العدد 741 صدر بتاريخ 8نوفمبر2021
لم يعد باستطاعتنا، تَحَمُّلُ اللوعةِ القُصوَى، التي يَحفُرُهَا الراحلون الأحباء، في أخَادِيدِ أرواحِنَا، قُبَيل مَرَاسِم وَدَاعِهِمِ الدراماتيكي. وَدعَنَا بالأمس القريب، الفنان المسرحي المبدع: (مُحَمَّد الشَّيخ)، واليوم، يُلَوِّحُ لنا الغِيَابُ، آخذا في طَيَّاتِهِ أيقونة من أيقونات المسرح البورسعيدي والمصري. إنه: (فَوزِي شنُودَة أَيُّوب بِشَاي)، ابن أربَعِينِيَّات القَرنِ المَاضِي، المولود في الثاني والعشرين من شهر نِيسَان أبريل، عام ألف وتسعمائة وأربعين، رَبِيب أزقة وحارات بورسعيد القديمة، التي لا تظمأ من ضوء الشمس نهارا، ولا تفتقد مَسَاحَاتُهَا الهندسية الوَرِعَة (المُوَزَّعة بأناقة على الحَوائِطِ والشوارع فِرَنسِيَّة التَّصمِيمِ) كُئُوس الشغَفِ التي يَصنَعُهَا مساء بورسعيد الفِضِّي. إنه الفنان الذي وَهَبَ المسرحَ عُصَارَةَ عُمرِهِ. وهو (حقا) من أبرز فناني المسرح: تَمثِيلاً، وإِخرَاجًا، وتَعلِيمًا، لأجيال تَترَى في المسرح البورسعيدي والمصري في العصر الحديث. البداية كانت في ثنايا فرقة مسرح: (جَمعِيَّة الكِتَابِ المُقَدَّسِ)، كان الفَتَى الدمِث، اليَافع صاحب العُودِ النحيف، الذي يَختَصِرُ (ما استطاع إلى ذلك سبيلا) ملامح فتى أسمر، في بَوَاكِيرِ عِشرِينِيَّاتِ عُمرِهِ، يَقرَأُ أكثر مما يأكل، ويفكر فوق ما يتكلم، ويتنفس الناس رحيقا، ويَخزِنُ حَكَايَا الجدات عن بورسعيد الأولى، ومشاهد الإفرنج وهم يتعاطون الحياة اليومية مع الصعيديين (أصل بورسعيد) في رحاب البحر الطيب الوَسِيع. يَتَرَجَّل الفتى إلى حيث مكتب البروفات المسرحية بالجمعية المذكورة، حاملا مع نظارته الوقور، كتبا مسرحية عدة: (يُوربِيدِيس، ومن الأدب التمثيلي اليوناني لسُوفُوكلِيس ترجمة: طَه حُسَين، وهِزيوُد وإِيسخِيلُوس...إلخ)؛ مَيَّزَته عن أقرانه ومُجَايِلِيه، من رواد المسرح الكنسي ببورسعيد. إن (جمعية الكتاب المقدس) في الفترة المشار إليها، كانت تموج بأنشطة رائعة ومتنوعة: رياضية، وثقافية، وشعرية، ومسرحية. ارتبط الفتى الأسمر بالمسرح (إضافة إلى محبته الدفينة للشعر)، وأحس أنه جنته الموعودة. تَعَلَّقَ به؛ من خلال رؤيته وتعامله مع رواد المسرح الكنسي ببورسعيد: جَمَال تَادرُس، وحَبِيب نَصِيف. اجتمع فتانا ببعض شباب الجمعية من عشاق المسرح، ومنهم: إِبرَاهِيم جِرجِس، وشَوقِي عَزمِي. وأنتجوا مسرحيات قصيرة، لا تتجاوز نصف الساعة. إلى أن تعرفوا على زميلهم من الجمعية؛ ألا وهو الممثل المبدع والمخرج الراقي: سَمِير إسكَندَر، الذي شَرَع في إخراج عروض كبيرة للمجموعة المذكورة، وكان (في الوقت نفسه) صديقا حميما لنابغة المسرح البورسعيدي، المولود في السابع والعشرين من شباط فبراير، عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين للميلاد، الفنان والمخرج المسرحي الكبير: سَمِير العُصفُوري. توطدت العلاقة بين