المسرح الحي: موجز تاريخ الاستعارة الجسدية(2-2)

المسرح الحي:  موجز تاريخ الاستعارة الجسدية(2-2)

العدد 687 صدر بتاريخ 26أكتوبر2020

وبحلول منتصف الستينيات، بدت حياة المسرح هشة مرة أخرى، وبحلول السبعينيات عادت نظرية المسرح بحزم شديد . لقد ربط أرتو حياته المسرحية بازدواجية قاتلة، ولكن نظرية المسرح طوال السبعينيات والثمانينيات شعرت بأنها مضطرة للتساؤل بشكل أكثر صراحة “ هل مات المسرح فعلا ؟ “ . وفي كتابه الذي صدر عام 1982 بعنوان “ الفكر الدموي : مناسبات للمسرح  Blooded Thought :Occasions for Theater” عاد المخرج والمنظر المسرحي (هربرت بلو ) الي مقارنة أرتو بين المسرح والجسم، مع تأكيد مستمر علي حالة المسرح الهشة، والذي يقف دائما علي حافة الموت : “ عندما ينسد الدم في الوريد، ربما تموت، وعندما ينسد الدم في الجرح ربما تعيش، وكما هو الحال مع الحياة والموت، هناك شيء مسدود في المسرح وليس حاسما “ . في مثل هذه الصياغة، بدا المسرح وكأنه يؤكد مكانته من جديد ككائن حي من خلال أن يصبح جسما ضعيفا، قادر علي العيش والنزيف والموت . وبالتالي عاد (بلو) الى خلط أرتو بين المسرح والضعف البدني مشيرا الي أن حالة حياة المسرح غير المحدودة هي التي جعلته حيويا . فنحن نشاهد المسرح ولا نعرف ما اذا كان سوف يعيش أو يموت، وهذا التوتر نفسه هو ما يسمح له بالبقاء . 
وأفسحت مفاهيم المسرح الحي الحداثية المجال لسحر ما بعد الحداثة علي أنغام أغنية موت المسرح . فإذا بشرت ما بعد الحداثة بعصر الحياة المسرحية، بدا مسرح ما بعد الحداثة مستعدا لقبول طقوسها الأخيرة . وربما بعد “ موت المؤلف “ بعد البنيوي، بجانب موت المعنى وموت المعنى وموت الثقافة، انجذبت النظرية المسرحية نحو مكانة المسرح عير المحدودة بين الحياة والموت، وهي مرحلتها النهائية . فلم يركز (بلو ) مرارا وتكرارا علي موت المسرح المحتمل بحد ذاته ولكنه ركز علي موت المشاركين فيه : “ حقيقة أن من يقوم بالأداء يمكن يموت هناك أمام عينيك ؛ يفعل ذلك في الواقع “ . فمن بين كل فنون الأداء، فان المسرح هو الذي تتعفن موتاه . ومرة أخرى يقول في كتابه “ الفكر الدموي “  انه موت الممثل، الذي هو الذات الممثلة، لأنه هناك يموت أمام عينيك “ . وقد تكررت رؤية (بلو) لمسرح يسكنه فنانون يموتون ( مقابل فنانون أحياء) بواسطة فناني المسرح في أماكن أخرى، مثل وصف ( هاينر موللر) للمسرح باعتباره مشهد الشخص الذي يحتمل أن يحتضر، وفي الكتابات الأحدث للكاتب المسرحي الانجليزي (هوارد باركر ) الذي يقترح أن “ لأن المسرح توقف عن أن يجعل الموت موضوعه، فقد تنازل عن سلطته لروح الإنسان “ . وبينما ركزت هذه المنظورات أساسا علي المسرح باعتباره مسكونا بأجسام فانية، فضلا عن كونه جسدا ميتا، فقد مهدوا الطريق، رغم ذلك، لدراسات أخرى بالطبع، التي تصور الطرق التي لا تعد ولا تحصى والتي اقتربت فيها المكونات الحية للمسرح من نهايتها – مسرحياته وشخصياته وإعداد مشاهده وممثليه وجمهوره . وقد تأمل كتاب ( جورج شتاينر) “ موت التراجيديا The Death of Tragedy “ (1996)، علي سبيل المثال، زوال النوع كمبدأ محدد للشكل المسرحي، وكتاب ( الينور فوكس ) “ موت الشخصية Death of Character” (1996) وضعت نظرية مسرح ما بعد الحداثة كنقطة نهاية لكسوف الشخصية الذي يحدث منذ أكثر من قرن . 
