الصراع الدرامي.. في مسرحية «وداعا قرطبة» لمحمد عبد الحافظ ناصف

الصراع الدرامي.. في مسرحية «وداعا قرطبة» لمحمد عبد الحافظ ناصف

العدد 801 صدر بتاريخ 2يناير2023

 في مسرحية «وداعا قرطبة» التي صدرت عام 2004 عن هيئة الكتاب وجاءت في خمسة فصول يناقش الكاتب المسرحي محمد عبد الحافظ ناصف من خلالها وقائع تاريخية محددة، أو يمكن القول بأنه استحضر تاريخ العرب في الأندلس وخصوصا الدولة الأموية في الأندلس في حقبة الخليفة المستنصر؛ يعيد إلينا ناصف تلك الفترة التي سبقت انقسام الأندلس وتحولها إلى ملوك الطوائف ومن ثم مهدت لسقوطها بسبب النزاع حول السلطة والفساد ولعبة المصالح واستغلال النفوذ. يتولد التطور الدرامي للأحداث من خلال معطيات السياسة ومنعطفاتها من خلال حوار مسرحي مغموس باللغة الشعرية التي تتحول في بعض الأحيان إلى قصائد درامية تدفع بالحدث الدرامي نحو التأزم، ويرسم لنا الشخصيات التاريخية ويجسدها تماما كما يستحضر الزمن التاريخي بشكل متفرد؛ لا ينحاز ناصف للشخصيات بل يقف موقف المحايد الذي لا يعبر رأيه بالضرورة عن انحياز أو دعم لأيهما حتى ولو كانت إحداهما تنتحب بشدة أو تنزف دما، كما كان يحدث في العصر الإليزابيثي، ذلك الانحياز أو تبني الموقف الخاص بإحدى الشخصيات هو الإيهام الذي يسقط فيه المتلقي حتى ينتهي من قراءة المسرحية وقد استمد متعة ومعرفة ثقافية كبيرة. 
تبدأ المسرحية بمفتتح الدولة الأموية وهي في أوج قوتها، ويرسم لنا البلاط وما فيه من انقسام الخليفة وزوجته صبح وابن ابي عامر، الذي يتضح من الأحداث أن ثمة علاقة عاطفية بينه وبين صبح زوجة الخليفة، من جانب، والصقالبة ومؤيدوهم من جانب آخر.
صبح: لو يعرف أن إشعال الجسد بدون الماء جنون
      وأن ملاعبة الجزء المشلول فنون، قطرة قد تطفيء نارا.
الخليفة: تتطاير نظرات النشوة من عينيك كأنك هائمة
        عائمة في بحر اللذة. 
لكن ابن أبي عامر يحاول الخروج من ارتياب الخليفة الذي زرعه في قلبه فائق قائد الصقالبة للقضاء عليه والانفراد بالخليفة والتأثير في قراراته حتى يستطيع أن ينفذ خططه بشكل هاديء.
  في مسرحية «وداعا قرطبة» استمد ناصف مادته من التاريخ ولكنه وضع عليه بصمته الدرامية التي لا يمكن أن تتشابه مع كاتب مسرحي آخر. يرصد أيضا التمدد الفاطمي في المغرب وما يمكن أن يفعله لخلخلة الحكم الأموي في الأندلس كما يرصد تربص الفرنج في الشمال، والأكثر من ذلك الحركات الداخلية التي تهدد الخليفة وحكمه والتي يتاطر عليها الصراع الدرامي المرتقب.
صبح: والفكر أكثر صعوبة من أي شيء.
       لو دخل قلب الرجل ما خرج أبدا.
       وسيسير في أوردته وشرايينه. 
يمتلك ناصف رؤية درامية ورسالة فكرية يرغب في إيصالها من خلال اعتماد التاريخ باعتباره أحد الروافد التوثيقية التي تسهم في بناء المسرح وتحمله رؤية اجتماعية وسياسية في عصر مليء بالتناقضات من خلال تقديمه للنماذج التاريخية في المجتمعات العربية التي تحتشد بالمتناقضات السياسية والتي تقوده نحو أجندات أجنبية لا يمكن التنبؤ بنتائجها. 
