مسرحة الرواية والأيقونجرافية الشعبية في الطوق والأسورة

مسرحة الرواية والأيقونجرافية الشعبية في الطوق والأسورة

العدد 627 صدر بتاريخ 2سبتمبر2019

تمثل عملية مسرحة الرواية شكلا فنيا معقدا، لأنه يُبنى على إبداع سابق ليُكون شكلا فنيا آخر، بشروطه الإبداعية والفنية، ويتم التعامل معه بقراءة تختلف مستوياتها، حسب قراءة المبدع المسرحي للعمل الروائي وتعامله مع فنياته ولغته وخطابه.
والمسرح في تاريخه القديم هو مسرحة لتيمات حكائية بداية من الأساطير اليونانية إلى حكايات ملفات هولنشيد التي اعتمد عليها شيكسبير في الكثير من مسرحياته إلى كتابات المحدثين الذين نهلوا من الأساطير والحكايات الشعبية والسير والملاحم الشعبية. ولذا فإن الأعمال الأدبية التي تعتمد في مصادرها الأولى ومنابعها الأصلية على إبداعات المأثور الشعبي تحفظ هذا المأثور - بشكل ما - وما يحويه من عادات وتقاليد ومعتقدات وتصورات ذهنية، وهذه الأعمال هي التي تستطيع التواصل مع شريحة أكبر من المجتمع الذي تتوجه إليه، أكثر من أعمال أخرى يغلب عليها التأثر بثقافات أخرى وإبداعات شعوب أخرى.
وحديثا شكلت مسرحة الرواية ملمحا مُهما في المسرح المصري، وتشير أسماء يحيى الطاهر إلى أنه من أسباب التوجه إلى مسرحة الرواية في ستينات القرن الماضي في المسرح المصري، اتساع سوق الإنتاج المسرحي وقلة عدد كتَّاب المسرح، فكان الحل هو مسرحة الروايات الشهيرة والملائمة من وجهة نظر كتَّاب المسرح، بدلا من الاستلهام والتمصير للنصوص الأجنبية. وكان منها الجيد الإعداد ومنها غير ذلك حسب قدرات الكاتب المسرحي.
أما في تسعينات القرن الماضي وما يليها، فالاحتياج الكمِّي ليس هو الدافع فقط لاتجاه الكثير من الكتاب لمسرحة الرواية، إذ تشكل الرواية عالما يغري المسرحي بتناوله بنقله من السرد عن ماضٍ حدث، إلى دراما تحدث أمامك والآن وتمسك بشخصياتها وتسمع حوارها وتحلل سلوكها وفعلها، من خلالك أنت وليس عين الراوي أو لسانه، كما أن الرواية المصرية الحديثة أصبحت الصوت المعبر عن التنويعات الثقافية المصرية المتعددة وقيمها وأفكارها، وأساليب حياتها، فأصبحت عالما مترامي الأطراف يجد الكاتب المسرحي في تيماته وأجوائه بغيته الفنية للتعبير عن خطابه مستعينا بالرواية وفهمه لها، ورغم أن الرواية تعبير عن وجدان وفكر وفلسفة مبدعها الفرد، فإنها في حقيقتها تعبير عن الجماعة الشعبية وثقافتها ومثلها وقيمها.
وفي مسرحة الرواية تخرج الرواية من شكلها الفني المروي على لسان متكلم أو راوٍ إلى شكل آخر يحتفي بتعدد الأصوات ويؤكده، مع استحضار الزمن – جعله حاضرا – وتكثيف الشخصيات، واختزال المكان. فالرواية تأتي على لسان راوٍ يحكي عن ماضٍ تمت أحداثه ووقائعه، والمسرحية تتحقق أمام متفرجيها وفي لحظتها الآنية.
ومن الفروق الجوهرية بين الرواية والمسرحية حديث الشخصيات، ففي المسرحية تعبر الشخصيات عن نفسها في حوار يتسم بمنطقية المحتوى ولياقته مع الشخصية وأبعادها، أما في الرواية فيقل الحوار لأن السرد هو الأساس ويجتهد الكاتب الروائي في كشف مكنون شخصياته وخبيئتها بالتعبير عنها بالوصف والشرح، وأحيانا بحوار الشخصية مع ذاتها - وهو ما يسمى في المسرح بالمونولوج – ويقوم الروائي بكشف مكنون الشخصية وحالتها النفسية من خلال حديث الذات.
وإذا كان للروائي حرية أكبر في الامتداد الزماني بغير حدود، وكلها امتدادات ماضية، أي حدثت في الماضي، وللروائي أيضا ميزة التعدد المكاني غير المحدود بما يخدم روايته وأماكن وجود الشخصيات الروائية، وللمكان بصمته ودلالاته، وفي المسرح يكون الزمان أكثر تكثيفا وكذلك الزمان، حتى إن الأرسطية تشترط دورة شمس واحدة – مع اختلاف تفسير دورة الشمس – وكذلك وحدة المكان، وإن تعددت الأماكن في المسرحية فهي أقل بكثير من التعدد والتنوع في الرواية.
أما الشخصيات فقد تتعدد الشخصيات في الرواية ولا يحد الروائي كثرة العدد في روايته ما دامت موظفة ومرسومة روائيا بشكل يرتبط بالتيمة الروائية ويخدمها، أما في المسرح فعدد الشخصيات محدود ويتم التركيز على شخصيات بعينها بوصفها شخصيات رئيسية تعرض قضيتها، ويساعدها شخصيات ثانوية، ولكن العدد المحدد والمحدود سمة للكتابة المسرحية البعيدة عن الترهل وضياع الخطوط من يد الكاتب المسرحي.
