تجد الفنان /النحات يدخل إلى دائرة التفاعل التمثيلي على خشبة المسرح، فيفاجأ المتلقي بصمت الجميع وثباتهم للتأكيد على فكرة أن جميع الحاضرين على خشبة المسرح تماثيل قام بنحتها هذا الفنان مُتغير المزاج، وأنه ينزوي مكتئباً لما يحاصره من ضغوط ورفض مجتمعي، ولحظة انزواءه تُعد إيذاناً ببث الروح في تماثيله المنحوتة لتبدأ الحياة التي نراها على خشبة المسرح، وكأننا ضمن سياق حلم لفنان لم يكتمل إبداعه.
وحينما تعصف الأفكار بذهن الفنان تصرف عنه الانتباه، ويبدو مكان إبداعه غريباً عنه فينزوي في أحد الأركان وكأنه هو الأخر تمثال من طين لا يتحرك، وهنا تكمن حالة «الغرابة» تلك العلاقة الشائكة بين الحياة والموت، ذلك الشعور بعدم الأمان وعدم القدرة على التفاعل فالانسحاب: تلك اللحظة التي تتحول فيها الأشياء القريبة والمحببة إلى غير مألوفة، فيفضل الفنان العزلة عن التفاعل، ولكن في هذا العرض بدوام المحاولة وتكرارها وإن مر كثير من الزمن إبان ذلك فإن التكرار هنا ليست استعادة للماضي، والتحسر على ما قد كان وإنما هو تكرار يحفز على القيام بالفعل تكرار يدفع الفنان إلى استكمال فنه واكتمال تمثاله، فكل تجربة بالمحاولة قابلة للتحقق، وهذا ما فعله الفنان ففي نهاية العرض اكتمل تمثاله وكأنه أكمل رسالته الفنية وهو تمثال لامرأة ليؤكد كونها الحياة دائماً.
وقبل اكتمال التمثال في اللحظات الأخيرة يقوم الممثلين برفع القماشة الكبيرة التي وضع عليها حبات الرمل والزجاجات البلاستيكية الفارغة لتختفي خشبة المسرح دون غلق الستار، وحينما يلقون بتلك القماشة نجد تمثال الفنان- نموذج لامرأة- قد اكتمل وكأنه أذاناً بحياة جديدة ذات صورة جمالية تبعث على الأمل، ومن الضروري الإشارة إلى أنه تم استخدام تلك الزجاجات الفارغة وكأنها رمح أحيانا فهي التي تغلف العصي أو كأنها حمالة تنقل الجثث وهكذا كان استخدامها مختلف ومتنوع طوال العرض.
العرض تمثيل وليد الألفي، حليمة يعقوب، سوهندا أبوبكر، آمنة محمد سوميت، الطاهر المغرد، محمد الأمين عبد القادر، سيزا محمد سوركتى، أحمد هارون، سلافة إلياس، مي الجزولي، هبة الجزولي، ومن الملاحظ على الأداء التمثيلي في هذا العرض أنه نابع عن تدريب مستمر فالممثلين على وعي تام بكل تفاصيل العرض من حيث التعامل مع الديكور والانتقالات المختلفة، إلى جوار تعاون الجميع في تكوين التشكيلات الحركية المستمرة على مدار العرض فملابس النساء على سبيل المثال يمكن أن توحي بأجزاء من خيمة أو يمكن أن تستغل بطرق مختلفة، والزجاجات الفارغة يمكن التعامل معها بأكثر من استخدام.                                                                           ولحظة تحضير المسرح لاستقبال المرأة التمثال تؤكد على فكرة التدريب الجيد للفريق المقدم للعرض.


داليا همام