سمير العصفوري، وممثلي جمعية الكتاب المقدس. وكانوا يتابعون (عن كَثَب) عروضه المسرحية، التي كان يخرجها للنادي الصيفي بمدرسة بورسعيد الثانوية. ثم رشحته الفرقة للإخراج المسرحي لعروض الجمعية، وهناك، لفت فتانا المبدع فوزي شنودة، نظر سمير العصفوري، الذي اعتنى بموهبته الاستثنائية، وكَوَّنَ معه ومع أقرانه (وبصحبة الفنان: عَيَّاد حَكِيم، أو الأب صَلِيب الآن) قوام فرقة مسرحية عالية الهِمَّة والتَّفَنُّن، كانت تشكل جُزءًا مُهِمًّا ومُلهِمًا، من الحركة المسرحية البورسعيدية، مَطلَع سِتينِيَّات القرن العشرين. وفي ذلك يقول (فوزي شنودة) نفسه: «وأصبح مسرح الجمعية مقرا جديدا له، وانتهج معنا نهجا جديدا في المسرح، من تدريبات بدنية، وإلقاء محاضرات، وتوجيهات عن جغرافية المسرح. كل هذا يتم على خشبة مسرح، مقدمته الأمامية لا تزيد عن ثلاثة أمتار ! ومع استمرار التدريبات؛ قدم لنا مسرحا جديدا، يُعرَفُ بالمسرح الصامت (البانتومايم)، وقدم لنا من خلال هذا المسرح مسرحية عن عالم القراصنة، صمم ديكورها من صناديق خشبية، وإضاءة من خلال لمبات عادية، داخل أوعية خاصة بعُلَبِ السمن». سَطَعَ نَجمُ (فوزي شنودة) عرضا بعد عرض. وافتتحت عروض الفرقة المذكورة بعد انضمام سمير العصفوري إليها، بمسرحية: (حَاكِم مَدِينَة)، من تأليف وإخراج: (سَمِير العُصفُورِي). وكذا مسرحية: (الرداء)، التي ألفها وأخرجها سمير العصفوري، عن حياة السيد المسيح (وإن لم تعرض لظروف إنتاجها الكبير). بعدها توالت الأعمال الفنية للفرقة المسرحية (ذَاعَ صِيتُهَا، وتَنَاهَى إلى الأسماع دَوِيُّ نُبُوغِ أعضائها؛ بقيادة النابغة الأكبر، وسابق عَصرِهِ: سَمِير العُصفُورِي). ومن الأعمال المسرحية التي أخرجها (سمير العصفوري) للفرقة المذكورة: مسرحية ثورة الضمير (دِرَامَاتُورج من المسرح العالمي)، ثم مسرحية طبيب رغم أنفه، من تأليف: موليير (جُون بَابتِيست بُوكلَان)، ومسرحية الاعتراف الأخير (دراماتورج: سمير العصفوري)، ثم مسرحية قضية كل يوم (دراماتورج من المسرح العالمي)، ومن إخراج الفنان العملاق: نصر الدين الغريب. تميز الأسلوب التمثيلي لفوزي شنودة بالتدفق والحرارة، وجودة استحضار النمط التمثيلي، وبراعة تطبيق مهارات حرفية الممثل في استدعاء الذاكرة الانفعالية، الخاصة بسياق الشخصية والسياق الدرامي، وسمو الخيال والتخييل. لقد طَوَّرَ (فوزي شنودة)؛ عقب سنوات من الفعل المسرحي العميق، فكرة: (المسرح الكنسي) برمتها؛ منتقلا بها من مستوى الوعظ والمباشرة، الذي يناسب خطب الكهنة؛ لتطهير الأرواح وتخليصها من شعب الكنيسة، إلى مستو آخر؛ مُرَاعِيا مقومات وعناصر لعبة الدراما المسرحية. لقد استطاع فوزي شنودة (بحُنكَتِهِ ودُربَتِهِ) أن يُجَسِّدَ مَضَامِينَ المسرح الكنسي، في ضوء ما يَسطَعُ لفنان (وقاريء نَهم في الآداب المسرحية العالمية) من أفكار. وكذا؛ فلقد طَوَّرَ (فوزي شنودة) نوعية العروض