بينما ربما توحي هذه الأمثلة علي السطح بتعريف للمسرح باعتباره وسيطا فنيا يتضمن مشاركين أحياء ( فضلا عن شكل للحياة في ذاته ولذاته )، فانها أدت بسرعة الي محاولات أكثر وعيا في منتصف الثمانينيات والتسعينيات لصياغة حيوية المسرح باعتباره منفصلا عن أشكال الأداء والعرض الأخرى . فقد انتقلت مناقشات المسرح المبكرة عن الجسم الحي والميت باتجاه مناقشات تركزت علي حيوية المسرح، وهو مصطلح استخدم في النقد الحداثي وما بعد الحداثي علي حد سواء، ولاسيما في أعقاب التسجيلات التكنولوجية المبكرة . وليس من قبيل المصادفة، أن الأجسام الفانية ( أي الممثلين سواء أحياء أو موتى) التي كان لها التي كانت شريان الحياة في المسرح خلال القرن العشرين لا يبدو أنها لا تقترب من الموت بقدر اقترابها من الزوال . وقد أشار النقاد الذين لاحظوا هذه النقلة في المسرح الي صدى المسرح الحي في التسعينيات . اذ يبدأ ( فيليب أوسلاندر)، علي سبيل المثال، حجته في كتابه “ الحيوية Liveness” (1999) بانتقاد تأكيد ( بيجي  فيلان) بأن حياة الأداء الوحيدة هي في حضوره، وهي عاطفة حاولت جزئيا أن تعيد المسرح، وبالطبع كل ما يتعلق بالأداء، الي أعضائه الحية، علاوة علي إعادة التأكيد علي مكانته الأنطولوجية كشيء حي . وفي مقابل تفضيل (فيلان) لحياة الأداء الأنطولوجية، يجادل (أوسلاندر) بقوله “ تاريخيا، الحي هو فعلا تأثير التوسيط، وليس العكس “ . وفي مقال ذي صلة نشره بعد ذلك بسنوات قال فيه “لقد تمت صياغة مفهوم الحي في علاقته بالتغير التكنولوجي، فقد أعادت تكنولوجيا التسجيل الحي إلى الوجود، ولكن بشروط سمحت بفاصل واضح بين الصيغة الموجودة حاليا للأداء والصيغة الجديدة . إذ اعتبر هذا المقال أداء  برامج الدردشة الافتراضية علي الانترنت كتحدي للتعريفات الموجودة للأداء الحي . علي اعتبار أن عروض الدردشة كانت حية . وقد استنتج ( أوسلاندر ) أن الدردشة تهدم فكرة أن الأداء الحي هو نشاط بشري بوجه خاص : انه يهدم مركزية الحضور الحي والعضوي للبشر في تجربة الأداء الحي . علي الرغم من أن ( أوسلاندر) يعترف أن الدردشة لا يمكنها أن تموت بنفس طريقة الجسم الحي علي خشبة المسرح، فانه يعلن في النهاية أن هذا التمييز غير ملائم . فإذا استطاعت الدردشة أن تؤدي الحي بأي عدد من التعريفات، فمن يهتم أنها لا يمكن أن تموت ؟ وقد واجه مسرح أواخر القرن العشرين الحي ما اصطلح عليه ( ستيف ديكسون) و( باري سميث) بأنها “ مشكلة الحيوية “، وهو تهديد أساسي لمفهوم المسرح الحي نفسه باعتبار أنه الذي يميز المسرح وجوديا عن أشكال الوسائط الأخرى . وعلي الفور تقريبا، يبدو أن مسألة حياة المسرح قد استبُدلت بالاهتمام بحيويته، وهي صفة لم تعد مرتبطة بمادية اللحم و الدم، بل أصبحت مشروطة وتعتمد علي تقنيات الوسائط للبقاء علي قيد الحياة حتى الألفية الجديدة . وكما يوضح (أوسلاندر) في تحليله للدردشة، يمكننا أن نرى أن الحيوية أولا وأخيرا علاقة زمانية، علاقة آنية . .. هي القدرة علي تقديم العروض التي يمكن مشاهدتها وهي تحدث،أو التبديل الي مفردات تكنولوجية، ويتم أدائه في وقته الفعلي – وهو لب مفهوم الحيوية – وهي قدرة مشتركة بين البشر والدردشات . 