الطوق والأسورة.. رواية:
تعتبر رواية “الطوق والأسورة” من أكثر روايات يحيى الطاهر عبد الله حظا، فمع تعدد مرات طبعها، وانتشارها الكبير حديثا بصيغة PDF، وتم تقديمها فيلما سينمائيا من إخراج خيري بشارة عام 1986، وهو من درر السينما المصرية، وقام الكاتب المسرحي سامح مهران بكتابتها مسرحيا وتم تقديمها لأول مرة على المسرح عام 1996، وحازت على جائزة الإخراج الأولى في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثامنة، وتم إعادة العرض 2018 ثم شارك في المهرجان العربي للمسرح وفاز بجائزة أفضل عرض في هذه الدورة، وتم تقديمه لليالٍ متعددة على خشبة المسرح، ولم يفقد العرض إبهاره وجماله واشتباكه مع الجمهور.
(طوق وأسورة) يحيى الطاهر:
تبدأ أحداث الرواية في الكرنك بالأقصر عام 1933، وتتناول أسرة مكونة من الأب بخيت البشاري المريض مرضا مقعدا والأم (حزينة) التي ليس لها من اسمها الكثير أو القليل فهي عبارة عن آلة لاجترار الأحزان وتوقعها، والابنة فهيمة، التي تستقبل أيامها وتتمنى أن تكون مختلفة عن خيمة الحزن التي تعيش فيها، وما يزيد الحزن تأثيرا ووقعا الانتظار للابن الغائب (مصطفى) الذي سافر للعمل في السودان ثم في فلسطين ثم في منطقة قناة السويس، ولا يستطيعون تقدير بعد المسافة مع قلة الرسائل وما فيها من منح مالية تعين تلك الأسرة على أن تستمر في الحياة بجانب (بيضات) دجاجات حزينة، وغزل (الطواقي)، ويموت الأب نتيجة مرضه الصدري المزمن، ولأن كل فتاة في هذا المجتمع هي إعداد لمشروع زوجة تقوم حزينة بتزويج ابنتها من (الحداد الجبالي)، الذي تكتشف فهيمة وأمها حزينة أنه عاجز جنسيا ولا يُرجى منه طرحا أو ثمرة، فتأخذ الأم حزينة ابنتها وتذهب بها إلى المعبد للشيخ هارون الذي يمارس دجله وشعوذته كي تحمل فهيمة، ولا يجدي علاج الشيخ هارون وشعوذته، فلا يصبح أمام الأم حزينة إلا زيارة المعبد، والحل عنده، ومع تواطؤ الأم حزينة، يختلط الدجل بالحرام، وتحمل فهيمة في المعبد، وتأتي بطفلة ينكرها زوجها الحداد لعلمه بعجزه عن الإنجاب ويطلق فهيمة، وتمرض فهيمة وتموت بعد فترة تاركة طفلتها (نبوية) للأم حزينة، ومحاولة من الحداد لإنقاذ سمعته كرجل بالرد على التشكيك في ذكورته، التي هي موضع احتفاء المجتمع وتقديره يتزوج مرة أخرى ولكنه يفشل في الفكاك من عجزه وعنته، فتكون النيران هي الحل له ولعروسه كي يموت سره معهما، فيشعل النيران في عروسه بعد فشله معها ثم ينتحر أيضا بذات النار، التي شكلت في حياته مصدرا للحياة (مهنة الحدادة) فأصبحت سبب موته وحفظ سره كما يظن، ويعود مصطفى من غربته كهلا بعد وصوله للأربعين من العمر، مهزوما أيضا، وتكبر الطفلة (نبوية) وتصير فتاة ناضجة وتنزلق مع صديق طفولتها ابن الشيخ وتحمل منه، وحين يعلم خالها مصطفى بجرمها يحاول أن يستنطقها باسم شريكها في فعلتها، فلا تنطق؛ فيدفنها في حفرة مع منع الطعام والشراب عنها حتى يصل إلى اسم شريكها في فعلتها، ولكن ابن خالها السعداوي الحداد الذي كان يتمنى الارتباط بها لا ينتظر ما يفعله مصطفى وانتقاما لشرفه وحفظا لرجولته يقوم بقطع رأس (نبوية) وهي مدفونة في حفرتها، ويلقي برأسها أمام خالها، الذي يعلن هزيمته الماضية والحاضرة، ويهذي ويفقد الحركة ويعود لبيت أبيه، ويحتل مكانه قعيدا بجوار حزينة شبه الضريرة شبه الصماء. فالكل مهزوم في ذاته غارق في إلقاء جزء من خيبة أمله على آخر مع استمرار حزينة وكأنها القدر.
(طوق وأسورة) سامح مهران:
تأتي رواية “الطوق والأسورة” ضمن سلسلة من الكتابة المسرحية للرواية المصرية في مسيرة الكاتب المسرحي سامح مهران، فقد سبق له مسرحة رواية “ابن الرمال” لمحمد ناجي، وقدمها نفس المخرج ناصر عبد المنعم في تسعينات القرن الماضي، كما قام بمسرحة رواية “أيام الإنسان السبعة” باسم (مين ياكل أبوه)، بانيا عمله المسرحي على شخصية عبد العزيز، وقام مؤخرا بكتابة مسرحية (شقة عم نجيب) مشتبكا مع شخصيات روايات نجيب محفوظ منطلقا من النقطة التي انتهى بها نجيب محفوظ في شخصياته، ووضعها سامح مهران في مواجهة بعضها مع البعض بما تحمله من قيم وخطاب. وفي هذه المسرحية (الطوق والأسورة) التي بناها على رواية بذات الاسم للروائي الراحل يحيى الطاهر عبد الله، نجد أن الرواية تتكون من أربعة عشر قسما بجانب الخاتمة، وفي المسرحية اكتفى سامح مهران بالأقسام السبعة الأولى، وتفسيري لهذا أن الأقسام السبعة الأولى – حتى وفاة فهيمة في الرواية – أعطته التيمة التي سيجادلها مكتملة، وما جاء بعدها في الرواية هو تنويع على خطاب ما سبق، وكان عمل سامح مهران هو استحضار شخصيات يحيى الطاهر عبد الله، بتكوينها ولغتها لتنطق بالمسكوت عنه، الذي سعى الكاتب المسرحي لفك شفراته، لذا استبعد الكاتب المسرحي بعض الشخصيات من العمل، كما خلق الكورس المعلق على الحدث لتأكيده، والشارح لنا ثقافة المجتمع وقيمه وأفكاره وتوجهاته، والمنبئ بمعلومة تدفع الحدث للأمام، وجعل الكورس مجموعة من الرجال ومجموعة من السيدات لا يرددون جماعيا ترديدا تعليقا أو حوارا، بل شخصيات (منفردة/ في الكل) تتحاور بالعام والمُتبنَى اجتماعيا.
