العدد 574 صدر بتاريخ 27أغسطس2018
ربما يمثل المسرح أحد السياقات الفنية التى يتجسد بداخلها مفهوم المدينة و تكوين الثقافات المعبرة بشكل دقيق عن خصائص شعب ما، وذلك لما يحويه عالم المسرح من مفردات و عناصر تستقى فاعليتها و جدوى وجودها عبر ما يضيفه المبدع عليها من دلالات تنعكس على وجدان الجمهور وعقله تبعا للذائقة الجمالية لهذا الجمهور، و الأمر فى ذلك يٌظهر مدى ارتباط الفعل المجسد على خشبة المسرح بل والمنظومة الفنية ككل بكافة عناصرها بما هو خارجها فى اطار اوسع ليشمل حدود المدينة ككل.
و ربما اتساع هذا المفهوم و زيادة رقعة الرؤية تجاة العمل الفنى بإعتباره جزء من سياق اكبر و هو “ المدينة “ يدفعنا الى محاولة الخوض فى سبر اغوار مناهج نقدية جديدة تتأسس على ذلك المفهوم الجديد و تحوى بداخلها كل المناهج النقدية الاخرى سواء التى تتبنى النهج الثقافى منها و السياقات المجتمعية و علاقاتها بالفن و مدى تأثير وتأثر كلا منها على الاخرى او ما يعرف “ بالمادية الثقافية “، أو تلك التى تركز على العمل الفنى بذاته بإعتباره سياق منفصل عن مجتمعه و عن واقعه و بالتالى يهتم اكثر بالصنعة المسرحية و شكل الأداء و عالم الدلالات و الإحالات التى يشير اليها العمل الفنى فى ذاته.
و هو الامر الذى اشارت اليه “ جين هارفى “ _ استاذة المسرح والأداء فى جامعة كوين مارى بلندن _فى كتابها “ المسرح والمدينة “ حيث حاولتتأسيس مدخل منهجى نقدى جديد يحوى هذه المناهج معا، بل و يتجاوزها لما هو أبعد من ذلك عبر ربطها بمنظور رؤية أكبر و أكثر اتساعا يرتبط بمفهوم المدينة كشكل و وعاء حاوى لكل تلك الممارسات التى يمثل المسرح فيها احد اركانها المعبر عنها و المتفاعل فيها بشكل جدلى متبادل و متأرجح ما بين التأثير والتأثر. حيث يتحرى الكتاب كيف تؤثر العلاقة بين المسرح و الاداء و المدينة فى ديناميات القوة الاجتماعية و الايدلوجيات و الشعور بالهوية فيٌقيم كلا من الظروف المادية للمسرح ( مكانه – معماره – شكله – موقعه الجغرافى – شكل علاقات الانتاج التى تحكمه .... إلخ )، و الممارسات الأدائية ( مثل النشاط الاجتماعى و السياسى بالحضر )، وذلك من أجل الدفع بأن كليتهما تضيفان الى الاقتصادات و البيئة المعقدة للمسرح و الاداء فى عالم تتزايد فيه المدن بشكل كبير .
و لمزيد من محاولات تلمس هذا المنهج و التماس مع بعض جوانبه بهدف احاطته و فهمه نتطرق الى نموذج تطبيقى لأحد العروض المسرحية نتجاوز من خلاله اتباع منهج نقدى محدد، وانما سنعمل على اذابة كل تلك المناهج فى بوتقة واحدة تعود مرجعيتها لمفهوم المدينة كنسق حاكم لمنظومة كافة عناصر العمل الفنى لتشمل العرض و جمهوره على حد سواء، الامر الذى سيلزمنا بطرح مجموعة من التأملات و الأسئلة سنحاول الاجابة على بعضها وفق فهم شخصى و تصورات ذاتية عن ذلك المنهج، واخرى ستظل قابعة فى مربع التساؤلات دون امتلاك اجابات يقينيه أو شافية بسبب جدة المنهج الذى يحتاج منا الى الكثير من المران الدؤوب حول ممارسته نقديا حتى نحيط بكافة جوانبه و نمتلك زمام قواعده .
