مسرحية «المهان» والجائزة الأولى

مسرحية «المهان» والجائزة الأولى

العدد 673 صدر بتاريخ 20يوليو2020

حسنا فعل الفنان “عادل حسان” مدير الإدارة العامة للمسرح بقصور الثقافة بإقامته مسابقة للنص المسرحى لإكتشاف نصوص مسرحية جيدة تنتجها الإدارة فى موسمها التالى, وقد فاز بالجائزة الأولى فى هذه المسابقة الكاتب والباحث “سليم كتشينر”.
والكاتب المسرحى “سليم كتشينر” والفائز بالجائزة الأولى عن نص “المهان” يشارك فى المشهد المسرحى المصرى بقوة طوال مايزيد على الربع قرن, وعرفت نصوصه طريقها الى مسارح البيت الفنى للمسرح, والعديد من فرق الثقافة الجماهيرية, ومما قد لا يعرفه الكثيرون عن الكاتب أن علاقته بمسرح الثقافة الجماهيرية بدأت كمخرج قبل أن يكون مؤلفا, قام بإخراج ثلاث عروض ثم تفرغ للكتابة المسرحية للكبار والأطفال بالإضافة الى كتابته خمس مسلسلات تليفزيونية للأطفال, وثلاث سهرات تليفزيونية للكبار بالإضافة الى إصداره ثلاث كتب هى “سيرة مار جرجس” دراسة وتحقيق , “مسرحيون فى الحركة الوطنية” جمع وتحقيق, “حكايات مصرية من القنال” جمع وتحقيق
والكتابة لدى “سليم كتشينر” أشبه بالرهبنة تحتاج الى الإخلاص والتفرغ وقد دفعه إيمانه هذا أن يستقيل من عمله بوزارة الشباب والرياضة ليتفرغ تماما للكتابة التى لا يعمل بغيرها. وقد جاب المؤلف فى أعماله العديد من الأشكال والمدارس المسرحية المختلفة فى نصوصه, وإن ظل شكل الفرجة هو الإطار المحبب لديه منعكسا فى العديد من نصوصه, ومن أعماله السابقة (مربط الفرس, إمبراطور الكدابين, حق عرب, الأرجوز, وما زالت الأرض تدور, العربة, آكل الحشرات, الضفة الأخرى, لو كان قلبى معى, الأرض بتتكلم أنين, البيضة والحجر, عنتر زمانه ضاع, السحابة السوداء, مغامرات قرقود, العجوز والضابط والمليونير, الناس الزرق) وغيرها. والمتابع لأعمال الكاتب المسرحية يجده طوال الوقت منشغلا ومهموما بالقضايا العامة لوطنه المصرى ولقطره العربى, وراصدا فى تلك الأعمال أسباب إحباطات الإنسان وانهزاماته الشحصية, وحتى انبطاحاته والإملاءات المصيرية لمستقبله الشخصى والعام من النظام الدولى المهيمن على مصائر الشعوب  وهذا ما يعالجه فى نصه الأخير “المهان” الفائز بمسابقة الإدارة العامة للمسرح فى دورتها الأولى لهذا العام.
فى نص “المهان” يشكل المؤلف رؤيته البصرية لفراغه المسرحى من ظليلة (خص) تقام على طريق سريع لعمل الشاى وغيره من المشروبات يرتكن إليها المارين بالطريق السريع للراحة لبعض الوقت وتناول المشروبات, مما يجعل المكان قابلا لوجود أى شخص وبأية مواصفات يريدها المؤلف لصياغة أحداثه الدرامية, وتنعكس خبرة المؤلف ومهارته أيضا فى تكوين بنيته البصرية تلك لتشمل فى خلفية الظليلة فى الأفق قرية ما من القرى المصرية لتعكس بظلالها على البنية الدرامية المتمحورة حول بطليه “عبدالعاطى / حبيبة” اللذان تشابكت حكايتهما فى قرية “ميت رهينة”, وفى إطار البنية البصرية أيضا يجعل أمام الظليلة جزء متسع من الطريق الأسفلتى التى تقوم على جانبه,  الأسفلتى, ليكون  مساحة للتمثيل, دون يغفل (المؤلف) الإشارة الى عدم مرور سيارات على ذلك الطريق المستخدم كفضاء للتمثيل, إذ يشير الى ضبابية من أثر “شبورة” ليلية لا يغامر معها السائقين بالسير فيها تفاديا للحوادث, وعلى المستوى الدرامى تخيم تلك الضبابية على الأحداث ومصائر الشخصيات.