وفي قراءة سامح مهران للرواية إلتقط خطاب الرواية العاكس لخطاب المجتمع، فالجماعات الوظيفية إلى زوال، فالحداد لم ينجب، ومات منتحرا، وابن أخته السعداوي لم يتزوج من احبها (ابنة خاله/ ابنة فهيمة)، ومصطفى ابن بخيت البشاري لم ينجب، ومن تزوجها في الشام سقط جنينها، وطلقها بعد خيانتها له – كما أعلن في نهاية الرواية -، وأعلن أيضا أنه لن يقترب من أي من النساء مستقبلا، ثم أصابه الشلل الذي أنهى احتمالية إنجابه.وبخيت نفسه إنقطع نسله بشلل ابنه، كما أن ثنايا النص الروائي تحتفي بثقافة الزراعة وتمنحها الاستمرارية والمرتبة الأعلى لها ولأهلها.
وحرص الكاتب المسرحي سامح مهران على إبراز خطابات اعتقادية متجاورة ومتعايشة وقد تصطدم أحيانا ولكنها تعود للتجاور والتعايش رغم عدم قبولها لبعضها البعض، فمعتقدات أبناء المجتمع المحلي عن المتصوفة وطريقة ممارستهم للعبادات وما يرتبط بهم من كرامات ومعجزات، مثل المعتقدات المرتبطة بالشيخ موسى، الذي يعتقدون أنه قطب البلد وحاميها، يتجاور مع ممارسات الدجل والشعوذة التي يلجأ إليها المضطر والتي تأخذ سمت الارتكاز على المعتقد الديني وغرابة طرائق ممارساتها واشتراطاتها للعلاج أو تحقيق ما يريده الإنسان، الاعتقاد بالاستنكار والإنكار لهذا ,مثل معتقدات الشيخ الفاضل، يتجاور مع بقايا معتقدات شعبية موغلة في القدم وتمثل رواسبا ثقافية تحيا عندما تُستدعى أو يستدعيها الحدث، مثل أزمة فهيمة التي لم تحمل وزيارتها للمعبد وأسرار إله الخصوبة.
واستخدم سامح مهران في لغة حوار الشخصيات لغة صراعية متوترة تدفع الحدث إلى الأمام في تتالٍ ممنطق، مع الحرص على أن تحمل اللغة حمولتها الثقافية الدالة، واللياقية الفنية في الجمل الحوارية بما يتناسب مع الشخصيات، فاللغة المسرحية واضحة معبرة عن الشخصية ومكنونها غير مبهمة بأداء مجازي لا يفقتقد معياريته، ونجد لكل شخصية قاموسها الخاص المعبر عن تجربتها الاجتماعية وحالتها النفسية، ورغم مأساوية الحوار فإن الكاتب قد حرص على (الترويح الدرامي) من خلال الفتاة فهيمة أو بخيت البشاري أو مجموعة الكورس المعلق على الأحداث والممثلين لأهل القرية.، وكانت الكوميديا تنبع من المفارقة والمقابلة التي يخلقها الحوار.
لذا اتسمت لغة النص بالوضوح والتكثيف والتضمين والموضوعية، وراعى الكاتب المسرحي في صياغة حوار الشخصيات لغة الشخصيات ولهجتها المحلية التي صرح بها النص الروائي.
الشخصيات: في النص المسرحي هي نماذج بشرية - سواء الأساسية أو الثانوية – من شخصيات الرواية ,اختارها الكاتب المسرحي بالتركيز على شخصيات بعينها: الأم حزينة والأب بخيت البشاري والابنة فهيمة والشيخ الفاضل ومصطفى صبيا وزميله عبد الحكم، ثم مجموعتي الرجال والنساء الممثلين لأهل القرية، ومزج بين شخصيتي الشيخ الفاضل والشيخ موسى قطب القرية ووليها، وراعى في النص المسرحي والنص المرافق إيضاح الشخصية بهيئتها التي تعكس التكوين الفيزيقي، والبعد الاجتماعي للشخصية في كيانها وطبيعتها وتعليمها وسلوكها الاجتماعي – الملاءمة بين أفعال الشخصيات وصفاتها، وحالتها النفسية ووقع الأحداث عليها.