النموذج “ عرض مسافر ليل “
بطاقة تعريف بالعرض :-
العرض ?\? مسافر ليل
تأليف ?\? صلاح عبد الصبور
ديكور و إخراج ?\? محمود فؤاد صدقى
انتاج ?\? قطاع شئون الانتاج الثقافى ( مركز الهناجر – نوفمبر 2017 )
تمثيل ?\? صفوت الغندور ( الراوى ) – مصطفى حمزة ( الراكب ) – علاء قوقة ( عامل التذاكر )
ملابس ?\? أميرة صابر
اضاءة ?\? ابو بكر الشريف
موسيقى ?\? زاكو
مكياج ?\? ماثيو فكرى
مرحلة ما قبل العرض
تدور احداث النص الذى كتبه صلاح عبد الصبور فى ستينات القرن الماضى فى عربة قطار، ومكان الحدث هنا _ فى نموذج العرض _ الذى بين أيدينا من الاهمية بمكان على أكثر من مستوى بدءا من شكل الدعاية والاعلان للعرض و المتمثلة فى بطاقة العرض ( البانفلت )، ومرورا بطبيعة علاقة الجمهور بالممثلين على خشبة المسرح، وانتهاءا بشكل المسرح و ديكوره و معماره و موقعه الجغرافى. فعند شراء تذكرة الدخول للعرض تحصل معها على بطاقة تعريف العرض و التى عبارة عن تصميم لشكل تذكرة قطار درجة ثالثة تحوى بداخلها معلومات عن فريق العمل وجهة الانتاج بالإضافة الى ( السعر - رقم العربة - رقم القطار - رقم المقعد - تاريخ القيام )، وكذلك تحديد الزمان والمكان و طريق السير، فالزمان و المكان فى التذكرة ( البانفلت ) مجردين تماما من اللازمان الى اللامكان بينما تمثل انطلاقة القطار الاولى من الساحة الخارجية للهناجر ( و هو مكان اقامة العرض ) .
اذن تلعب بطاقة العرض هنا ( البانفلت ) بإعتبارها أولى عتبات تلقى العرض دورا هاما لرصد بعض التصورات الاولية فى بناء افق التوقع لدى الجمهور و الذى تدريجيا اما ان يتماهى بالفعل معها او تصدمه بشكل مغاير. كما ان تصميم ( البانفلت ) بهذه الكيفية على شكل تذكرة قطار هو انعكاس لطبيعة العلاقات الانتاجية الذى يطرحها مفهوم المدنية الحديثة و نظم العولمة فى المدن المتوجهة الى ربط اطرافها بخطوط السكك الحديدية على المستويين العالمى و المحلى فى تحقيق شبكة العلاقاتالتى تنشأها الدولة مع مواطنيها من خلال تقنين عمليات البيع والشراء او الاجر نظير الخدمات، و كأن الامر عبر هذه التذكرة قد جعل العالم كمدينة صغيره يسهل و يتاح التنقل بين جوانبها، كما ان تجريد الزمان والمكان كما جاء فى ( البانفلت ) قد اتاح الفرصة لمرونة بناء المخرج لرؤيته الفنية عبر طرح افكار مجردة تصلح للتناول فى اى زمان ومكان، إلا ان تحديد نوعية القطار و درجته التى تنتمى الى “ الدرجة الثالثة “ هو تحديد مٌركّز يحصرنا أكثر فى دول بعينها مازالت تستخدم مثل هذه النوعية من القطارات، وهو امر يستقطع الفكرة العالمية من تجريدها الى مناطق اكثر اقليمية و بخاصة مصر باعتبار انتشار مثل هذه النوعية لديها، وهو ما يحلينا الى علاقة جديدة تشير الى مستوى التدنى الطبقى التى تطرحه هذه المدينة و مدى تردى اوضاع مثل هذه النوعية من القطارات المنخفضة الاجر و الضعيفة فى خدماتها مقارنة بغيرها حتى تناسب اسعارها مستوى الطبقة الفقيرة من الشعب. و لكن القائمين على تصميم البانفلت قد وقعوا فى فخ التناقض الفج ما بين نوعية درجة القطار، ومكان تواجد القطار نفسه ( مكان العرض ) فى ساحة الاوبرا التى تنتمى طبقيا الى مستوى مادى اعلى من نوعية القطار و ركابه، فيما ان دلالة اللون الاخضر المرتبط بدلالة فنية داخل النص نفسه جاءت موفقة الى حد كبير كانعكاس لهوية الركاب المتمثلة فى تلك البطاقة الخضراء التى يأكلها عامل التذاكر كإشارة الى ان وجود الانسان فى هذه البقعة من الارض هو وجود ورقى فقط دون ادنى مراعاة لإنسانيته او حتى وجوده العقلى والروحى و الفيزيقى، وهو ما أضفى مزيدا من التماهى للجمهور الداخل الى العرض مع شخصية الراكب نفسه و التى تؤكل بطاقته الخضراء المعبره عن هويته، وبالتالى فشخصية الراكب هنا تنوب عن كافة الركاب ( الجمهور ).
