المسرح.. إما أن يكون أو لا يكون

المسرح.. إما أن يكون أو لا يكون

العدد 682 صدر بتاريخ 21سبتمبر2020

أحب العمل وفق مبدأ الفريق، أو المختبر المسرحي، وما أن ابدأ بالتحضير لأي عمل جديد حتى تبدأ معه متعة الخلق، البحث والتجريب. ولكي يتحقق التصور على «أنا» المخرج أن تتنحى قليلاً خلال العملية الإبداعية، فالمسرح فن جماعي لا يحتمل التفرد كبعض الفنون الأخرى، يشترك فيه مجموعة من المبدعين، لكل منهم ذائقته وأفكاره الخاصة، وعليهم أن يصلوا معاً إلى خلق التصور النهائي لعملهم بإشراف المخرج أو بالأحرى منسّق عناصر العرض، وذلك بحد ذاته ممارسة ديمقراطية تخضع للنقد وتحتاج للمرونة.
فالمختبر المسرحي يفتح بآليته مساحة لاستمزاج الآراء، رأي كل مشارك وتصوره عن ماهية العمل، جلسات طويلة من النقاش والتجريب، ماذا لو قدمنا المشهد بهذه الطريقة؟
نجرب.. لا.. لن يخدمنا هذا التصور.. إذن ما رأيكم أن نقدم هذا المشهد بشكل مغاير؟ أو نضيف عليه إيقاعاً بالأقدام، نستخدم الاكسسوار الفلاني أو نغير ميزانسين الممثل.. وهكذا يمضي الوقت في تركيب العناصر عنصراً عنصر دون أن نشعر به.. وينتهي موعد البروفة.
الممارسة العملية للمسرح تختلف عن التنظير له، ولكل مسرحي أسلوب يمارس عمله من خلاله بطريقة تختلف عن الآخر.
بالنسبة لي أنجزت أول أعمالي الإخراجية في فترة الحرب.. قد يتساءل البعض.. ما دخل الحرب بالمسرح؟ أو كيف يمكن للحرب أن تغير من مجريات العملية الإخراجية.. 
أجيب.. الحرب تغير الكثير.. فالحرب تحكمنا بالوقت وبعامل الأمان.. 
كل دقيقة في الحرب تتحول قيمتها لتصبح بسعر الذهب أو الألماس أو غرام اليورانيوم.. فتحفّزك على إنجاز الأقصى في أقصر وقت ممكن.. فأنت لا تعرف إن كنت ستعيش الغد أو ساعاتك القادمة.. وهكذا كل يوم.
تتضاعف قيمة ما تصنع حين تجد أن شركاءك في العمل يضعون حياتهم على المحك ليصلوا في الموعد المقرر للبروفا، رغم الحواجز والقذائف والاشتباكات والظروف الاقتصادية المؤلمة، وما أن يدخلوا فضاء المسرح حتى يذوبوا في هذا المكان. يخلعون جميع مشاكلهم الشخصية ويمنحون أرواحهم لما اختاروا أن يفعلوه في الحياة.. فيتحول المسرح إلى فعل مقدس كما كان منذ آلاف السنين، لكن دون صبغة دينية هذه المرة.
لا يكتمل الفعل المسرحي دون جمهور، ولكن على فريق العمل أن يأخذ بالحسبان أن الآراء ستكون مختلفة بين متقبّل ومحب ورافض، خاصة أن كنت تحاول الخروج عن الاعتيادي، أي ما اعتاده الجمهور مشاهدته، فتكسر بذلك تصورهم عن المتوقع، وتغير من طريقة استقبالهم لما يشاهدوه أمامهم. 
سأكشف سراً صغيراً هنا.. حين أعمل، لا أفكر كثيراً بردة فعل الجمهور، ولا أحاول صنع عمل خصيصاً لإرضائه، بل أن جلّ ما يهمني ألا أفقد متعة التجريب فيما أصنع، فأنا لا أريد أن يكون ما أصنعه نسخة عن نتاج الآخرين. وليكن العمل إشكالياً، وليستفز الكثير من الآراء المتضاربة، أين المشكلة في ذلك؟ 