المسرحية، التي ينبغي تقديمها؛ مُشتَرِطًا أن تكون مُفعَمَةً بالفعل الدرامي، وغنية بعناصر: البنية المتماسكة، والحبكة، والفُرجَة المسرحية الممتعة. وإذا ما صَادَفَهُ نَصٌّ به عَوَار، كان (بثاقب نظرته، وتصرفه الإخراجي الحصيف) يعيد الصياغة، ويوغل الابتكار، ويعمق المعالجة؛ لكي تصبح المسرحية مُنجَزًا دِرَامِيًّا، مؤهلا للعرض والمشاهدة (وكان مشهورا عنه دقته القصوى حال العرض المسرحي). فلم تعد المسرحية التي يُخرِجُهَا (فوزي شنودة) مسرحية قداس إلهي محض، أو طقس ديني احتفالي لا أكثر. وإنما عَمدَ (فوزي شنودة) إلى إخراج الأعمال المسرحية الكنسية، بأسلوب درامي مغاير، يُجَافِي الرتابة الدرامية، التي تصاحب (ضرورة) الأعمال الوعظية أحادية البنية، ويتجاوز (في الوقت ذاته) الحدود المكرورة؛ عبر استبدال الإلقاء وتراتيل الكورس، بحال محمومة من التفاعل، والتواصل غير التقليدي بالجمهور، ومن خلال استحداث مشاهد مسرحية مُمَثَّلَة، تُحَاكِي القَصَصَ والبطولات المسيحية الأولى من مَظَانِّهَا، وفيها ما فيها من معالم التشويق، والرونق الأخاذ، الذي أبهر النَظَّارة، وطور (أيضًا) طريقة تلقيهم للعرض المسرحي الكنسي (إضافة إلى اعتماده منهجا حديثا في استخدام المكياج المسرحي، وحرفيات الإضاءة). وعليه؛ فإن لفوزي شنودة (بما تعلمه من مُعَلِّمِهِ الأول: سمير العصفوري، ومما قرأه واستوعبه من إرث مسرحي وأدبي هائل) أيادٍ بيضاء، على المسرح الكنسي البورسعيدي والمصري. عَرَّجَ الفنان (فوزي شنودة) على التمثيل المسرحي الكوميدي؛ فَمَثَّلَ مسرحية: نمرة 7 (وهي كوميديا من إخراج الفنان العملاق: نَصرِ الدين الغَرِيب)، ثم انتقل فوزي شنودة إلى العمل مع فرقة (قصر ثقافة بورسعيد)، وذلك في أوائل عام 1964م. وكان من مُؤَسِّسِي الفرقة، وحَرَسِهَا القَدِيمِ (ومن جملة أعضاء فرقة قصر ثقافة بورسعيد: أحمد سخسوخ، ومراد منير، وحمدي الوزير، والعربي بُرهَام، وعماد عبد الرحمن، ومسعد الحَطَّاب، وسيف زارع، وصلاح الدمرداش، وإنعام ونصر السمطي، وأحمد متولي (موسيقي)، ومحمود حلبية، ومتولي ومديحة سكرانة، وكمال عرفة، ومحمد ويُوسُف العُسَيلِي، وأحمد خلف، وعاطف عبد الرحمن، وحسن الوزير، وَوَصفِي هَمَّام، ومحمد شوشة، ومحمد الزغبي، وعلي الجوهري، ومحمد عبد العاطي خليفة، وأحمد عجيبة، ودولت إبراهيم، ومحمد الكتاتني، ومحمد حسن، ورضا عبد الرحمن، ونَجِيب سُلَيمَان)، كانت (بالفعل) الأكاديمية المسرحية الصُّغرَى (أو إستديو الممثل؛ على حد تعبير عباس أحمد) نموذجا عجيبا، ومثلا يُحتَذَى في التفاني والإخبات والإخلاص. لقد تَعَاوَنَ وَتَعَاضَدَ الكافة؛ لأجل إنجاحها (من أصغر عضو في الفرقة إلى أكبر عضو). كانوا جميعا لُحمَة واحدة لا تَنفَصِم، ولا تَنثَلِم، ولا تَخبُو. زَادُهَا ودَعَامَتُهَا الآكدة، هي المحبة الدائمة، وبذور أشجارها هي الصدق الجارف. كانت أولى أعمال (فوزي شنودة) المسرحية، مع فرقة