بتلك الظليلة يستريح سائق سيارة ـ حتى ينقشع الضباب ـ مع راكب “عبدالعاطى” الذى يغطى وجهه وجزء من رقبته, وبسبب ذلك الضباب أيضا يركن الى الظليلة ثلاثة أشقاء “طايع, عايش, ومحارب” بينهم شراكة فى شركة كبرى, ويرغب “طايع” الخروج منها وبيع نصيه لغريب سبق وأن قتل أبيهم, بينما يحاول  “محارب” إثناء “طايع” عن الخروج من الشراكة وبيع نصيبه لعدوهم, فى الوقت الذى يحاول فيه “عايش” التوفيق بين شقيقيه المتهاون “طايع” والمتشدد “محارب” وعلينا الإلتفات الى دلاالة الأسماء التى اختارها المؤلف للأشقاء الثلاثة.
تقوم على خدمة زبائن الظليلة فى تلك الليلة “حبيبة” اربعينية لم تخل بعد من جمال متشح بلمسة حزن دفين, ترتاب فى الملثم “عبدالعاطى” وتطلب منه كشف وجهه, وتلتقى رغبتها تلك مع رغبة سائق السيارة الذى يتهمه بأنه هارب من شيى ما بينما يرفض الرجل بشدة الكشف عن وجهه ... وفى الظليلة أيضا توجد امرأة تضم الى صدرها رضيعا ملفوفا بالأغطية تسأل الحاضرين إعطائها شيىا للرضيع الذى (تشحت) عليه ليس لعوز أو فقر بل هى تنفذ نصيحة البعض كى يعيش الطفل بعد أن مات لها خمس أطفال من قبل, وفى الظليلة أيضا يتواجد “رمزى” المثقف والشاعر الذى يمسك بزجاجة خمر طوال الوقت وتمتزج لديه العبقرية بالجنون الذى لا يفصل بينهما سوى شعرة بسيطة, ليجعل منه المؤلف بمثابة ضمير الأمة كناية عن معظم المثقفين, وكمعظمهم أيضا فهو محبط يائس بعد أن تحطمت كل أحلامه للفقراء والكادحين على صخرة الواقع وملاحقة الأجهزة الأمنية له وسجنه لبعض الوقت بتهمة الحلم للآخرين فقرر العودة الى قريته.
مع الأحداث تتكشف قصة حب موؤودة بين “عبدالعاطى, وحبيبة” سافر “عبدالعاطى” من أجلها الى العراق ليعمل ويجمع أموالا يقيم به متطلبات الزواج بعد أن رفضه والدها من قبل, وفى العراق تعرض وجهه ورقبته للإحتراق إبان الغزو الأمريكى لها, ويتشوه وجهه وحنجرته ويتحول صوته الى مايشبه صوت معدنى. ويلجأ المؤلف الى تقنية (الفلاش باك) لإستدعاء بداية تلك العلاقة بين عبدالعاطى / حبيبة وما انتهت إليه قبل سفر “عبدالعاطى” الى العراق, وينفذ تلك التقنية بمهارة شديدة إذ يجعل من فواصل الشجار بين الأشقاء الثلاثة (طايع, عايش, ومحارب) مشاهد يتم استدعائها من الماضى لتلك العلاقة, حيث شاهدته “حبيبة” على رابية وسط الحقول وهو يعزف على الناى