الخليفة: إنه لساحر عليم أو خادم لبيب.
صبح: آه.. ما أقسى ساعات العطش بعد جفاف منابع دفء الكلمة.
 اتكيء شكسبير على التاريخ الروماني حينما كتب مسرحية «يوليوس قيصر» وأنطونيو وكليوباترا» و»كورايولانوس» و»ترويلاس وكريسيدا»، ثم اتكيء على تاريخ انجلترا بكتابته مسرحية «حياة وموت الملك جون» و»سيرة ريتشارد الثاني والثالث» و»سيرة هنري الرابع» بجزئيها، و»هنري الخامس» و»سيرة هنري السادس» ثلاثة أجزاء، و»هنري الثامن». لم يبحث ناصف عن فصل مناسب من فصول التاريخ ليكتب عنه مسرحا بل اختاره لكي يرمز ويسقط على وضع الأمة العربية الذي بات منقسما؛ انتقى حقبة الدولة الأموية في الأندلس التي تلائم المتلقي العربي الذي يوجه له ناصف خطابه ذا الطرح السياسي، فاستقر الرأي على وقائع تاريخية خصبة وهي؛ الصراع حول الخلافة الأموية في الأندلس، البلاط وما يضمه من نماذج مختلفة يسعى كل نموذج منها إلى تحقيق أهدافه في الحكم ومن ثم يحتد الصراع الدرامي ولذا اتضح في النص أنهم كانوا يعيشون حالة ازدواجية، وبدا فيها طموحات وانكسارات.
صبح : سأعود ومعي مفاتيح هذا البلد.
هشام: أرجو ألا تصدأ أقفال الأبواب.
جاء نص «وداعا قرطبة» ليقوم بدور الوسيط الثقافي والتاريخي الذي يفتح كتاب التاريخ ويقدم للمتلقي فصلا مهما ومفصليا من فصول التواجد الإسلامي في إسبانيا؛ وكيف كان حال المسلمين أثناء فترات توهجه كما كان حالهم أثناء فترات التدهور والاضمحلال، كما يقوم بدور مهم وهو تفكيك التاريخ ليلقي تساؤلات ويكون في حالة وعي ذي دلالة تخالف إلى حد كبير حالة اللاوعي التي تسود الشخصيات التي تكون العامل الأساسي في نمو الحدث المسرحي بشكل تلقائي، كما يكون له دور في السلوك والضعف الإنساني والبحث السياسي في المجتمع. استقت المسرحية التاريخية «وداعا قرطبة» خاصية التركيز على بعض الشخصيات المحورية وتكثيف الصراع بينها لتخلق نسقًا ينظم الأحداث في تتابع منطقي يشرح الدوافع وينير السياق التاريخي، كما يركز على شريحة من شرائح التاريخ الأموي الذي يتسم بدرامية أحداثه.
الصراع هو العمود الفقري في البناء الدرامي، وبدونه لا قيمة للحدث أو لا وجود للحدث، وقد كانت بداية المسرح الإغريقي بداية دينية، وأصبح تاريخ هذا المسرح هو تاريخ الابتعاد عن الصراع الديني الصرف إلى صراع أكثر علمانية إلى أن يصل الشكل الدرامي إلى درجة الاكتمال. إن العنصر الأساسي في النص المسرحي هو الصراع وبدونه لن يكون هناك نمو للحدث أو ذروة أو نهاية. يبدو الصراع في بداية مسرحية «وداعا قرطبة» بين الشخصيات ومحاولة كل منها لفرض سيطرتها بأي شكل والخروج من المآزق التي يضعها لها الأخرون فيقول ابن أبي عامر حينما ضيق عليه فائق عليه ليزيحه عن البلاط:
ابن أبي عامر: يبدو أني في ورطة أكبر وعليّ أن أثبت طهر اليد.
              عليّ أن أكسب ثقة الخلفاء.
              قبل أن أثبت للخصم أني نظيف.