قصر الثقافة: السبنسة، تأليف: سعد الدين وهبة، إخراج: عباس أحمد. القاعدة والاستثناء، تأليف: برتولد بريخت، إخراج: عباس أحمد. الحصار، تأليف: ألبير كامو، إخراج: عباس أحمد. الزوبعة، تأليف: محمود دياب، إخراج: عباس أحمد. الموقع 23، تأليف: السيد طليب، إخراج: عباس أحمد. أحلى صباح يا بورسعيد، تأليف وإخراج: السيد طليب. النديم في هوجة الزعيم، تأليف: أبو العلا السلاموني، إخراج: عباس أحمد. اليهودي التائه، تأليف: يسري الجندي، إخراج: عباس أحمد. زيارة السيدة العجوز، تأليف: فريدريش دورينمات، إخراج: مراد منير. جحا في المزاد، تأليف: عبد الفتاح البيه، إخراج: السعيد حامد. احتفالية بني شعب، تأليف: أمين بكير، إخراج: السعيد حامد. النقرزان، تأليف: صلاح متولي، إخراج: سمير زاهر. حلم يوسف، تأليف: بهيج إسماعيل، إخراج: رشدي إبراهيم. الطوفان، تأليف: عبد الرحمن عرنوس، إخراج: رشدي إبراهيم. الأبناء، تأليف: د. أحمد سخسوخ، إخراج: مصطفى حشيش. باي باي عرب، تأليف: نبيل بدران، إخراج: رشدي إبراهيم. الدرافيل، تأليف: محمود عبد الله، إخراج: رشدي إبراهيم. كان هذا في مجال (التمثيل). أما في مجال (الإخراج المسرحي)، فكانت أعماله كالآتي بيانه: القرية المفقودة، تأليف: السيد طليب. بحر العجائب، تأليف: عبده مخلص. القفل، تأليف: محمد السبكي وعلي عبد المنعم. ملحمة الجهاد، تأليف: محمد محرم، إعداد: عبده مخلص. عالم علي بابا، تأليف: نبيل بدران. ملك الشحاتين، تأليف: نجيب سرور. حكاية جحا والولد قلة، تأليف: يسري الجندي. بشويش، تأليف: حازم إمام. ترنيمة السبع سنين، تأليف: خالد توفيق. مغامرة رأس المملوك جابر، تأليف: سعد الله ونوس. العاطل والعانس، تأليف: حمدي حافظ. أيوب، تأليف: محمد سعيد. وفي مضمار (مسرح الطفل) فلقد أخرج (فوزي شنودة) مسرحية: (قِدرَة الدنانير)، ومسرحية: (بياع الحواديت)، تأليف: عاطف عبد الرحمن، ومن إخراج: محمد الدسوقي. ولقد أبدع (فوزي شنودة) على خشبات مسرح السامر بالقاهرة، المسرحيات الآتي بيانها: مسرحية شرخ في جدار الخوف، تأليف: محمد صدقي، ومن إخراج: عبد الرحمن الشافعي، ومسرحية علي الزيبق، تأليف: يسري الجندي، ومسرحية حكاية جحا والولد قُلة، تأليف: يسري الجندي، ومن إخراج: عباس أحمد، لصالح فرقة قصر ثقافة الجيزة. كما أن (فوزي شنودة) قد مثل (أيضا) مع فرقة قصر ثقافة الريحاني: مسرحية الملك هو الملك، تأليف: سعد الله ونوس، ومن إخراج: مراد منير. ولقد خاض شنودة غمار المسرح الجامعي، وكذا مسرح الشركات، فلقد أخرج مسرحية: الليلة نضحك، تأليف: ميخائيل رومان، لصالح فرقة المعهد الفني التِّجَارِي ببورسعيد، وحصلت على (المركز الأول) على مستوى الجمهورية. وللفرقة نفسها، أخرج فوزي شنودة مسرحية: الأرض، تأليف: عبد الرحمن الشرقاوي، وحصلت على (المركز الثاني) على مستوى الجمهورية. ولقد أخرج لصالح فرقة جمارك بورسعيد المسرحية، العرض المسرحي: بنت جحا، تأليف: فتحي فضل. شاركت عروضه التي مَثَّل فيها، في مهرجانات مسرحية عربية ودولية عدة، ومنها: مسرحية اليهودي التائه، تأليف: يسري الجندي، ومن إخراج: عباس أـحمد، وهو العرض الذي شارك في مهرجان (بغداد للمسرح العربي)، عام 1988م. ومسرحية: حلم يوسف، تأليف: بهيج إسماعيل، ومن إخراج: رشدي إبراهيم، وهو العرض المسرحي الذي مثل المسرح المصري، في مهرجان (فُولفُوجرَاد) الروسي المسرحي، عام 1991م. وبخصوص التكريم والشهادات التقديرية التي حصل عليها فوزي شنودة، في رحلة عطائه المسرحي الخلابة، فإننا نذكر الآتي بيانه: شهادة تميز خاصة، عن دور: (الطاعون)، في مسرحية: الحصار، تأليف: ألبير كامو، ومن إخراج: عباس أحمد. وذلك في تصفيات فرق مسرح الثقافة الجماهيرية بالإسكندرية، عام 1968م، وشهادة تميز عن المشاركة في إثراء الحركة الفنية والثقافية، في العيد الأول للفن والثقافة، عام 1979م، والمركز الأول في (الإخراج المسرحي)، عن مسرحية: ملك الشحاتين، عام 1982-1983م (وهو العرض المسرحي الذي تحولت به فرقة قصر ثقافة بورسعيد، إلى الفرقة المسرحية القومية ببورسعيد)، والمركز الأول في (التمثيل المسرحي)، عن دور: (الشيخ إمام)، مسرحية: حلم يوسف، والمركز الأول في (التمثيل المسرحي)، عن دوره في مسرحية: جحا في المزاد، والمركز الثالث (إخراج)، عن مسرحية: ترنيمة السبع سنين، تأليف: خالد توفيق، والمركز الأول (الإخراج المسرحي)، عن مسرحية: رأس المملوك جابر، تأليف: سعد الله ونوس. ولقد أرسل لي الفنان الراحل: (فوزي شنودة) شهادة توثيقية وتأريخية للمسرح البورسعيدي بخط يده، وكنت قد طلبتها منه أثناء إعدادي لكتاب عن مسيرة راهب المسرح المصري: (عباس أحمد)؛ فما كان من المبدع الراحل، إلا أن أرسل لي في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر، عام 2020م، شهادته بعنوان: (خطوات المجد) قال فيها ما نصه: «إيمانًا برسالة الثقافة، التي تستهدف تحرير وتنوير الإنسان المصري، وهو يعيد صياغة الحياة في مجتمع جديد، يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة. وبما أن الإنسان المثقف هو (وحده) القادر على سحق القيم المتخلفة، وحشد الطاقات الخلاقة الأصيلة، واكتشاف الرائع منها عند الجماهير؛ عن طريق توسيع رقعة المستفيدين من العمل الثقافي. إنها مقدمة كان لابد منها؛ كي نعود بالذاكرة إلى خمسينيات القرن الماضي. حيث كانت بورسعيد مركزًا كبيرًا لثقافة فنية كُبرى. كانت تحوى (على مستوى المسرح فقط) أكثر من عشر فرق مسرحية. وكان نتيجة لهذه النهضة المسرحية غير المسبوقة؛ أن أيقظت هذه الثقافة الهائلة، ورفعت سقف معايير التذوق الفني لدى الجماهير. وكان لهذا الزخم الفني الكبير، رواد كبار، أسهموا (بفنهم العالي والمتفرد) في إزكاء هذه الروح العَطشى، لهذا الفن الراقي ألا وهو (المسرح). وعلى سبيل المثال (لا الحصر): الفنان الكبير نصر الدين الغريب (رئيسا ومخرجا للفرقة