مرحلة العرض
يكفى ان أذكر ان مثل هذه التداعيات الاستقرائية مازالت تقف حتى الان عند حدود البانفلت “ اى مرحلة ما قبل حضور العرض “، بينما يدور مكان الحدث بداخل عربة قطار مصممة خصيصا للعرض تقبع فى ساحة الميدان امام مركز الهناجر بدار الاوبرا و هو ما يطرح أو يفجر تساؤل حول جدوى الخروج خارج نمط العلبة الايطالية او حتى مسرح القاعة الى ساحة فضاء خارجية يتم تجسيد الحدث من خلالها، فالعربة كإطار حاكم لتواجد الجمهور يفرض حيز معين من حضور خاص لنوعية محددة من الجمهور المرتبط طبقيا بالاوبرا و ساحاتها و هو ما يلغى خصوصية القطار و حركة تنقلاته فى علاقته بالمدينة المتاحة لكل افراد المجتمع بكافة طوائفه و خصوصا ان القطار من نوعية الدرجة الثالثة التى يركبه عامة الشعب.
كما ان احداث العرض كلها تدور بداخل عربة القطار وهو ما لا يوجد اى مبرر للطرح خارج فضاء مسرح تقليدى بل كان من الممكن جدا طرح العرض بكافة تفاصيليه الديكورية داخل العربة فى مسرح مغلق دون ادنى انتقاص من اى تأثير حادث لتمرير الاحساس لدى الجمهور وبالتالى فقدت عربة القطار خصوصيتها الفنية و الوظيفية بهذه الكيفية فى ساحة الاوبرا .
والسؤال التأملى الذى يطرح نفسه هنا .. ماذا لو زادت مساحة التفاعل مع النص بشكل اكثر اتساعا عبر تمثيله فى عربة قطار حقيقية تنطلق فى موعدها اليومى الى احدى المحافظات المجاورة للقاهرة و لتكن مدينة الاسكندرية على سبيل المثال فيما يتجسد النص امام جمهور حقيقى من الركاب فى زمن يستغرق مدة السفر نفسها و بتذكرة سفر حقيقية على نحو مفاجىء و مباغت للركاب الذين سيتحولون هم انفسهم فى تلك الحالة الى جمهور العرض الذى سيعاين ويشهد عملية اغتيال ممنهجة لراكب بسيط مثلهم ؛ الامر الذى سيدخلنا فى فخ التكهنات ما بين التزام تلك الكتلة بالصمت والاكتفاء بالمشاهدة او التدخل الايجابى لإنقاذ الراكب من براثن عامل التذاكر، و التى تفض ملابساته التجربة العملية على ارض الواقع ... مثل هذه المساحة التفاعلية تطرح افكار خارج صندوق المسرح المنغلق على رواده المعتادين او المألوفين لدى المبدعين بينما تدعم ايضا من تمثيل حقيقى للمسرح فى علاقته بالمدينة وبعلاقات انتاجه حيث تتخذ من خدماته وسيلة للوصول الى عموم الشعب و تقديم المسرح اليه عبر رحلات يومية يكون العنصر المتغير فى منظومتها فقط هو الجمهور المتجدد دائما بفعل السفر ذهابا وايابا، وربما يحقق هذا المقترح ايضا _ ما رمى اليه صلاح عبد الصبور نفسه _من تجسيد الزمان والمكان فى آن واحد تحقيقا لمعادلة السرعة التى تساوى المسافة فى الزمن، فالمكان (عربة القطار ) يتجسد بذاته فى الزمنليصبحا شىء واحد معبر عن حياة الانسان على الارض و صراعه الوحيد مع الزمن عبر استدعاءات متكررة للتاريج ومجرياته و اجترار احداث ماضية دامية كانت او مجيدة للاستعانة بها فى فض إشكالية الواقع.