              وإلا سوف تأكلني كلاب الأندلس.
لكن على الجانب الآخر يخطط الفريق الآخر الذي يحاول وضع العم مغيرة على كرسي الخلافة وعدم الانصياع لتأييد تنصيب هشام ابن صبح والخليفة المستنصر خليفة لأبيه الذي رحل. كما يتضح لعب جعفر المصحفي على الجانبين وينحاز إلى الجانب الذي يكسب الجولة. 
جؤذر: ولتكتم أيضا كل الأصوات داخل حناجرها.
وحينما تسود لغة المؤامرة بين المتأمرين يتضح أطراف الصراع الدرامي ومن ثم الايديولوجية التي يخطط لها فائق قائد الصقالبة وتتغلب حينئذ دائرة المؤامرة وتفرض سطوتها. 
فائق: أرى لغة واحدة صارت في القصر.
      اجتمع شتات القول بعد الفرقة.
جاء الغلاف بوصفه بوابة المسرحية البصرية في شكل مبنى ضخم يجسد براعة التصميم على الطراز الاندلسي وهو يطل على البحر حيث تتماهي ألوانه مع لون الماء والقارب الذي يستقله رجل لتعبر عن حالة السكون والطمأنينة وفي نفس الوقت الترقب والحذر، تتسق درجات اللون مع الحقبة الزمنية التي يمثلها البورترية. جاء العنوان «وداعا قرطبة» بصفته العتبة اللغوية للنص في لون اسود ليؤكد على أهميته ورسوخ مضمونه وأنه يحمل في ذاته أسرارًا ويخفي أكثر مما يظهر، والمكتوب بالخط الأندلسي الذي نشأ وتطور في الأندلس، كما يؤكد على وجود علاقة دلالية بينه وبين الغلاف، بحيث يمكنهما أن يأخذا بيد المتلقي للولوج إلى النص لكشف خباياه، ومن الناحية التركيبية تعرب كلمة «وداعا» مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أودعك، بينما تعرب كلمة « قرطبة» بدل مرفوع بالضمة. يحمل الخط عدة تأويلات ورموز محددة ويتسق تماما مع المتن الذي جاء به النص وهي أن الحكاية التاريخية الخاصة بحقبة الخلافة الأموية في الأندلس يمكنها أن تقودنا إلى فك شفرة العنوان المكتوب بخط أندلسي.
صور ناصف شخصيات مسرحية «وداعا قرطبة» بإتقان وقسّمها حسب تفاعلها ووجودها الزمني وحجمها ومدى تأثيرها في بقية الشخصيات، ومدى تفهمها للظروف السياسية واتساقها مع الموضوع أو ركوبها موجات الدفع الدرامي الذي يأتي من منظور تاريخي بحت، كما يرصد من خلالها فهم البواعث النفسية ومدى تأثيرها في التطور الدرامي، فضلا عن التوجهات والأيديولجيات التي تؤطر الصراع الدرامي بوصفه العامل الأساسي لنمو الحدث حتى ولو كان الزمن المسرحي طويلًا يفصل بين كل حدث وآخر، لم يكن ذلك الفاصل الزمني عائقًا لتطور الحدث بل ساهم إلى حد كبير في التنسيق مع الزمن المهيمن في المسرحية لدعم البناء الدرامي بشكل متميز، بالإضافة إلى المكان المسرحي بأبعاده الجمالية والدلالية الذي يفصل هو الآخر بين كل حدث وآخر، وأيضا علاقة المكان الذي تدور فيه الأحداث من خلال الشخصيات.