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن التركيز انتقل من المسرح الحي إلى الحيوية في نفس اللحظة تقريبا التي أصبحت فيها الدراما ما بعد درامية وأصبحت الإنسانية ما بعد الإنسانية : مثل كتاب (أوسلاندر) “ الحيوية “ وكتاب ( كاثرين هايلز) “ كيف نصبح بعد حداثيين How we Become Postmodern” (1999)، وكتاب ( هانز ثيز-ليمان ) “ المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater” ( الذي نشر باللغة الانجليزية عام 2006 )، وكلها كتب لاحظت نقلة معرفية في أواخر القرن العشرين والتي اصطلح عليها (ليمان ) “ انقطاع مجتمع الوسائط” . ومن بين المساهمات البارزة للكتب الثلاثة هو اعادة صياغة الجسم المؤدي كجسم واحد يوجد فيما وراء ثنائية الحياة/الموت أو الحي/ غير الحي . 
بينما تحدى (أوسلاندر ) مفهوم المسرح الحي نفسه بمهاجمة تناظر الحيوية، جادلت ( هايلز) أنه بالرغم من أحد ما بعد الإنسانية يحتمل أن ترى كإنسانية مضادة، لا داعي لأن نضع هذه المصطلحات في معارضة ثنائية . وطبقا ل(هايلز)، “ الذات ما بعد الإنسانية هي الاندماج، ومجموعة من المكونات متغايرة الخواص، وكينونة مادية معلوماتية تندرج تحت حدود بنائها وإعادة بنائها المستمرين وبالتالي، يعكس ما بعد الانساني تجربة حياتنا في العالم بدون فروق أنطولوجية، أو كما بقول ( رالف ريمشارت) “ تستغني ما بعد الانسانية عن الفصل القاطع بين الجسم والعالم، أو الذات والآخر الذي شكل نموذجا أقدم للأداء يقوم علي الحضور . ومن جانبه، يميز ( ليمان) النقلة من العملية الدرامية الحداثية “بين الأجسام” الي عملية بعد درامية تحدث علي الجسم أو معه . علاوة علي ذلك يحتج ( ليمان) بأن الجسم بعد الدرامي يتم إبداعه دائما باعتباره صورة لمعاناته . وبدون التخلص من الجسم المؤدي، اذن، يضع جميع المنظرين الثلاثة سياقا لجسم ما بعد الدراما في ضوء تكنولوجيا الوسائط ( الذي أطلق عليه ليمان اسم “ الجسم المخترق تقنيا )، علي الرغم من أن قدرة الجسم علي الموت ظلت المعبر الرئيس لمقاومة الهيمنة التكنولوجية . 
وبمتابعة حجة ( ليمان) بشكل أكبر، نلاحظ أنه يحاول أن يحدد مغزي هشاشة الجسم المادي حتى عندما يبدو أن طبيعته الجسدية مغتصبة من التكنولوجيا . وبالنسبة الى ( ليمان )، مثل سائر منظري حياة الجسم وموته من قبله، تعتمد حيوية المسرح علي موته المحتمل وكأنه ذلك الذي يميزه عن كل الأشكال الوسيطة. ففي تكنولوجيا الاتصال الوسائطي، تفضل فجوة الرياضيات الموضوعات عن بعضها البعض، بحيث يصبح القرب والبعد غير ملائمين . ورغم ذلك، يصوغ المسرح، الذي يتكون من زمان ومكان الفناء المشترك، باعتباره فعلا أدائيا، حتمية المشاركة في الموت، أي مع حيوية الحياة . أنه تهديد الوسائط الدائم والمعتاد بموته، ثم تظهر حيوية المسرح، حيث أن المسرح نفسه، كجسم وسيط، يدمج أشكال الوسائط الأخرى ونظرياتها في الأداء . 