مقطوعة شجية فهمت لغتها ووصلت الى القلب وأودعت فيه حب العازف, الذى تقدم لخطبتها فوضع والدها أمامه عقبات مادية مستعصية مما دفعه الى السفر, ومع تقدم الأحداث وكشف “عبدالعاطى” عن وجهه ترفض “حبيبة” الإرتباط به حيث لم يعد الرجل هو الشاب الذى ارتبطت به, وظلت تبحث عنه فى كافة محافظات مصر بعدما سمعت عن عودته مقتدية مقتضية بحكاية “إيزيس” فى رحلة بحثها عن “أوزيريس” إلا أن “حبيبة” لم تعثر عليه, وتكون المفارقة حين يأتيها تلفظه وترفض ربط مصيرها به, ورفضها هنا ليس لرفض الحب الذى ظلت تنتظره سنوات ولا لتشوه وجهه بل هى ترفض ربط مصيرها بالنموذج المهان من الطاغوت الأمريكى حتى وإن لم يكن “عبدالعاطى” له ذنب فى ذلك الجرم الأمريكى, ولكى يعمق المؤلف تيمته ويوؤكد عليها جعل لها مستوى آخر يطرح من خلاله رؤيته لأسباب تلك الإهانة, ممثلا فى الأشقاء الثلاثة (طايع, عاش, ومحارب) وعدم قدرتهم على التوافق فى إدارة شركتهم التى تركها لهم الأب, ونزوع أحدهم الى التسليم للعدو قاتل الأب وبيع نصيبه له متغاضيا بل ومبتلعا لمهانة عدم الأخذ بالثأر مقابل بضعة أموال زائدة يعرضها عليه عدو الأمس, وفى المقابل نجد شقيقه الثانى “محارب” يرفع السلاح فى وجه شقيقه ليحول بينه وبين تلك الصفقة المخزية, بينما الشقيق الثالث “عايش” يحاول التوفيق بين الشقيقين دون أن يتضح موقفه من صفقة العار تلك, وموقف الأشقاء الثلاثة من الشراكة التى بينهم يعكس موقف الدول العربية من العدو الصهيونى المنقسم بين مطبع, ومتشدد رافع للشعارات (محارب) غير الفاعل لما يتبناه من شعارات, وبين ثالث “عايش” وهو مجرد عايش بالفعل دون أن يتبنى فعلا محددا تجاه تلك الأزمة غير محاولة التوفيق والتلفيق لذلك الواقع المتردى بين الأشقاء.
ولأن كل تلك الشخصيات وفعلها لم تستطع التعبير عما يرغب المؤلف بطرحه فى نصه فقد ابتدع شخصية “رمزى” المثقف المحبط المهزوم معاقر الخمر لتكون تلك الشخصية هى صوت المؤلف والحامل لأفكاره فى النص الذى يصدره  ببعض أبيات للشاعر الكبير “محمود درويش” ينتقيها المؤلف بعناية ( سجل .. أنا عربى.. أنا اسم بلا لقب.. صبور فى بلاد كل مافيها .. يعيش بفورة الغضب.. سجل.. برأس الصفحة الأولى.. أنا لا أكره الناس.. ولا أسطو على أحد.. ولكنى.. إذا ما جعت.. آكل لحم مغتصبى.. حذار.. حذار.. من جوعى.. ومن غضبى!!)