•    الحبكة: الحبكة في المسرح هو ترتيب خاص للأحداث وفق تنظيم معين وتوزيع محكم للفضاء وتحديد دقيق للشخصيات وما تنطق به من حوار بحيث تتحدد معالمها بفضل الحبكة، ويتحقق هدف المؤلف وتصل رسالته. ووتنبني الحبكة على حوار درامي للشخصيات ويشترط في الحبكة التتابع المنطقي من خلال بنيات جزئية (نقطة الانطلاق - الحدث الصاعد – الاكتشافات – التنبؤ أو التلميح - التعقيد – التشويق - الأزمة - الذروة - الحدث الهابط – الحل)، ولم يلتزم الكاتب المسرحي في حبكته بتسلسل سرد الرواية بل خضعت أحداث الرواية – في أقسامها السبع الأولى - للاختيار والانتقاء وكان مشهده الأول المكثف ونقطة الانطلاق من أمام منزل بخيت البشاري وبجواره ابنته الصبية وإمرأته الكهل، ويتصاعد الحدث بخبر قدوم (مكتوب) رسالة من أحد رفاق إبنهم من مكان عملهم وغربتهم، فتنطلق الأم للتعرف على أخبار ابنها والإطمئنان عليه.وتتصاعد الأحداث بذروة الأزمة بمشكلة فهيمة وعجز الحداد، وموت بخيت البشاري وتركه لإمرأتين مهزومتين بين جدران متهالكة منتحية جانبا في انتظار إنصاف قدري يأتي به غائب لا يعرفون متى يأتي، وتموت فهيمة بحمى تأخذ شبابها وحلمها في ارتباط ثانٍ – هو أول في حقيقته وتبقى الطفلة، ولا يعود الغائب، والكل بهزيمته متدثر.

طوق وأسورة ناصر عبد المنعم:
تأخذ خشبة المسرح شكلا غير تقليدي، إذ جعل المخرج ناصر عبد المنعم المسرح عبارة عن منطقة أداء تمثيلي أمام منزل بخيت البشاري..ثم ممر يجلس الجمهور على جانبيه متعمدا توريط المتفرجين في الأحداث فهم جزء منه لا ينفصلون عنه، فهم شهوده، والعارفين بكل الأحداث بتواطؤ مع صنَّاع العمل وينتهي الممر بساحة أداء تتغير فهي تارة بيت الحداد وتارة المعبد الفرعوني وتارة مكان الشيخ هارون وتارة مدخل القرية ككل.. ومنطقة أداء للأغاني المنفردة التي قدمها كرم مراد تعليقا على الأحداث أو تمهيدا أو ترميزا لها.
وكأن المخرج من البداية يؤكد على وحدة البيت ووحدة منتسبيه أمام مجتمع كامل يقابلهم، والوحدة هنا ترجع لأسباب ترتبط بالوضع الاجتماعي للأسرة. التي تعاني من الفاقة ومرض عائلها وغربة ابنها وقلة حظ ابنتها...
وتعمد المخرج أن يجعل الثلاث شخصيات الرجال التي تعلق على الأحداث وتنقل لنا رؤية المجتمع وقيمه - وكذلك الفتيات – يأتون من داخل كتلة المتفرجين ومن خلفهم وعندما يعلقون على الأحداث تلتفت لهم زيادة في إنتمائك لهم.
ويبدأ العرض بالشخصيات الثلاث: حزينة بملابسها السوداء الدالة على حداد دائم واستدعاء واجترار لكل مسببات الحزن من الماضي فهي لها من اسمها الكثير، وتقوم بتدوير الرحى، والحركة الدائرية حركة سرمدية لا تنتهي ولا يُنتظر لها نهاية، وخلف حزينة جزء من الجدار وقع ملاطه وبانت حجارته وكأنه ينبيء أن هذا المنزل بقليل من أعاصير الحياة سينهار.
وتجاورها ابنتها بدلالة مخالفة فهي ترتدي اللون الأحمر، وإن كان غطاء الرأس أسود وكأنه نبوءة للمشترك بينها وبين والدتها فيما هو قادم، وتقوم بغسل الملابس بحركة يد نشطة تناقض رتابة تدوير أمها للرحى، ويجاور الفتاة جسد والدها بخيت البشاري الممدد على الأرض، والمريض بداء الصدر الذي أقعده وجعله لا يستطيع تحريك نفسه من الشمس إلى الظل، فالثلاثة يمثلون حية تامة (الفتاة) نصف حياة (الأم حزينة)، والميت وجودا (الأب بخيت البشاري)، وتبدأ الأم حزينة باجترار ما داخلها بجملة مكثفة هي مثل شعبي شائع ومؤلم ولائم للغائب: «قلب يعلى ولدي إنفطر..وقلبي ولدي علي حجر».
وينطلق صوت الكروان في فضاء المكان بصوته العذب فتترجمه الفتاة بقولها: «الملك لك لك...» وتبتر جملتها بنظرة من أمها، ولكن جملة تعكس القدرية الشديدة وإقرار أبناء المجتمع بحتميتها حتى أن كل الكائنات تصدح بها صباحا لتذكر بني الإنسان، (أنت مفعول بك ولست فاعلا)..
ويأتي صوت الأب الملقى على جانب والذي ينتظر نهاية حتمية لا يعترض عليها فهي طريقه للجنة: «آآآه من الوجع والسن....» ويتقاطع كلامه مع كلام حزينة التي تعد سنوات لغائب، وتلومه، والفتاة تترنم بأغنية تحاول بها أن تخرج بحالتها من الحالة العامة، ولكن لأن الحالة العامة حاكمة فتأتي الأغنية عن راحل أيضا!!: «آه ياللي..أه ياللي..على راح..ومشي ما قال لي..شاله الحرير..وجلابيته الكشمير.... «وتقاطع الأم استرسالها وكأنها ترفض خروجها مما هم فيه.
وأثناء غسل فهيمة للملابس تتشمم بقايا رائحة عرق أخيها/ الغائب في الملابس، وكأنه هو الذكر الحلم والنموذج بالنسبة لها، فتنهرها أمها آمرة إياها بترك ملابس أخيها، فتستدعي مشهدا من الماضي، يمثل علاقة الفتاة بأخيها الغائب، ولتأكيد المشهد تنتقل الفتة للجهة المقابلة للبيت وتقف أمام تمثال لذكر فرعوني شامخ، تتحسسه الفتاة، وهي في حلمها الأنثوي، فيدخل أخوها عليها ناهرا إياها: “بت.. كده عيب” ولتأكيد قيم الذكورة التي تحكم المجتمع يؤكده مصطفى الأخ بأنه الرجل والذي لا تستطيع أن تخالف ما يقول رغم أنها الأكبر منه وبعامين كاملين، بل إن أفعاله الخطأ مقبول تمريرها لمجرد أنه ذكر، وبشرط عدم علم الأب بها، ويعنف أخته بدنيا ويأمرها أن تأتمر بما يقول فتذعن مستلذة بالإرغام البدني من قبله.