الإقليمية)، والفنان الكبير المخرج: سمير العصفوري (مع فريق جمعية أصدقاء الكتاب المقدس)، وإلى جانبهم، كانت فرقة (الطليعة) المسرحية، التى كانت تحوي نخبة فنية، لها شأن كبير في العملية المسرحية. وهم ثالوث فريد في نوعيته الفنية، وهم: عباس أحمد، ومحمود ياسين، والسيد طليب. وأنوه (في هذا السياق) عن هذه الفرقة، التي قدمت أولى أعمالها (باعتبارها قطاعا خاصا) بدعم مالي ذاتي، وهي مسرحية: فقر وحب وعنظزه (كوميديا)، وأخرى أعتقد أنها كانت باسم: نيرون. إذ تبارى فيها الفنان: محمود ياسين (بصوته الرخيم والمعبر)، مع العملاق: عباس أحمد، الذي قدم مسرحية أخرى، باسم: (مشهد من الجسر) لآرثر ميللر، على المسرح الصيفي (آنذاك). ولم تستمر أعمال هذه الفرقة طويلاً؛ فلقد رحل الفنان (محمود ياسين)، والأستاذ (سيد طليب)؛ ليشقا طريقهما الفني في العاصمة. واستمر ثالثهما: (عباس أحمد) في بورسعيد، ساعيا (بدأب وجهد عظيم) لخلق نهضة مسرحية، ذات منهج علمي وفني كبير. ونعود لنسأل: مَن هُوَ عباس أحمد؟! إنه فنان من مواليد (1938م)، بدأ في تكوين فرقة مسرحية شابة، مع افتتاح قصر ثقافة بورسعيد (عام 1964م). ثم شرع يرسم خريطة العمل المسرحي بالقصر. تمثلت بإنشاء معمل مسرحي، وحركة للتثقيف الذاتي، أطلق عليها (وقتها): أكاديمية الفنون المسرحية. إذ إنها كانت تموج بالندوات المسرحية، والدراسات الفنية لكبار المؤلفين العالميين والعربيين والمصريين، مع دراسة كل أنواع المدارس المسرحية، إلى جانب تدريبات صوتية موسيقية (صولفيج غنائي)، وتدريبات رياضية سويدية؛ ليظل الممثل في حال من المرونة الجسدية والعضلية. ونتيجة لذلك؛ بدأ الإنتاج الفني للأكاديمية، إذ إنه كان يكلف بعض أعضاء الفرقة، بإخراج عمل مسرحي من فصل واحد، ليُقَدَّم ضمن العرض الأسبوعي على مسرح القصر، ضمن برنامج يحوي: فنونا شعبية، وموسيقى عربية. لقد خلق حالا فنية لدى الجماهير، التي اعتادت حضور هذه العروض الأسبوعية، والتى كان يُشرِفُ عليها ويرعاها، الأستاذ: (عباس أحمد)، الذي يتمتع بثقافة فنية مسرحية وأدبية عالية؛ تجذب الملتقي إليه بشغف كبير. أما عن أدائه في العمل المسرحي والإخراج، فحدث ولا حرج: التزام واحترام كبير لبدء البروفة (حتى تشعر أنك أمام مَوسُوعَة عظيمة)، يُفَنِّدُ لك كل مشهد على حدة، ويشرح ما يحويه من مضامين، وما هو المقصود من وراء ذلك. كما أن له بَاعًا كُبرَى في الإخراج المسرحي؛ حتى لقبه الفنانون بــــ (شيخ المسرحيين). لقد شملت أعماله الكثير من المسرح المصري، والعربي، والعالمي، وأذكر منها: الخطوبة، والقضية، وجمهورية فرحات، وعيلة الدوغري، والزوبعة، وسكة السلامة، والمحروسة، والسبنسة، والقاعدة والاستثناء، والحصار (لألبير كامو) التي فازت بالمركز الثاني، في مهرجان محافظة الإسكندرية، عام 1968م. والنديم في هوجة الزعيم، التي فازت بالمركز الأول، في مهرجان المحافظات بالإسماعيلية، عام (74/1975م). ولا