 • الحياة الآخرة للمسرح : 
مثلما أن معنى كلمة “ بعد Post-” خلقت مشكلة لتصف ما أتي بعدها، فقد احتاجت دراسات المسرح لغة جديدة لكي تصف ما بعد حياة المسرح . ومن الاستعارة الجسدية ودراسات الأداء تفرعت إلى استعارة “الحياة الآخرة” الجديدة. وقد اتخذت هاتان الاستعارتان الجديدتان اتجاهين أساسيين : أشباح وأصول . فإذا كان المسرح الحديث بالنسبة لأرتو ميال إلى الحياة، ولحم ودم الجسم، وبالنسبة لأوسلاندر كان المسرح بعد الحداثي مميزا بارتباطه بالحيوية، فان المسرح في بدايات القرن الحادي والعشرين يوجد باعتباره شيئا مسكونا بتجلياته السابقة، والعودة الي إعادة تدوير الأشكال الميتة التي أعادت احيائها بدنية المسرح الحي . وربما كان كتاب ( جوزيف روش) “ مدن الموتي Cities of the Dead” (1996)، هو أول من اقترح هذا النوع من الشبحية عندما فهم الأداء، المسرحي وخلافه، باعتباره عملية الاستبدال التي يتحدث من خلالها الموتى بحرية الآن فقط من خلال أجسام الأحياء . وفي أحدث كتاباته بعنوان “ هو  It “ ( 2005) يصف الممثلين بأنهم “ دمى حية “ للموتي . وترتبط حجة (روش) بالمجموعة الحديثة والمتنامية لدراسات ما بعد الحياة (أو المطاردة) مثل كتاب ( مارفن كارلسون ) “ خشبة المسرح المسكونة The Haunted Stage” (2000)، وكتاب ( أندرو سوفر) “ حياة الأدوات علي خشبة المسرح The Stage Life of the Props” (2003)، وكتاب ( ديانا تايلور) “ الأرشيف والربرتوار : أداء الذاكرة الثقافية في الأمريكتين Archive and Repertoire : Performing Cultural Memory In the Americas” (2003)، وكتاب ( المر رايس) “ ازدواجية موت الأشباح وظاهرة المسرح Ghosts Death’s Double and the Phenomenon of theater “ (2006) . فهل التأكيد علي المسرح باعتباره شكلا لما بعد حياته أو شبحيته تمثل ببساطة نموذجا في صياغات المسرح الطويلة كعلامة، وشيء حي أم أنها تمثل نقطة نطلاق أو انفصال عن السجل التاريخي ؟ 
في مؤتمر الجمعية الأمريكية لبحوث المسرح (ASTR) الذي عقد في بوسطن عام 2008، لخص ( روش ) ثقافة المسرح بأنها تلك التي تقدم للمشاركين فيها التوافر المغري لحياة ثانية، ربما تستدعي دون قصد عالما من اللاعبين عبر الانترنت . حياة ثانية . في إطار الجدول الزمني للتطور النظري للمسرح من الحياة الي الحيوي والي الموت الوشيك، وظهور الحياة الثانية للمسرح، مثل العالم الافتراضي الذي يحمل نفس الاسم، لتحقيق رؤية الكثير من أنواع الخيال العلمي ؛ تلك التي واجهت الوشيك للجسد إذ ستظهر مساحة افتراضية أخرى يمكن أن يهرب إليها الوعي . وهذا الهرب، الذي يتميز بأنه إنعاش وظهور وخلود علاوة علي متانة وقوة المعلومات – هشة وغير مستقرة، مع أنه يكاد يكون من المستحيل محوها – يصبح مركزيا بالنسبة للنقاش الحالي حول المسرح باعتباره كيانا مسكونا، أو شبحا . وأكثر من مجرد إشارة إلى بيئة افتراضية بعينها . تشير الحياة الثانية عند (روش) الى مفاهيم المسرح والأداء الحديثة في حالة ما بعد موته باعتباره يتكرر في حياة آخرة . وفي تنظيرها لشبحية المسرح تقدم ( أليس راينر) قراءة لما تصطلح علي أنه “الجسم المسرحي theater-body” الذي يضع المسرح في سياقه كحدث في الوقت الحالي وحاوية جسدية لجميع اللحظات السابقة : 
 المظهر الاستثنائي للجسم هو مساحة مشفرة، أشبه بالمسرح يطاردها تاريخ تمثيلها الذاتي وتاريخ الذين يسكنونها . ولذلك فان الجسم/المسرح هو مسـاحة خارجية تظهــر مثــل وعــاء مجوف أو سرداب مقبب يظهر ما بداخله . 
تصف ( راينر) بوضوح كل من المسرح ووظيفته كوسيط تاريخي و كجسم مفرغ ينتظر إنعاش الشبح التاريخي . وهذا المفهوم مماثل لحجة ( مارفن كارلسون) في كتابه “ خشبة المسرح المسكونة” بأن تجربة المسرح تراكمية . فالمسرح، مثل البيانات التي تضاف باستمرار إلى البيئات الافتراضية، يستمر في رسم أحداث وخبرات التكرارات الجديدة علي نفسه . 