إن نص “المهان” ينتمى الى تلك النصوص التى يطلق عليها “نصوص أفكار” وهى تلك النصوص التى تكون فيها الفكرة أو مجموعة الأفكار التى تؤرق الكاتب ويرغب فى طرحها أهم لديه من أية مقتضيات درامية, والمؤلف “سليم كتشينر” فى نصه هذا لا يلتفت لأية قواعد درامية ـ رغم معرفته بها وخبرته فيها على مدى نصوصه السابقة ـ لأن أرقه بفكرته ورغبته فى التعبير عنها ككاتب مهموم بقضايا وطنه وعروبيته التى يرتئيها مستضعفة ومهانة ومنبطحة أمام القوى العظمى التى تعيد صياغة العالم بما يتساوق مع مصالحها السياسية والإفتصادية فى ظل واقع عربى متناحر يقدم حكامه المصلحة الشخصية على المصلحة العامة (طايع لا يرى سوى مصلحته الشخصية ويسعى لبيع نصيبه فى الشركة لغريب وعدو وقاتل لأبيه, ولا يرى فى معارضة شقيقه محارب لذلك سوى مجرد شعارات جوفاء وعفى عليها الزمن, ودفنت تحت التراب مع دفن صلاح الدين الأيوبى وجمال عبدالناصر) كما يرتئى المؤلف أيضا أن العام بالضرورة يؤثر على الخاص.. فقد سافر “عبدالعاطى” الى العراق لتلبية متطلبات زواجه من حلمه “حبيبة” الى أنه إبان الغزو الأمريكى للعراق احترق وجهه ورقبته, كما تشوهت سوريا واليمن وليبيا مما جعل “حبيبة” ترفض الإرتباط به بعد التغير الذى حدث له ولم تعد ترى فيه سوى غريب لا تعرفه, دون أن يؤثر فيها صراخه بأن “حلمهما قد أحرقوه تجار البارود” وهنا تتعانق التيمتان ( تيمة عبدالعاطى / حبيبة, وتيمة الأشقاء الثلاثة طايع/محارب/ عايش وأزمة الشراكة بينهم) لتصبان فى مجرى واحد يؤكد الكاتب من خلاله على إهانة المواطن العربى وإذلاله على يد “ تجار الباروود الذين يحكمون العالم فهم ـ الى جانب الخنوع العربى والتشرذم ـ سبب كل معاناتنا, لينبثق صوت المؤلف ممتطيا “رمزى” ليحذر منهم على لسانه  “فحذار من تجار البارود.. فهم العلة والداء.. الدودة فى قلب الشجرة..كالحية تتلون.. تتنكر.. تحت شعار جهاد.. فى زى الحاخامات.. فى زى الكاوبوى.. ....... فى زى بابا نويل.. فى زى مهرجى السيرك.. فى زى فتاة الليل”, وإزاء ما وصل إليه الوضع العربى من مهانة وإحباط وتشرذم فإن المؤلف لا يفقد الأمل بعد أن يضع يده على العلة وأصل الداء “الدودة فى قلب الشجرة” بل يعتلى ـ عبر رمزى  مرة أخرى ـ  صهوة جواد كلماته ويلهب بسياط كلماته النارية عقل متلقيه قبل ظهره ليس لسادية تمتعه بل لإيقاظ وعيه تجاه ذلك الواقع المؤلم “كل أجناس الأرض تتفاهم وتتكاتف الا أنتم.. خلافاتكم ستحطم حضارتكم. إذا كنتم أصحاب حضارة.. لأ .. حقارة...... ضعاف النفوس وضعاف العقول . لا تستمعمون إلا لأصوات ذواتكم المريضة ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. ستبقون فى أماكنكم لمئات السنين .. العالم الثالث. العالم الأخير.. لن تتقدموا قيد خطوة واحدة.. تبا لكم.. تبا لمعارككم المريضة” ويؤتى الجلد ثماره وينجح ـ فيما أراده المؤلف فى إيقاظ وعى أحد شخوصه “عبدالعاطى” ـ آملا فى إنتقال تلك الصحوة بالتالى الى متلقيه ـ الذى يستعيد قوته وعزيمته من بين قمة يأسه وهزيمته أمام “حبيبة” ليعلن  وهو يتوجه الى الجمهور “لكن لأ.. أنا لا يمكن أستسلم..  انت ليا ياحبيبة وأنا ليكى..لايمكن أستسلم أبدا أبدا.. لا يمكن أستسلم..أنا عبدالعاطى.. سجل أنا عربى......” لينهى المؤلف نصه بنفس كلمات “محمود درويش التى صدر بها النص فى بدايته, محذرا العالم من الغضب العربى إذا ما فقد صبره فسوف يأكل لحم مغتصبه, وليؤكد المؤلف بنصه هذا ـ كما فى معظم نصوصه السابقة ـ إهتمامه بقضايا وطنه وانشغاله بها لتصبح همه الذى يعالجه فى مشروعه المسرحى .


أحمد هاشم