ويأتي حوار المجموعة القروية والتي تنبئنا بسفر الابن بحثا عن المال، مطاردا حلم دفع غائلة الفقر عن نفسه وعن أهله، وفي جمل مكثفة يصفون المكان الذي ذهب إليه الشاب وهو السودان “بلد الأحجبة والأوليا.. والمهدي المنتظر”.. “وبلد العقارب إللي قد الفيل.. وإللي بياكلوا البني آدمين».. أي أن مستقر الفتي في سفره هو هول لدفع هول.
ومع موسيقى شعبية مرحة تنطلق الفتاة إلى جلسة أمها أمام المنزل، ولتسرعها تكسر (القلة) ولأن حزينة تتطير من كسر الفخار أو (المداس) المقلوب، تنهر ابنتها وتعنفها لأن في كسر الفخار نحس وشؤم، فتخبرها الفتاة بأن هناك مكتوب قد وصل من (عبد الحكم) لأهله فيتساءل الأب عن من هو عبد الحكم هذا؟ فتجيبه حزينة بأنه: «عبد الحكم بن تفيدة بنت علي.. زميل ابنهم مصطفى في الغربة، فيعلق الأب تعليقا يعكس ذكورية المجتمع واحتفاءه بالنسب الأبوي على حساب النسب الأمومي المستخدم شعبيا الذي يعتبرونه مهينا عن المناداة به: “عبد الحكم.. ود طه أبو الحج محمد” فتؤكد حزينة على النسب الأمومي: “عبد الحكم ود تفيدة بنت علي” ويعترض بخيت البشاري ولكن يقطع اعتراضه سعاله القوي الذي يمزق الصدر ويكتم النفس ويغرق الكلمة في آبار الألم.
وتذهب الأم حزينة للسؤال عن ابنها وسط مشادة لم تنقطع مع زوجها: عبد الحكم ود طه وهي تردد عبد الحكم ود تفيدة.وكأنه إعلان لما هو مستتر: مصطفى ابن بخيت البشاري أم مصطفى ابن حزينة؟
وتأتي حزينة بأخبار ابنها الذي يحفر ترعا في السودان وأنه سيرسل خطاباته لهم على منزل الشيخ الفاضل، ويدور الحوار بين حزينة وزوجها بعد أن علم بأنها أعطت (باكو معسل بالختم) ثمنه ست بيضات لخادم الولي الموجود في القرية، ممنيا نفسه بأنه كان الحق بهذا العطاء. فتأثير الاعتقاد في الأولياء وقدرتهم على جلب المنعة ودفع الضرر تجعل حزينة الحريصة والفقيرة تخالف المثل الشعبي الذي يمثل قيمة اجتماعية (إللي يعوزه البيت يحرم على الجامع) فهنا المسألة وظيفية وأكثر إلحاحا وتأثيرا ف (إللي يعوزه الولي لإرضائه وجلب بركته يحرم على البيت).
ويموت بخيت البشاري ويقوم الشيخ الفاضل بمراسم الجنازة العقائدية الرسمية وتعلو أصوات الكثير من حزينة وابنتها وسيدات القرية وداعا لبخيت البشاري وأداء واجب النياحة والكثير، التي تدخل في إطار المراثي الشعرية الشعبية قصيرة النصوص، ترديدية الأداء، ويعلو صوت الشيخ الفاضل بلغة رسمية فصيحة بتحريم أفعال الكثير والندب، ومع كلامه وتحريمه تتجاور المعتقدات، بل يعتبر أهل هذه الثقافة ان الكثير واجب تؤديه السيدة في وفاة الجار أو القريب، وفي أول وفاة لديها يجب أن تقوم السيدات الأخريات برد الواجب وترديد الكثير ونصوصه، والتي تختلف حسب جنس المتوفي وحسب سنه.
ويستعرض الكورس المكون من رجال القرية ونسائها الحديث والتعريف بالشيخ الفاضل الذي لم يرونه يصلي معهم أبدا وتتواتر الأقوال من مريديه ومحبيه أنه يصلي في مكة كل فرض صلاة، وانه يستطيع أن يوجود في مكانين في ذات الوقت، كما أن يطوي الأرض طيا بإذن الله، كما أنه: «يعدي البحر ولا يتبلش»، وتتجاور عملية شرخ المعتقد مع التناص أن من «يعدي البحر ولا يتبلش هو العجل في بطن امه». فالشيخ الفاضل والعجل سواء.
وتحلم فهيمة بفارسها الذي تنتظره، تتمنى أن يكون غنيا، لكنها تصطدم بما أكدته حزينة: «الغني للغنية، والفقير للفقيرة»، حتى الصعود الاجتماعي عن طريق الزوج مغلق أمام فهيمة المحكومة بحتمها الاجتماعي وحتم أسرتها الاقتصادي، وتستعرض فهيمة ما هو مبهج في صندوق عرسها المنتظر – على بساطة ما يحويه - وتغني الفتيات تحت عين حزينة التي يدفعونها للمشاركة معهم لكن اسمها هو صفتها، كما أنها ورغم دواعي الفرح الواقعة مستريبة فيما هو قادم.