فمن ناحية، ربما يُرى مفهوم الشبحية للإشارة إلى الطريقة التي يستخدم بها المسرح، وفقا لكلمات (كارلسون)، ذاكرة المواجهات السابقة لكي يفهم ويفسر من خلال ظواهر مختلفة نوعا ما مع أنها تبدو مماثلة . ففي تحليل (كارلسون) المادي، تصبح حسابات المسرح وأشياءه المادية الفعلية، التي تظهر مرة أخرى في الأداء، هي العتاد الذي لا غنى عنه للمطاردة . وبالمثل، ففي كتابه “حياة الأدوات علي خشبة المسرح “ يعتبر ( أندرو سوفر) أن التواريخ المادية للأدوات باعتبارها أشياء حية، بمعنى ما، أو علي الأقل تحتفظ بحياتها : فهو يسأل “ ما الذي نعنيه عندما نقول أن الشيء الجماد يستمر في حياته في الأداء؟”. وكما يعترف بسهولة، بأن استخدام الاستعارة مضلل الي حد ما، حيث أن لأن حياة خشبة المسرح لا تأتي من حيوية الأدوات، بل من وظيفتها داخل الدراما . وطبقا ل (سوفر) في الواقع، فان الأدوات هي التي تغذي حياة الدراما نفسها وهي التي تلقي بظلالها علي الإطار الجسدي . وغرابة تأثير الأدوات، علي سبيل المثال، لا تشل الدراما بل تعيد تنشيطها . 
وتستعرض دراسة ( سوفر) الطرق التي توزع بها العروض المسرحية الأشياء الأساسية في المسرحيات، ويخلص إلى أن “ وظيفة أداة خشبة المسرح تكرر المسرح نفسه : لكي تعيد الصور الميتة إلى الحياة ... ان سعادتنا برؤية البقايا تتجدد، وأن استعارة الموتى هي السبب في ذهابنا إلى المسرح لمشاهدة مسرحية نعرفها جيدا . ومع ذلك، رغم هذه الإشارات، يوضح (سوفر ) أن تأكيده علي حياة الأدوات علي خشبة المسرح وليس حياة خشبة المسرح في الأدوات . فهو يفكك بعناية الاستعارة الخاصة بتطبيقها  للأشياء علي دورها علي خشبة المسرح، ومع ذلك، كما هو الحال بالنسبة للعديد من علماء المسرح في السنوات العشرين الماضية، فان استعارة المسرح كشكل من أشكال الحياة تطارد تحليله . فما توحي به هذه الدراسات الشبحية بشكل جماعي هو احتمال أن يكون المسرح الحي الذي يبدو ميتا هو نائم فحسب . ومثل هذا المسرح يستحيل أن يموت مادام جوهره الشبحي يجد أجساما جديدة ليسكنها . 
فالمسرح كجسم، ليس فقط مسكونا بالأشباح، بل أيضا مسكونا بنسبه الجينية والبيولوجية . وبمتابعة أصول الأداء جزئيا عند ( روش)، التي تستند هي نفسها الي تنظيرات (فوكوه) للأصول التاريخية، فان عبارة “ أصول الأداء” تشير إلى أن الأداء يمتلك سجل وراثي وأصول يمكن أن يتتبعها المؤرخون عن طريق توثيق شجرة العائلة، وهي شجرة تتطور عضويا ( وتتكيف بمرور الوقت  ( وفقا لمصطلح شيشنر ) . فالتأكيد علي صور نشأة المسرح يمكن أن توجد في مجلات مثل “ بحوث المسرح الدولي Theater Research International “ التي نشرت أخيرا عددا خاصا بعنوان “ أصول الأداء Genetics of Performance” (2008) . وفي هذا العدد  تقدم (جوزيت فيرال) الإمكانيات التحليلية لنظرية الأصوب في تطبيقها علي المسرح والأداء، وأكدت الطرق التي يطور بها هذا المنهج تركيزا علي سؤال الإبداع فضلا عن هاجس النص النهائي . وبوصف عملية دراسة أصول الأداء، تلاحظ (فيرال) كيف أن مثل هذا التحليل يمكن أن يحاول إلقاء الضوء علي كيف يولد مشهد معين أو إيماءة : في ظل أي ظروف يتم ابتكاره، وكيف تدخل التغيرات في منهج المتخصصين والتصحيحات في توجهاتهم والتنويعات في تركيزهم . 