أعلم جيدا انه ليس من دور الناقد توجيه المخرج الى امور لم يقدمها فى عرضه او املاء ما يجب ان يصنعه او ما لا يجب ان يقدمه، بل التعاطى فقط مع ما يقدمه المخرج من رؤية فنية يلتزم خلالها الناقد بمحاولات التحليل والتفسير والتقييم للعرض كشكل من تحقيق الناقد لممارساته النقدية، إلا اننا مازلنا نتلمس ذلك المنهج بمحاولات طرح تأملات حول تقديم اقتراحات للمبدعين قد تزيد من مساحات وعيهم لفن المسرح و طرق سبل جديدة و غير تقليدية فى توظيف المسرح كممارسة اجتماعية لا تنفصل عن كيان اكبر يسمى المدينة.
العرض يطرح فى سياقه نفس نص صلاح عبد الصبور دون وجود لعملية الدراماتورج أو الإعداد و بالتالى فنحن امام ثلاث شخصيات هم ( الرواى – الراكب – عامل التذاكر )، بينما قسم المخرج عربه قطاره من الداخل الى قسمين رئيسيين؛ أولهما هى منطقة التشخيص فى منتصف عربة القطار، و التى جاءت فى مستوى اعلى قليلا من مستوى باقى العربة، و ثانيهما هى المنطقة التى يجلس فيها الجمهور فى زاويتين متقابلتين فى الرؤية لبعضهما حيث يفصل بينهما منطقة التشخيص فتصبح شخصية الراوى هى الرابط الواصل ما بين الركاب ( الجمهور ) و منطقة التجسيد فى الوسط، ولعل انقسام العربة بهذه الكيفية ما بين “ منتصف و اجناب “ اضفى مزيدا من التركيز على منطقة التجسيد فى المنتصف باعتبارها حدث يعاد تجسيده عبر اعادة احيائه على لسان الراوى الذى عاين تلك الواقعة من قبل وهو فى ذلك يستدعى من ذاكرته احداث التاريخ الماضية لتتجسد هنا والان اثناء رحلة القطار و بذلك يتحقق تعدد الرؤى لهذه الواقعة بشكل نسبى او فى اطار تكعيبى يحمل جزء من الحقيقة فى احد اوجهها وليس الحقيقة المطلقةو هو ما يتلاقى ايضا مع التضادات و التناقضات التى تحملها سمات المدينة الواحدة فى تحديد هويتها عبر تبايناتها والتناقضات التى تحكمها، و بالتالى نحن امام تقابلات ضرورية الالتقاء لتكتمل منظومة الرؤية من خلالها حيث يعبر احد اوجهها من منظور منقوص لتلك الحياة او لذلك التاريخ المسرود، فالتاريخ هنا هو ما تصنعه المدينة و يحمله افرادها على عاتقهم بإعتبارهم جزء لا يتجزأ من لبناتها.
تمتد تلك التقابلات ليس فى زوايا رؤيا الركاب للحدث وفقط وانما تصل الى علاقة الراكب بعامل التذاكر نفسه فى ثنائية اخرى متقابلة و متناقضة تمثل السيد والعبد، فالراكب هو “ عبده “ و اسرته تحمل اسماء مشتقة من العبودية و هو هنا حسب الرؤية الاخراجية يمثل كل الطبقات المهمشة اجتماعيا و التى يمتد صداها الى دول بأكملها ترزح تحت نير الهيمنة والقوة و جبروت الدول الاقوى اقتصاديا وسياسيا بينما يمثل عامل التذاكر الذى يحمل من اسماء القوة والزهو ومشتقاتها تلك التراتبية الادارية بداخل نظام الدولة ليمتد هو الاخر الى تراتبيه النظم السياسية فى العالم، ليرتقى الصراع من نطاقه المحلى الى مستوياته العالمية و خصوصا فى حالات التخلى المتعمد لعامل التذاكر عن ستراته المتعددة بإعتباره عشرى السترة ليتجلى لنا اخيرا على نحو سيميولوجى من خلال الزى بأن عشرى السترة هنا هو كل الانظمة الفاشية والقمعية التى حكمت العالم قديما ومازالت تحكم حتى الان عبر امتدادتها فى الدول فنجد علامة النازية وأعلام كلا من فرنسا وامريكا و غيرها من الدول فى مقابل مشنقة متدلاه فى ظهر السترة الاخيرة لعشرى السترة، وبهذا تتجسد روح الصراع ما بين المدن وبعضها عبر القتل و سلب الحريات و تحقيق حالات التغريب عن الوطن فى قطار معبر عن الحياة مازال يحوى الاخيار والاشرار معا.