ويحتفل أهل القرية رجالها ونسائها بزفاف فهيمة للحداد الجبالي، وبعد الزفاف يفش الحداد في الدخول بفهيمة، والتي تكتشف عجزه بمرور الأيام وتكرار محاولاته، ولا يغيب عن حزينة المرأة المجربة ما فيه ابنتها، وما تعانيه وتخجل من إعلانه، ومحاصرة الحداد لها حتى لا تعلن عجزه، وتنفرد حزينة كتلة السواد المتحركة مع فهيمة التي أصبح اللون الأسود سمت ملبسها أيضا، وكأنها تكرار لذات الشخص. ومعاندة القدر له، وتسأل حزينة ابنتها فهيمة مباشرة بلغة مليئة بالمجاز والتورية: «الراجل من دول بيفلح أرضه ويحرتها ويبدر بدوره عشان يحصد في الآخر، الحداد بيعرف يفلح أرضه؟ ولا الأرض كافرة ما عايزاش تدي؟؟»
وتأتي إجابة ابنتها مؤكدة لظنونها، الحداد لا يستطيع حرث أرضه، فتعتقد حزينة أن في الأمر عمل سحري من شقيقة الحداد حتى لا ينجب ويأتي بوريث ينازعها هي وأولادها نصيبهم في ما يملك الحداد بعد وفاته، فيكون الطلاق هو مبتغاها، وتصبح فهيمة بضاعة كاسدة في بيت أبيها، فهي «عتبة داستها قدم». فلا تغري بطلب أو قدم جديدة، فتذهب بابنتها إلى الشيخ العليمي، وينادينه في إبتهال أن يقضي حاجتهن، فيسمع لفهيمة وأمها ووسط تحرشاته الجسدية بهما وبفهيمة خاصة يؤكد أن هناك عمل سفلي، ويعطي علاجا له، الصعب فيه والمستحيل هو طريقة تنفيذه. ولم يفت المخرج أن يجعل الشيخ الدجال جالسا القرفصاء كأنه يقضي حاجته، مع (الحزق) مع كل جملة وكأنه يعاني أثناء عملية الإخراج، وكأن المخرج يشير بهذا الأداء إلى أن هذا المجتمع – وغيره من المجتمعات حتى الآن - ما زال يأخذ هذا الفكر الذي لا يتجاوز مخلفات الإنسان مساحة وقناعة ووجودا كبيرا.وبالطبع تفشل طريقة العلاج لاستحالة تحقق شروطها التي طلبها الشيخ العليمي، والذي استنزف الأسرة وما يرسله الابن المغترب مصطفى لوالدته حزينة.
وتتوالى أحاديث أهل القرية التي تؤكد أن الفقر سجن الفقير ونكبته، ف (الجهادية) والغربة في بلاد الله مع السخرة للأجنبي للفقير الذي لا يستطيع أن يدفع مبلغ (البدلية) وهو مبلغ يدفعه الأثرياء لإبعاد أولادهم عن الخدمة في (الجهادية)، ولأن ثقافة الفقراء ثقافة تحايل – إن لم تستطع المواجهة - فأصبح قطع الإصبع السبابة الذي يستخدم في الضغط على زناد البندقية هو الحل الذي يجعل الشاب معيبا ولا يصلح لأداء خدمة الجهادية.
، وتستمر مشكلة فهيمة، وتقرر حزينة اللجوء لحل آخر على مستوى أخر من الاعتقاد فيما هو غيبي ويخالف الدين الرسمي لكن يجاوره ويوازيه ممارسة. فتصطحب ابنتها إلى المعبد الفرعوني، وتجذل العطاء لحارسه ليدخلها غرفة إله الخصوبة، عاري الجسد، وتدخل فهيمة ووسط خوفها يغشاها جسد.زهل هو إله الخصوبة أم خادم المعبد..؟؟ لا تدري..ولكن ما تعلمه أن ما ءالحياء صُب فيها وأصبح هناك جنينا. تتمسك به فهيمة، ويرتاب الحداد الجبالي في نسبه. كيف يأتي حملٌ وهو على ما هو عليه؟؟!! ويحسم الحداد امره متحيزا لشكه فيأمرها بالعودة غلى دار أبيها ويطلقها.
وتستكمل فهيمة شهور حملها وتنجب بنتا، ويلتزم الحداد بنفقتها وحقوق أمها حتى لا يُدان اجتماعيا ويعلن لحزينة أنه سيتزوج من بنت الصياد ليئد فكرة عودة فهيمة له.كما يرمم ما مس ذكورته/ رجولته وسط المجتمع.
ويأتي (عبد الحكم ود تفيدة) زميل مصطفى في الغربة لزيارتهم وتسليمهم ما أرسله ابنهم من هدايا وأموال، وكان المخرج شديد التوفيق في جعل ذات الممثل الذي أدي دور مصطفى صبيا هو نفسه من يقوم بدور عبد الحكم، فالحالة هي هي، والنموذج شديد الإنتشار والشيوع، فقراء أبناء فقراء يلهثون في أراضي الله الواسعة ليحصلوا على ما يمنحهم أسبابا للعيش للغد ولأهلهم أسبابا للعيش اليوم، ويختلط الأمر على حزينة كليلة العين فتنادي من حضر باسم ابنها فيرد عليها: “ما انا زي مصطفى برضه يا خالة”، وكأن ما نراه في بيت بخيت البشاري هو صورة من صورة متشابهة بل قد تكون متماثلة في بيت كل بخيت وكل بشاري في القرية.