ولينا أن نتساءل، هل يمكننا، رغم ذلك رسم تاريخ لأصول الأداء، بنفس الطريقة التي حدد بها العلماء خريطة الجينوم البشري ؟ . ودفاعا عن هذا التناول تكتب ( جين ماري توماسو) عن المشروع “ عموما، الهدف النهائي من الدراسة المسرحية غير المعاصرة للأصول يمكن أن يكون أولا وأخيرا، لتسليط الضوء علي المعالجة المرنة للنص الحواري بإتباع التدفق المستمر للكتابات الوظيفية المختلفة في الحركة والإيماءة . وفي هذا التناظر، يرى العرض المسرحي ليس فقط باعتباره شكلا أصوليا بل أيضا جسما ولادا، تطور عن طريق فترة الحمل . وبربط منهج مبين المسرح بمنهج المؤرخ، تقترح (توماسو) منهجا لتصنيف المسرح يقوم علي أربع مراحل في الإبداع المسرحي غير المعاصر : كتابة النص، والتدريبات، والعروض، وأخيرا الإحياء (إعادة تقديم العروض ) . 
بينما لا يواجه المؤلف منهجية التصنيف نفسها، إلا أنه لا يستنتج أن المؤرخ يجب أن يكون علي يقين من وضع آلة المسرح السبرانتيكية داخل حركة التكوين المستمرة . بمعنى آخر، تم تصوير صعوبة تناول الأصول المسرحية من تاريخ أصول المسرح علي النحو الذي يصور به عالم الأحياء البحرية الذي يقدم تاريخا للبحر : محاولة التفسير الثابت لعمل في حالة تدفق ديناميكي دائم . والأكثر إثارة، رغم ذلك، هو افتراض أن التفسير الأصولي لتاريخ المسرح، وشكل تصنيف الأرشيف المسرحي التاريخي، ممكن، رغم ذلك:، علي أساس أعادة تتبع أو رسم خريطة أصوله، وكل عدد عمليات انتحال الشخصية والبدائل عبر تاريخ أصوله . وترى ( راينر) هذه الأصول علي أنها مفهومة، من خلال شيء يميل علي أصول أنماطه : “ مثل جسم الإنسان، تتحول المساحة الخالية في المسرح الى مساحة شبحية بموجب تاريخها، وتشابه أصولها، والذاتية والإدراك “
في حين أن المعالجة الأصولية للمسرح تصبح أكثر شيوعا، وكذلك أيضا التفسير الأصولي للأداء وبالطبع الذاكرة الثقافية عموما . وفي قراءتها للأداء في الأمريكتين، تنظر ( ديانا تايلور) للتمييز بين الأرشيف والربرتوار بطرق توحي بمزيد من تعميق التحليل الأصولي المطبق علي التجربة الجسدية . وفي نقاشها لعروض الأطفال المختفين (H.I.J.O.S) في الأرجنتين، مثلا، تتأمل (تايلور) كيف أن نقل الذاكرة المؤلمة والالتزام السياسي يعلي من قيمة التقسيم الي فترات من خلال قوة العروض المستمدة من تراثها الأسري والثقافي : مثلما تشارك الأجيال في المواد الأصولية، التي تابعتها هذه المجموعات بفعالية خلال اختبارات الحمض النووي، فهناك استراتيجيات لعروض تربط أشكالهم الناشطة. وتعرف (تايلور) عرض اختبارات الحمض النووي بأنها ممارسة تمثيلية لربط العلمي بالمطلب الأدائي . فالأداء ( الربرتوار) في تنظير ( تايلور) يصبح مناظرا للخلد المبتكر فيه ومن خلال أجسام مؤدية تقف في مواجهة جسم المسرح الفاني ( الأرشيف) . وبالطبع، تصبح مفاهيم الربرتوار الأصولي سجلات دائمة للأداء . 