من الامور اللافتة للنظر أيضا فى بناء القطار هو وجود منصة وحيدة علوية فى منطقة الوسط التى يتجسد فيها الحدث و التى يستخدمها المخرج و يوظفها من خلال تشكيل بصرى دال فى الفراغ يعتلى من خلاله عامل التذاكر تلك المنصة بينما يظل الراكب فى منطقة التجسيد جاثيا على ركبتيه فى تحقيق للهيمنة الكاملة من عامل التذاكر على ذلك الراكب عبر تواجد كلا منهما فى مستويين مختلفين و هو ما اثرى الصورة بصريا ودلاليا فى تحقيق التمادىفى مستويات القهر والاذلال لذلك الراكب، إلا ان تلك المنصة العلوية لم تمتد لتشمل القطار كله كما فى قطارات الدرجة الثالثة و التى يستخدمها الركاب فى الجلوس عليها ايضا الى جوار تخزين شنط السفر بها و هو ما حاد قليلا عن محاكاة عربة قطار الدرجة الثالثة فى صورتها الحقيقية بالاضافة الى اقتصار فعل الهيمنة فقط على الراكب وحده برغم تورط الجمهور ايضا فى تلك الحالة المنكسرة باعتبار ان الراكب احد تمثلات هؤلاء الركاب ( الجمهور )على المستوى الدرامى، فكان من الاولى امتداد تلك المنصة العلوية بطول القطار بل و استخدام بعض الموتيفات الديكورية كشنط سفر تضفى مزيد من حالات عدم الثبات فى قطار لا يعرف الثبات او الاستقرار و انما تذبذبه حركة المستمرة وفعل القتل واستجداء التاريخ وحوادثه وغيرها من الامور التى تصوغ شكله وشكل حياة الركاب بداخله.
كذلك من الاشياء التى خالف التوفيق فيها المخرج الى حد ما هو وضع نمط ثابت او تصور متقن للايحاء بحركة القطار محاكاةً لحركة القطار الحقيقية فى الحياة كوضع ميكانيزمات او زنبركات اسفل العربة تضفى احساس الاهتزاز و حتى لو كانت التكلفة الانتاجية لصنع تلك الميكانزمات عالية فقد كانت هناك حلول اخرى كأن نوحى للركاب ( الجمهور ) باحساس الحركة عبر مؤثرات صوتية خافتة مستمرة لحركة القطار و ليس ان تظهر فى مناطق محددة فقط دراميا و تختفى فى احيان كثيرة او ان يتمايل الممثلون اثناء الاداء فى بعض المناطق للايحاء بالحركة فيما ان الجمهور نفسه الذى يمثل الركاب مازال ثابتا فى وضع جلوسه، و خصوصا ان حركة القطار مستمرة لا تتوقف كما صاغها المخرج بندائه الاخير عبر مكبرات الصوت عند بدء العرض من ان القطار سيتحركالان و من ثم ضرب جرس المحطة للإشارة الى بدء رحلة القطار والتى لن يستطيع اى من الركاب ( الجمهور ) اللحاق بالقطار بعد تحركه ( بدء العرض ).
كذلك عمد المخرج الى استخدام فرقة موسيقة تعزف بشكل حى فى مؤخرة القطار وخلف الركاب بينما امتزج التأليف الموسيقى ما بين الشرقى و الغربى للايحاء ما بين صراع الشرق و الغرب عبر تمثيل كلا من الراكب المقهور الذى تبطنت مونولوجاته باللون الشرقى وعامل التذاكر القاهر الذى تبطنت مونولوجاته بالالات الغربية، وهو ما جاء موفقا الى حد كبير وان كنا لا نعلم جدوى عزف الفرقة بشكل حى حيث يمثل هذا الاطار شكل مخالف لتكنيك الايهام الذى يستخدمه المخرج فى حبكته الدرامية التى يستعرضها امام الجمهور، فشكل العزف على هذه الطريقة من شأنه ان يكسر الايهام على الدوام و خصوصا ان الفرقةمرئية من قبل نصف الركاب ( الجمهور ) _على الاقل_ الجالس فى الجانب المواجة لها.
