فرقة دنشواي .. مسرح الفلاحين

فرقة دنشواي ..  مسرح الفلاحين

العدد 716 صدر بتاريخ 17مايو2021

في بداية الستينيات من القرن العشرين قامت مؤسسة المسرح التابعة لوزارة الثقافة المصرية- بتوجيه من د.ثروت عكاشة - بإنشاء عدد من الفرق المسرحية بالمحافظات المختلفة في محاولة لتفتيت المركزية الثقافية التي جعلت كل الأنشطة تتركز في القاهرة – فقط – ما أوجد فجوة معرفية بين الخطاب الثقافي وبين القاعدة الشعبية في القرى والنجوع .
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى مقال للكاتب الراحل سعد الدين وهبة نشر في جريدة الجمهورية بتاريخ 2 ديسمبر 1963، يؤكد فيه على أنه “ من حق الشعب في المحافظات أن يشارك في النهضة الفنية، وأن ينفعل بها فسكان عواصم المحافظات، وسكان بعض المراكز ليسوا منعزلين تماماً عن الحركة الفنية، فبعضهم قد تساعده ظروفه على لقاء الفن في القاهرة أو الإسكندرية، وبعضهم يتلقى الفن عبر الأثير عن طريق التليفزيون أو الراديو ولكن النظرة الأعم – على حد تعبير “ وهبة “ – لابد وأن تكون للملايين الذين لا يعيشون في العواصم الكبرى ولا في العواصم الصغرى، هؤلاء الذين حرموا من كل شيء فقد آن الأوان لنرد لهم بعض ما فقدوه، إننا نريد من فرق المحافظات أن تكون للقرى والنجوع والكفور “ .
وقد لفت هذا التوجه نحو المسرح الشعبي مجموعة من الفنانين والمخرجين من خريجي معهد الفنون المسرحية أمثال عادل العليمي الذي أنشأ فرقة مسرحية في قرية “ البراجيل “ وأعتمد فيها على إطار فني يقوم على توظيف آليات “ مسرح المناقشة “ وإن جاء ذلك في بداية السبعينيات، إلا أن هناك تجربة رائدة لابد من التوقف عندها، أخذت من الدعوة التي ظهرت في منتصف الستينيات بضرورة وجود “ مسرح مصري “ يعتمد على خامات مسرحية مصرية خالصة على مستوى الرؤية والأداء، وهى تجربة المخرج محمد هناء عبد الفتاح في قرية “ دنشواي “ بمحافظة المنوفية في عام 1968 والتي جاءت كمغامرة – من هذا المخرج الشاب وقتها – والذي كان من الممكن أن يركن إلى العمل الأكاديمي الذي تخرج عام 1966 بتقدير امتياز، وكان الأول على دفعته التي كان من بينها الفنانة سهير المرشدي ود. هاني مطاوع والمخرجة رباب حسين، لكنه رفض العمل الأكاديمي – في البداية – واتجه إلى تنشيط المسرح الإقليمي باقتراح من الأستاذ سعد كامل الأب الروحي للثقافة في الأقاليم والذي عينه أخصائياً للمسرح في الثقافة الجماهيرية .
ومع تولى الفنان حمدي غيث إدارة المسرح وكان الكاتب الراحل ألفريد فرج مستشاراً لها، طلب منه تكوين فرقة مسرحية في “ دنشواى “ كنواة لما يمكن أن يسمى ب “ مسرح القرية “ بالإضافة إلى تكوين مركز ثقافي فيها .
ولأن الظروف لم تكن تتيح فرصاً للتجريب – في هذه القرية الفقيرة – ذات البعد التاريخي والوطني العميق، فليس هناك خشبة مسرح، وليس هناك فرقة للتمثيل، ولا يوجد سوى عدد قليل من “ الطلاب الجامعيين” الذين لا يملكون مهارات فنية تساعدهم على القيام بنهضة ثقافية في القرية .
فماذا يقدم هذا الشاب القاهري ؟ ماذا يقدم لأهل القرية البسطاء، وهو لا يملك في جعبته إلا مهارات الفن، والاعتماد المالي المرصود للمشروع لا يكفى لإنشاء مسرح بسيط أو استقدام ممثلين من القاهرة – حتى ولو من الهواة !
وهنا تساءل هناء عبد الفتاح : ترى ماذا يفعل أهل القرية لو قدم لهم أعمال يونسكو أو بريخت أو إدوارد إلبى أو أربال أو كوكتو، إن الضرورة تحتم عليه أن يتعامل مع الوضع القائم بجفافه المادي وفقره الفني، وتحتم أيضاً أن يبدأ مشروعه من المكان لذا جاءت الرؤية الإخراجية – التي حولها – وليدة العملية الإبداعية للعمل المسرحي، فجاء اختياره لمسرحية “ ملك القطن “ ليوسف إدريس – والتي تدور في واقع ريفي محتشد بالصراعات، وجاء اختياره هذا لخبرته السابقة في تقديم هذا العرض، والذي قدمه على خشبة المسرح القومي ببطولة للفنانين شفيق نور الدين و فردوس محمد و عبد الرحمن أبو زهرة .