استخدم ناصف لغته الخاصة والتي تقوم على استخدام الألفاظ المناسبة للحوار المسرحي والتي تستطيع الشخصية أن تعبر من خلالها عن وجهة نظرها أو تتفاعل من خلالها مع بقية الشخصيات وعلاقاتها المتشابكة، كما أن تلك اللغة بشقيها الحواري الشعري الذي يتسم بالاتزان المنطقي في إطار مادي تتجاوز فيه الأزمنة وتتزامن فيه الأمكنة وتنقسم من خلاله الشخصيات، والشق السردي المهموم بالرصد التاريخي والمؤسس للخطاب المسرحي الذي يصل إلى نقطة الوعي واللاوعي أو نقطة الارتكاز الدرامي والفصل بينهما من أجل  ترسيخ الوعي في ظل اللاوعي والخاص بوصف المشهد وتحديد الإضاءة، مقارنة بالشخصيات التاريخية التي تقدم للمتلقي صفحات قد تلتبس عليه برغم حالة اللاوعي الغارقة فيها. تلك اللغة تحمل في ذاتها الدلالات والإسقاطات التي تنحت في واقع يحتاج إلى مثل تلك الدعائم ليتغير نحو الأفضل.
استخدم ناصف المكان المسرحي ببراعة ووجهما بطريقة تضمن نجاح البناء الدرامي كما برع في تطويعه لخدمة الموضوع وتهيئة الجو العام لصراع متقد بين الشخصيات، يقول ميشيل فوكو: إن حقيقة الكتابة أنها قلب منهجي لعلاقة القوة بين الكاتب والمتلقي إلى مجرد كلمات مكتوبة وبهذا الشكل تصبح الخطابات الأدبية منتجه للايديولوجيا، أو من خلال الربط الدرامي للحدث السابق والتالي، فكان العنصر الحاضر الغائب في بعض المشاهد، وكان ذلك من عوامل متانة البناء الدرامي وعدم ترهله، كما كان له عظيم الأثر في الانتقال السلس بين الأحداث. في نفس الوقت لم يحدد زمن الحدث المسرحي بافتراض أنه استحضر الحقبة الزمنية للدولة الأموية في الأندلس وجسدها بزمنها.
 لا تقل لغة الحوار المسرحية قوة عن لغة مارلو التي تميز مسرحه الذي يعرف بحبكة قوية، إذ نجد أن الشخصيات تتحرك وفق حبكة قوية تتفرع منها خيوط درامية تصب في النهاية في الخط الرئيسي الذي حدده ناصف واستخدم لغة ذات كلمات بليغة ورصينة تزيد الحبكة خصوبة، فنجد أن خطا دراميا قد حددته إحدى الشخصيات لتؤول إليه الأمور في نهاية الأمر وهو :  
المنـــــــادى :    يا أهل قرطبة.. يا أهل قرطبة
           اسمعوا وعوا مرسوم الخليفــــــة هشام المؤيد 
             يُفوض المنصور « ابن أبى عامر « مدبراً منى لشئون الدولة
            وذلك لتفرغى لعبادة ربى    حتى يرضى عنى وعنكم ويبارك
            ويرعى دولتنا الميمونة من أعدائها.
تعتبر مسرحية «وداعا قرطبة من المسرحيات التي تحرك العقل وتشعل أفكاره وتحرض على اتخاذ موقف ما من الحياة، كما تحث على ضرورة قراءة التاريخ وخصوصًا صفحات الانكسار لنتعلم منها، تبحث المسرحية عن المثقف الواعي الذي يستوعب دروس التاريخ وتؤكد على ضرورة وعي المجتمع العربي، وخصوصًا في المنعطفات السياسية التي يمر بها العالم العربي، وحتى لا تنهار دولة ما بسبب ضعف ما، وقد لخص ابن حزم ما آلت إليه الأمور في الأندلس.  
 قال ابن حزم: سقطت الاندلس؛ لتشتت أهواء أمراءها، وأصبح بعضهم « ولا هم له سوى كأس يشربها» وقبه تسمعه، ولهو يقطع به أيامه» واسترسلوا إلى اللذات، وركنوا إلى الراحات، وأغفلوا الأجناد، واحتجبوا عن الناس، ولم يعودوا ينظرون في الملك، ومنهم من قتل كبار قواده، ووسد الأمر إلى الضعاف، فكثرت المظالم والمغارم، وكثر الثوار مرات بشرق الأندلس وغربها من القضاة وغيرهم، وهكذا تبدد شمل الجماعة.


ترجمة عبد السلام إبراهيم