بربط (تايلور) صراحة مع (روش) و(كارلسون)، يلاحظ ( ديفيد رومان) في كتابه “ السحب الأرشيفي Archival Drag” أو الحياة الآخرة للأداء، أن الأداء يؤسس ممارسة أرشيفية مجسدة، سواء كانت تتضمن تجربة الجسم الخاصة بذاته أو طقوس المرونة الثقافية الآسيوية الأمريكية، أو أسول بديلة للانتماء اللاتيني . وبالتالي يسعي إلى توفيق تعارض (تايلور) مع الأرشيف عن طريق استعادته من خلال أداء الجسم باعتباره ممارسة أرشيفية مجسدة . ومهما كان التأكيد، فان الاستعارات الجسدية الجديدة في المسرح والأداء تقوم علي التحمل، وعلي قدرتها علي وصف مسرحا يعاد تجسيده الي الأبد، ربما جزئيا، بسبب ضعفها التاريخي في الهجوم . بمعنى آخر، التأكيد علي الحياة الآخرة،  وعلي التناسخ، وعلي الشبحية، يقدم أحدث دفاع مضمون ضد هجمات الحداثة المسرحية المضادة . فاستعارة المسرح باعتباره جسما شبحيا تاريخيا تهب نفسها الي التواريخ الحية للأصول، والي وصف ( روش) للممثلين بأنهم “ دمى حية” وبالنسبة لعائلة التشابهات التي أبرزتها ( راينر)، وفي النهاية، بالنسبة لأرشيف الأداء المجسد الذي حدده ( رومان) . ومن المنظور الرياضي، يبدو الأمر وكأن منظري المسرح قد تحايلوا النسل التاريخي للتحيز المسرحي المضاد . وفي الجوهر،  لقد كتبنا الدراما المسرحية الخاصة بنا بأن المسرح نفسه كبطل من لحم ودم، مكتمل بجسم حي وميت، ويلقي في مسرحيته العاطفية الأسطورية التي تؤرخ لحياته وموته وعودته، وهو يعرض أصوله وذكرياته لكي يحافظ علي نفسه في التحليل الأخير . 
أم أن هذا السيناريو هو بدقة رومانسية قوطية ؟ هناك جانب مظلم لجسم المسرح الخالد وحياته الآخرة . ومثل أفلام الرعب التي لا تعيد فيها الرغبة في أحياء الموتى الحبيب المتوفي، بل نسخة منحرفة من الأصل، كذلك أيضا يخشي علماء المسرح من تجسد الموتى الذين لا حياة لهم . ويسمي (وارزين) “نظرية الزومبي في الدراما” والجمود المفعم بالحيوية، ولكن عودة الموتى بلا دماء . ويحذر (راينر) أيضا “ فتوليد حدث ببساطة، بمعنى أن تؤدي نفس المسرحية كل ليلة، هو الموت المؤكد للمسرح، وبقدر ما يكون أي حدث مسرحي معين مسرحية فان الموت يحدث باعتباره شيئا دمويا، مثل مصاص الدماء أو الموتى الأحياء . لذلك تصل دراسات المسرح والأداء الي نوع من التناقض المنسوب الى فرانكشتاين  : الرغبة في إحياء الموتى، إلى جانب خوف آني من القبح الذي قد يطلقه التناسخ . ويبدو أن الحل يأخذنا إلي بداية دورة حياة المسرح، إذ يجب أن يولد المسرح من جديد في أجسام جديدة، وليس مجرد جسد جديد، ولكنه جسد حي وكأنه يحيا لأول مرة . ويقترح (راينر) أن “ استعادة الكتابة في المسرح من خلال صوت المؤدي تمنح حياة ثانية للذاكرة المدفونة في النص “ . 
 • واقع ما بعد موت المسرح :
وبالنظر الي خطاب القرن الماضي، فان تصور المسرح نفسه قد تطور من كونه دلالة علي شيء حي الي شيء حي . فماذا يمكن أن نصنع بهذا التطور، من مسرح حي الي حيوية ما بعد الموت ؟ . وهنا يذكرنا تذكرنا قصة ( فيليب ديك) القصيرة “ آلة الحفظ Preserving Machine” (1969)، اذ يقوم الموسيقي، الذي يشعر بالقلق من ضياع مؤلفاته أو عدم تقديمها، بتحويلها عبر آلة إلى كائنات حية وطيور وحشرات، يطلقها، فقد يجد بعد ذلك أن مهمته فاشلة عندما يحاول استعادة أصوله . وقد تحولت التركيبات الأصلية، علي مدار حياتنا، إلى   أصوات غير مميزة . ومحاولة المحافظة علي الأفكار كأجسام تم إحيائها ليس فقط باعتبارها غير مجدية، ولكن، بشكل أكثر إثارة للمشاعر، كأداة للتلويث والتدمير التاريخي . وبذلك، يبدو أن ( ديك) يعود إلي مشكلة كريج الأساسية : الأفكار التي تعتمد علي النزعة الجسدية لا تدوم عبر الزمن كأجسام وكفن . 