وتنتبه حزينة لإمكانية أن يكون عبد الحكم رجلا لابنتها زوجا فهم «أولى به من الغريب»، ويستعرض عبد الحكم هدايا مصطفى لأهله وسط حديث يُشتم منه ميلا غريزيا بينهما لا يعرفان ترجمته، وبعد إنصرافه تجتر فهيمة حوارهما حتى تلامسهما، التي لا تعرف هل قصده أم جاء عفويا؟
ويحمل لنا حوار الكورس وصفا للحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها بسبب الحرب العالمية الثانية وما خلفته من شح في الأرزاق والموارد، وحمل حوارهم خبرا أيضا وهو أن الحداد الجبالي حرق زوجته الجديدة ابنة الصيَّاد وحرق نفسه بعدها دون مراعاة لغلاء أسعار الكيروسين وندرته!!
ويأتي حوار السيدات فيما يقابلهم حاملا نبوءة في شكل حلم لإحدى السيدات مرتبط بالشيخ الفاضل الذي «يعدي البحر ولا يتبلش» ولكنه في حلمها «غرق في شبر ميه».
وتهاجم فهيمة الحمى وهذيانها فترى حزينة فيها نهاية أجل ابنتها، وأن الموت يدعوها له. وتأتي المجموعة مستعرضة العلاج بالفصد على طريقة اللعبة الكلامية الشهيرة: «الفرخة عايزه قمحاية..والقمحاية عند التاجر..والتاجر عايز فلوس...والفلوس عند الخواجة..والخواجة عايز لبن..واللبن في ضرع البقرة..والبقرة عايزة برسيم.........» وهكذا في دائرة عبثية لا تنتج شيئا مثل علاج الحلاق بالضبط...متتالية لا تؤدي إلى شيء... لكن ترى حزينة علامة الرحيل على وجه ابنتها فهيمة وأنه آن ووجب، رغم معارضة حزينة وتحججها بصغر سن فهيمة، كما أن موتها سيتركها وحيدة.... ولكن ترحل فهيمة بظلم المجتمع لها وبأسرارها.
ويختتم المخرج عرضه باستحضار ثلاثة غائبين، اثنين بالموت: الشيخ الفاضل والحداد الجبالي، والثالث بالغربة مصطفى بخيت البشاري، ويتصارعون الثلاثة بعصيهم على نبوية/ حورية ابنة فهيمة.. تكون لمن فيهم؟ الأب الحداد، أم الخال مصطفى أم الشيخ الفاضل لأنها تربيته. وكأن قدر المرأة دائما في يد ذكر لا يفلتها أبدأص ويحملها هزائمه وإنكساراته، وكأن نبوية/ حورية وأي نبوية/ حورية هي فهيمة مستقبلا بلا تغيير، ويؤكد المخرج هذا بحزينة التي تجلس جلستها المعتادة أمام بيتها وتدير (الرحاية) وكأنها القدر أو الشاهدة على الأقدار المتشابهة للناس.
شعبية عرض الطوق والأسورة:
قدم صانعو عرض الطوق والأسورة عرضا شعبيا على اعتبار أن العرض الشعبي هو ذلك العرض الفني المُعبر عن العقلية الجمعية لأبناء الثقافة الشعبية والمتوجهة لذات العقلية الجمعية الشعبية بكل الأشكال المتفقة مع طريقتها في الحياة وفي الإبداع، وتلقيه. وسأوجز في السطور التالية ما أطلقت عليه (الأيقونجرافية الشعبية) في عرض الطوق والأسورة، ونتناول فيها الصورة بوصفها لغة؛ هي نتاج جماعي واجتماعي لا يستطيع فرد بذاته المنفردة إنتاجها وتغييرها، وهذه اللغة/ الصورة تقدم وصفا للواقع المباشر من خلال نموذج يضم مجموعة مكونة من عناصر ذهنية تقدم تصورات محددة من الواقع. ومن خلال هذه اللغة تتولد الأيقونة وهي الصورة ذات الدلالة، فنحن أمام صورة ذات دلالة تحمل معنى معينا للجمهور، وهذا المعنى أدركه الجمهور عبر الرؤية المتكررة لتلك الصور في ذات النوع من الأفلام وفي هذا البحث سيكون هناك الاهتمام بما نستطيع تسميته بالأيقونجرافية الشعبية وهي كل العناصر الموجودة في الصورة والتي ترتد إلى أصول شعبية وتقسم إلى:
1 -  السمات الجسدية ودلالتها النفسية:
  نجد الصورة الأيقونية للمرأة التي تقاوم قهرها وجور زمانها بجسد منحنٍ هزيل نتيجة لمعاركها مع الزمن والفقر فكانت حزينة، واختار المخرج الفنانة فاطمة محمد علي بتكوينها الجسدي الملائم مع أنحناء ظهرها وكأن هناك (قتب) مراوغ، والصورة الأيقونية للمريض المقعد الذي يعد أيامه انتظارا لأخرته ليس إلا، فإذا كان يفتقد (حجر معسل) يعدل مزاجه، إلا أنه يتمنى نوما هادئا ينقله لآخرته فهناك الجنة له، فهو المسلم الذي يستحقها وأدى الدور بتميز محمود الزيات، والفتاة المنطلقة الريانة التي تستقبل أيامها معتقدة أن الدنيا ستدين لها وستعطيها أسباب السعادة، وفي اللوحات الأخيرة من المسرحية وبعد طلاقها ومعاناتها تحولت إلى صورة أخرى من حزينة، إلا في مشهد واحد استعادت حضورها الشاب الطامح عندما أتى زميل أخيها في الغربة لزيارتهم، فأيقظ داخلها الأنثى بأحلامها. ثم عادت لصورة حزينة والدتها.
والحداد الشاب الفتي الذي تقدم لفهيمة، بشبابه وقوته عنفوانه، والذي عكس صورة للشباب وفحولته في الظاهر، ولكن في الجوهر والحقيقة هو عاجز، ولكن المجتمع لا يقبل اتهام الرجل بالعجز. ومن ثم كان الحداد رافضا لعجزه رغم وضوح دلائله.