يمكن أن نَتَنَاسَى مسرحية: (اليهودي التائه)، التي اختيرت لتمثيل مصر، في (مهرجان بغداد المسرحي)، عام 1988م. والذي استشرف فيه مستقبل كفاح المقاومة الفلسطينية؛ وبخاصة: مشهد رجم السلطة المستعمرة، والتي رأيناها (بعد ذلك) حقيقة (أطفال الحجارة). وهناك ملحوظة مهمة: إن (اليهودي التائه) نص أبدع في كتابته الأستاذ: (يسري الجندي)، وتفوق فيه الأستاذ: (عباس أحمد) على نفسه؛ إذ إنه قدم فيه عصارة أفكاره الفنية، المتمثلة في تاريخ طويل من العمل الفني، والذي كان من نتيجته، استقبال غير مسبوق من الجمهور العراقي، الذي طالب بعرضه (مرة أخرى) في الليلة نفسها، إلى جانب ذلك؛ فإن له في مضمار (الـتأليف المسرحي)، المسرحيات الآتي بيانها: الهُوجَة، والجحيم، وأشعب وغيرها. فإذا ما عَرَّجنَا على تاريخه الوطني، فإنه قد اشترك في صفوف (المقاومة الشعبية)، عامي: (1956م)، و(1967م). ولقد أسهم بدور كبير في مسرح المقاومة، وشحن الوجدان الجماهيري؛ حين قدم المسرحية الوطنية (الموقع 23)، من تأليف الأستاذ: سيد طليب. وعن العمل الإداري؛ فقد تولى رئاسة فرقة (قصر ثقافة بورسعيد) المسرحية، التي تولاها منذ مولدها (عام 1964م)، وحتى التحاقه بالعاصمة؛ ليشق طريقه (أيضًا) مثل سابقيه. لقد طبقت شهرته الآفاق. وكانت فرق الثقافة الجماهيرية، والمنتشرة في ربوع مصر، تتسابق لنول شرف إخراج (عباس أحمد) لها. وعن العمل الإداري (أيضًا) فقد تولى منصب (مدير الفرقة النموذجية) بمسرح السامر بالقاهرة، كما أنه قد عمل خبيرًا مسرحيًّا باليُونِسكُو (مدة ثلاث سنوات) في تنمية القرية المصرية ثقافيا وفنيا. ولن أنسى أنه كان الداعم لي، أثناء إدارتي لفرقة (قصر ثقافة بورسعيد)، بعد رحيله إلى القاهرة. حتى تحولت الفرقة من فرقة قصر إلى فرقة قومية؛ عقب فوزها بالمركز الأول، عن إخراجي لمسرحية: (ملك الشحاتين) لنجيب سرور، في مهرجان الـــ (100 ليلة)، وذلك عام 1984م. لقد كان مرجعًا كبيرًا لي في هذه الفترة. هذا هو الفنان العملاق، الذي شَرُفتُ بالعمل تحت قيادته (في مسرحياته جميعها)، والذي تعلمنا منه أن نبذل العرق والجهد، وألا يمنعنا عن التزام وتقديس المسرح إلا شيء واحد: هو الموت. وهو شعار طرحه علينا، فأحببناه، وبذلنا الكثير حتى لا نحيد عن مبادئه التي طرحها علينا. هذا هو الفنان العملاق، الذي شَرُفَت أجيال كثيرة بالعمل معه، وتحت قيادته. والذي أعطانا من عصارة أفكاره ومبادئه الكثير، ولم يبخل علينا بعلمه وثقافته. إنه شخصية ينبغي أن يُقَال عنها الكثير، أكثر مما كتبت، فما هي إلا نبذة مختصرة، لحياة ساطعة للفن والثقافة. وإذا كان قد غادرنا، واستقر في القاهرة؛ فإنه دائما في ذاكرتنا، وسيظل (دائما) أستاذا ومعلما وفيلسوفا لا يُنسَى. وتَحضُرُني كلمات للشاعر (سيد حجاب) أختم بها: أصدقاء والود موصول فوق ظروفنا/ مهما نبعد -مهما طفنا- مهما شفنا/ في ساعات شدتنا وقلقنا وخوفنا/ أستعيدك يا صديقي...».