عثمان الخبيرى ويعمل ترزيا
وعبد الوارث زهو ويعمل سمساراً لبيع العجول .
وأم محمد إسماعيل وتبيع الفول السوداني
وصابحة عبد السميع
وسميرة عزب – وهما بائعتا لبن
والشافعي الجيار – ويعمل ترزياً
وربيع عمران ويعمل تومرجياً
ومحمد متولي– وهو طالب في القرية – الفنان التليفزيوني الشهير بعد ذلك –
وحمد إسماعيل ويعمل بتجارة الحبوب
وسهير إسماعيل – طالبة من بنات القرية .
هؤلاء البسطاء، كانوا أبطال العرض، وهنا تكمن أسباب نجاح التجربة حيث فطرية الأداء أعطت رحابة وفضاءات أخرى لانطلاق هذه الأرواح المعذبة بالبحث عن لقمة العيش – في رحاب الفن .
ومن ينظر إلى “ عثمان خبيرى “ الفلاح المقهور وهو يجلس القرفصاء، ويعلن احتجاجه على رمز الاستغلال في القرية ومن يتاجرون بقوت الغلابة يرى صوراً حقيقية للفلاح المصري الثائر على الظلم والاستبداد والباحث عن الحرية المصرية على امتداد تاريخها، لما فيه من صدق فني وبلاغة اللحظة إن صح التعبير .
وليس بمستغرب أن يأتي هذا الأداء المتفرد من أهل “ دنشواي “ فأحفاد “ زهران “ أثبتوا أن لغة الفن تكمن في عمق الروح، وأنهم كما ضرب أجدادهم مثالاً صادقاً في الكفاح الوطني والدفاع عن الشرف، فقد ضربوا هم – أيضاً – مثالاً في المثابرة وإثبات الذات .
وليس أدل على ذلك من أن هذا العرض حضره يوسف إدريس ود. ثروت عكاشة – وزير الثقافة في ذلك الوقت – والذي شجعته التجربة والتي عرضت في مسرح مكشوف في أحد أجران القرية إلى افتتاح مسرح “ الماي “ وهى قرية مجاورة لدنشواي، وهو أول “ مسرح جرن “ كمعمار مكشوف في مصر .
وقد قدم المخرج د. هناء عبد الفتاح على خشبته – بعد ذلك – عرض “ ارتجالية عن دنشواي “ وهو عبارة عن تأليف جماعي قام فيه مخرج العرض بدور “ الدراماتورج “ ويتناول حادثة دنشواي 1906، وأبطالها، وتم تقديمه عام 1970 وقد شاركته في إعداد هذه المسرحية الكاتبة المسرحية د. نادية البنهاوي .
وكان لهذه التجربة الثرية أثر واضح – بعد ذلك – في المنهج الذي اتخذه د. هناء عبد الفتاح في المسرح حيث بدأ في تكوين “ ورشة مسرحية “ يكتشف من خلالها المشاركون لغتهم وحوارهم .
ثم قدم مسرحية “ الفيل يا ملك الزمان “ لسعد الله ونوس والذي يناقش ثنائية السلطة كقوة قاهرة والشعب المستنزف من جراء أفعال هذه السلطة، وقد تم دمج نص “ ونوس “ مع رواية “ رحلة قطار “ لتوفيق الحكيم عبر جدلية الرؤية . وقد لاقى العرض ترحيباً نقدياً من قبل النقاد محمود أمين العالم وأحمد عبد المعطى حجازي وفريدة النقاش وفاروق عبد القادر وأحمد عبد الحميد .
وفى فترة عمله بمحافظة البحر الأحمر كمدير لقصر ثقافة الغردقة ظل هاجس التجريب المسرحي يراود د. هناء عبد الفتاح حيث أكد لى في لقاء خاص معه أنه اكتشف أن هناك الآلاف من عمال التراحيل يعملون في المناجم يموتون بالسل – تماماً – فبدأ يقدم حياتهم كدراما في إطار مسرح شعبي كان أبطاله من هؤلاء العمال البسطاء .
وعن تجربته يقول هناء عبد الفتاح في مقال له تحت عنوان “ وداعاً أيها المسرح “ نشر في مجلة فصول في ربيع 1995 : كانت أهم تجربة لي على الإطلاق تجربة “ فرقة فلاحى قرية دنشواي “ وأهميتها تأتى من أنها أثرت إمكانية صياغة العرض المسرحي المفتوح “ الجرن – افتراش الأرض – الغيط – فناء سجن “ داخل قرى مصر ومدنها واكتشفت آنذاك الإمكانات الهائلة لمسرح يقترب من الظاهرة المسرحية الحديثة .


عيد عبد الحليم