والشيخ الفاضل بلحيته البيضاء وبنائه الجسدي الذي يعكس قوة رغم سنه.
والكورس من الرجال بأجسادهم العادية التي تتراوح في الطول والسمنة، أما كورس السيدات فكان من فتيات مقبلات على الحياة وكأنهن صور متكررة من فهيمة.
2 - الملابس:
تشكل الملابس عنصرا أساسيا في تكوين صورة الممثلين، فالملابس تحدد المكانة الاجتماعية لصاحبها، كما أن للألوان دلالاتها الدرامية واستعمالاتها الجمالية، فملابس حزينة السوداء بكل قطعها وأجزائها تعكس حالتها النفسية وتكوينها، وملابس بخيت البشاري رمادية اللون هي درجو وسطى فهو يتمسك بدوره بوصفه (رجلا للبيت)، كما أنه يعشم في دنياه وإن لم يكن ففي آخرته.
والفتاة فهيمة ترتدي في أول المسرحية جلبابا يناسب سنها، أحمر اللون ذو تصميم يتلاءم مع سنها ويعكس إقبالها على الحياة وروحها المتوثبة، وبعد زواجها وإنكسار حلمها كان الزي الأسود هو لباسها وكأنها حزينة صغرى، ولم ترتدي لونا غير الأسود إلا في مشهد مقابلتها لزميل أخيها المغترب، هذا الشاب الذي أحيا داخلها النثى ومرحلتها العمرية.
وكانت ملابس الشيخ فاضل الجلباب الصعيدي متسع الأكمام، وعمامة كبيرة تدل على مكانته، وكانت ملابس مصطفى الصبي جلبابا فقيرا يدل على عوزه وعوز إسرته وهو ما اضطره للسفر بحثا عن سبب للرزق يوسع على نفسه وعلى أسرته، وعندما قدم صديقه - الذي يعتبر نموذجا له0 كان يلبس بنطالا وجاكيت غير متناسقين لغربة صاحبه عنهما.
وملابس الحداد الجبالي تم مراعاة أن تكون ملابسا رجالية تبرز التكوين الجسدي القوي لصاحبه، والملائم المهنته واحتياجها لقوة بدنية لأدائها.
وكان الكورس الرجالي بملابس رجال جنوب الصعيد وعمامة لا تدل على وضع اجتماعي متميز، وكذلك كورس السيدات اللائي كن يلبسن الملابس السوداء كأنهن صورة متكررة – وإن كان على أصغر - من حزينة، وعندما يلبسن ملابسا زاهية الألوان يكن صورة من فهيمة في مرحلتها الأولى.
3 -  معالم البيئة الشعبية المحيطة:
  تعتبر الخلفية التي تتحرك فيها الشخصيات، وبتكرار ظهورها واستدعاء دلالاتها في الذهن جانبا مهما في تشكيل الأيقونجرافية الشعبية، فمنزل بخيت البشاري بحائطه متساقط الطلاء والملاط، ونوافذه ذات الحديد المتشابك والتي تعكس صورة السجن لمن هو في الداخل أو الخارج، والحرص في تكوين الخلفية على أن تعكس القرية، وأيضا منطقة الأداء المقابلة والتي تتغير بتغير الأحداث امامها، فهي ساحة القرية التي تُظهر خلفها بقايا معابد مصرية قديمة، وتظهر المسلات التي تتوزع ف يالقرية وكأنها جزء من بنيتها، وكذلك معبد إله الخصوبة، فكانت البيئة المحيطة انعكاسا للكرنك بتاريخه وحاضره.
4 - الأدوات المستخدمة:
 هناك أدوات بمجرد رؤيتها يتولد الانطباع بشعبيتها، وإنتمائها الاجتماعي فنجد (الرحاية) التي لا تفارقها حزينة إلا نادرا، والفتاة تجلس على طست تغسل ملابس أبيها وأخيها، والفانوس المعلق على الحائط، والزير الموجود بجوار مرقد بخيت البشاري، والمنخل المعلق على الحائط، كما نجد أن شوار العروس في صندوق خشبي تجمع فيه الفتاة احتياجاتها المستقبلية كعروس، والمفارقة نجد على الحائط علامة بكف اليد (خمسة وخميسة) وكان هذا الفقر هناك من يحسده!!
وهناك العصي في يد رجال القرية فبجانب أنها سلاح لمن لا سلاح له، فهي أداتهم في الترفيه والرقص.
 ويتبقى الأيقونات الصوتية التي اختارها المخرج ببراعة، فقد كانت الموسيقى حية وبآلات الموسيقى الشعبية من آلات النفخ والإيقاع، كما استخدم أغاني دورة حياة الإنسان بأصوات الكورس النسائي بشكله الشعبي، وكان أداء كرم مراد لأغانيه العذبة الموظفة بمهارة كمعلقة على حدث ماضٍ أو تمهيدا لحدث تالٍ بأداء ريستاتيف لا يصاحبه موسيقى آلية وإكتفى المخرج بالموسيقى البشرية (صوت كرم مراد)
وختاما..الطوق والأسورة عرض من الجوهر النادر توافق في تلقيه مع ذائقة الجمهور وظروف سياقٍ فني متعطش لما هو أصيل، لذا سيظل هذا العمل درة من درر المسرح المصري.
العرض كتابة مسرحية: سامح مهران - بطولة: فاطمة محمد علي، محمود الزيات، مارتينا عادل، أحمد طارق، أشرف شكري، شريف القزاز، شبراوي محمد، محمد حسيب، سارة عادل، إيمان حسين، فرح حاتم، نائل علي - غناء: كرم مراد. - ديكور: محيي فهمي - أزياء: نعيمة عجمي - رؤية موسيقية: جمال رشاد - نحت: أسامة عبد المنعم - إخراج: ناصر عبد المنعم.

 


محمد أمين عبد الصمد