النص ايضا يطرح فى ثناياه خصوصية معينة لنوعية الاضاءة المستخدمة فى تجسيد الحالة و هى ان هذا الراكب يسافر فى اخر قاطرة ليلية الامر الذى يطرح تساؤل الجدوى من كل تلك الالوان المتنوعة و الممتزجة ما بين الاصفر و الاحمر و الازرق و الاخضر وغيرها من الالوان التى تٌوظف للتعبير عن إحالات كليشيهية كنشر اللون الاحمر عند فعل القتل و التحول الى الازرق و الاخضر فى مونولوجات الراكب للتعبير عن شقائه و مآسيه و هو ما يٌفقد رونق الحالة المجسدة فى النص الاصلى و خصوصا ان مصمم الاضاءة لم يستخدم منطقة خارج القطار الاستخدام الامثل سوى فى تأثير لحظى فقط عند عد الراكب لعواميد السكة كدال على فعل الانتظار و هو مؤثر ضوئى ايضا لم يستمر معنا طوال فترة العرض برغم انه من المفترض ان القطار يتحرك و بالتالى تتغير الاضاءة ما بين السطوع والخفوت و القوة و الضعف كدليل على حركة القطار المستمرة و هو ايضا يمثل احد الحلول التى وجب ان ينتبه اليها المخرج فى اضفاء مزيدا من احساس الحركة لعربة القطار.
ربما الأميز فى منظومة العرض كان أداء الممثلين الذى جاء مواكبا بحرفية لطبيعة كل شخصية على حدة فالراوى الذى لعب دوره “صفوت الغندور” كان على قدر من الثبات و الجدية والتنوع فى الاداء بحيث اتاح للشخصية التلون صعودا وهبوطا فى وصف الحدث و الحادثة التى مر بها الراكب قديما بينما يعاد تجسيدها من جديد فهو دليل الراكب لاجترار حركة التاريخ فى الماضى و هو نفسه ايضا الرابط المباشر ما بين منطقة التجسيد فى المنتصف و باقى اجزاء العربة الامر الذى جعل من حركته فى الارجاء و بين الركاب ( الجمهور ) تحمل بعض سمات الثقل فى تشكيل الفراغ المسرحى و تكون عبء زائد عليه فى بعض المناطق الاخرى، بينما جاءت ثنائية الراكب وعامل التذاكر _اللذان التزما منطقة التجسيد فى معظم مناطق العرض _ و لعبا ادوارهما على الترتيب كلا من “ مصطفى حمزة”، “ علاء قوقة “ معبرة بإتقان شديد عن تباين المظلوم فى مواجهة الظالم فإنكسارات مصطفى حمزة على الدوام فى الفضاء مع ظهره المحنى طوال الوقت و ركوعه الدائم جعل منه شخصية مهزومة فقدت كل مقومات البقاء على قيد الحياة فى مواجهة ذلك الذى يبطش به على الدوام و يسمى نفسه زهوان و صفوان و علوان .... الخ، وغيرها من الاسماء التى صاغها علاء قوقة جسديا عبر استخدامه لإكسسورات و ادوات القتل والتعذيب لذلك الراكب الى جانب الحس الفكاهى الساخر فى الاداء و كأنه يتلذذ بفعل التعذيب و القتلو هو ملمح قد يضفى مزيد من الحسرة والالم لدى الجمهور المتورط بالفعل فى مشاهدة قاتل يتلذذ بتعذيب ضحيته دون ان يحرك ساكنا و حينها فقط يتضاعف أثر الاغتراب لدى الجمهور الذى بات غريبا عن عربة القطار بل و عن ساحة الاوبرا نفسها و انتهاءا بغربته المريرة فى المدينة التى يحيا فى كنفها و تحت سمائها.
و ختاما ربما يتفق او يختلف البعض منا حول طبيعة المنهج او طريقة تطبيقه، الا هذا المقال _ فى ظنى _ يحرك و لو شىء يسير فى بركة النقد الآسنه علّنا نطرق سبل نقدية جديدة تضيىء وعينا بطبيعة قراءة العرض المسرحى فى انساق جديدة تواكب التطور التكنولوجى و العلمى السريع والمتلاحق.