لماذا إذن تحتاج الأفكار الي أن تتحول الي أجسام، سواء أجسام حية أو ميتة، أو عادت إلى الحياة ؟ وهل تستمد الأشكال الفنية المعنى إذا كانت توجد في حالتي جسد الإنسان أو الحيوان ؟ لقد كان هدفنا الأساسي هنا متابعة الطرق التي تتشبع بها استعارة الحي بنظرية المسرح والأداء . وإذا كان هذا الاستعراض للمسرح الحي له أي مغزى، فربما للإيحاء ببساطة أنه لكي يكون المسرح اجتماعي وثقافي وجمالي ضد الوسائط الميكانيكية التكنولوجية في القرن العشرين، فانه يتحول أولا الي جسم عضوي يمكن أن يموت . فتحول الفن المسرحي الي أجسام يمكن أن تموت ربما يكون الطريقة الوحيدة لكي يحافظ علي نفسه من أجل المستقبل . ويمكننا أن نستنتج أيضا أن مثل هذه المنظورات، في مجملها، ليست أكثر من مجرد تشويش بلاغي وعوائق أمام تصور كامل للمسرح باعتباره شيئا آخر غير الاستعارة . فكلما تمسكت دراسات المسرح بمفهوم الجسم كمبدأ موحد محتمل مع أنه خاطئ في نهاية المطاف، قوض المجال قدرته علي دراسة اتجاهات جديدة في المسرح للانتقال الي المستقبل . ومع ارتكازنا علي القرن الحادي والعشرين، نقترح أنه قد حان الوقت للتخلي عن استعارات المسرح الحي والميت والمنبعث من جديد . فالمسرح هو دائما عملية ربط الأنساق، وليس الأشكال الموحدة لتل الأنساق . ولا داعي لأن نرى صفة زوال المسرح والأداء  بأنها حياة مؤقتة أو إعادة بعث لجوهر مسرحي أبدي، ولكن باعتبارها عمليات مؤقتة دينامية وغير ثابتة . وإذا تركنا وراءنا استعارات جسدية المسرح في القرن العشرين، فيمكننا أن نعترف بأن الاستعارة الدائمة في بداية القرن الحادي والعشرين بها الكثير من التشابهات مع تاريخ المسرح والأداء . فالمسرح في النهاية ليس جسدا يحيا ويموت ؛ المسرح شبكة . وهذا التمييز مهم، لأنه بينما تتطور الأجسام ( يمكن القول إنها شبكات خاصة بذاتها) في علاقة لا شعورية مع البيئات، وبعضها البعض، تفصح الشبكات عن بنائها وعلاقاتها المتعمدة وانقساماتها الواضحة . 
ان تناول المسرح كشبك يسمح لنا أن نرى شكلنا الفني باعتباره نظام اتصال جامد وغامض، ولكن مبني علي كنسق اتصال وشبكة يمكن أن تسد الفجوات وتقسم وتتقاطع مع كل الأماكن والأزمان المنفصلة والمتداخلة . وهذه الفكرة لها عدة مزايا، أولا، من غير المرجح أن نقيم وزنا كبيرا لأي مسرحية فردية أو عرض أو أداء فردي من السجل التاريخي باعتباره تمثيلا للوسيط باعتباره عضويا . ثانيا، مناهج التحليل التاريخي الجديدة التي تفتح البدائل للدراسات الرئيسية، مثل التحليل الكمي لسوق المسرح، وطرق تبادله وأنواعه . أخيرا، مشاهدة المسرح كشبكة ربما يخلصنا من الثنائيات الرجعية “ المسرح الحي “ و” المسرح الوسيط “ و”المسرح العضوي “ والمسرح الآلي “، التي تسيطر علي الطريقة التي نتكلم بها عن مجال المسرح . ولتغيير هذه التناقضات التقليدية، ربما حان الوقت أن نتأمل مناهج جديدة في الاستفسار النقدي فضلا عن تغيير محتويات تحليلنا . أو بعبارة أخرى، دعونا نتأمل المسرح باعتباره أكثر من مجموع أجزاءه الجسدية . 
   ................................................................................
 • سارة باي شينج تعمل أستاذا مساعدا وخرجا لدراسات التخرج في المسرح بجامعة بافلو،  ومن أبرز كتبها “ تحديد القصدية في الأداء Mapping |Intentionality in Performance “ 2010 
 • آمي ستراهلو هولزافيل استاذ مساعد المسرح في ويليام كولدج . وأهم كتبها “تأثيرات الواقع : المسرح في فجر العصر الفلسفي Reality Effects: Theater in Dawn of Philosophic Age “ 


ترجمة أحمد عبد الفتاح