فالتجريب إن كان على مستوى شكل أداء الممثل، أو السينوغرافيا أو الرؤية الإخراجية أو حتى بنية النص لا يُنقص شيئاً من قيمة ما تقدمه، المهم مراعاة القواعد المسرحية والحفاظ على وحدة الأسلوب والرؤية العامة وليس تحويل النتاج إلى كولاج يعتمد قطف زهرة من كل بستان.
عنصران أساسيان لا يمكن الاستغناء عنهما لتحقيق شرط المسرح: الممثل والحكاية، النص، أو الفكرة.. فـ «ثسبيس» الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد يعتبر أباً للمسرح المعاصر والممثل الأول في التاريخ الذي سرد قصة الإله ديونيسوس لجمهور أثينا. وبالتالي فإن جميع التجارب البصرية الحديثة التي تعتمد على إلغاء الممثل أو الفكرة لا يمكن تصنيفها ضمن خانة المسرح، وهي نفسها قد ابتكرت تسميات معاصرة تصف الشكل الذي تقدمه للجمهور، كالعرض البصري والانستاليشن وما هنالك من تسميات أخرى. أما ما يُبقي العمل المرئي في ذاكرة المتلقي لأطول فترة فهو الفكرة أو النص، ومن دون هذه الفكرة التي تجمع العناصر ببعضها وتعطيها المغزى يفقد العمل معناه ويصبح قابلاً للنسيان بمجرد أن تخرج من قاعة العرض، والمبدأ نفسه ينطبق على العروض الحركية والأدائية والبصرية، فمن دون الفكرة التي تعتبر الركيزة الأساسية لصنع العمل يصبح تأثير هذا العمل آنياً ينحصر في البحث عن الدلالة منه، ومع العجز عن إيجاد الدلالة يُنسى ولا يترك أي أثر.
بث العروض المسرحية عبر وسيط بصري، التلفزيون، أو اليوتيوب، أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك له شرطه ولا يخل كثيراً بمفهوم المسرح ويمكن أن يصنف في خانة التوثيق، وهو فرصة لمشاهدة عروض من بلدان مختلفة قد لا يحملك إليها الواقع، لكن شرط الفرجة نفسه يختلف، فلا تواصل مباشر وحي بينك كمتفرج وبين مساحة الخشبة مما يُنقص من متعة التواصل المباشر بجميع الحواس. شخصياً لا أفضل مشاهدة العروض المسجلة إلا للضرورة ولا أحب الطريقة التلفزيونية المتبعة في تسجيل هذه العروض باستخدام كاميرات خمسة او ثلاث مع الاعتماد على المونتاج واللقطات المتوسطة أو القريبة، فنحن نتفرج على عرض مسرحي وليس على فلم تلفزيوني رديء مهمته ملئ الهواء كما يُصطلح في التلفزيون، وإن كان لا بد من تسجيل عرض مسرحي فأفضّل أن يتم ذلك من منظور المتلقي في المسرح، أي بكاميرا واحدة مواجهة للخشبة كي لا تفلت من المتفرج أدنى إيماءة يقوم بها الممثل أو أي تغير في حركة الديكور تقدم وتضيف علامة للمتفرج ليفسرها ويحرمنا منها حامل الكاميرا وفق مزاجيته الخاصة. 
فرض وباء الكورونا واقعاً على صناع المسرح لا يمكن تجاهله، واتجه الكثيرين لإيجاد بدائل عن التواصل الحي مع الجمهور من خلال تسجيل قراءات مسرحية في غرف جلوسهم أو الحدائق، أو اسكتشات، أو فقرات رقص معاصر توحدها الموسيقا وتفرقها أماكن تواجد الراقصين. بالنسبة لي تلك التجارب مجرد مرحلة، مؤقتة حتى ولو طالت قليلاً، لم آخذها على محمل الجد كبديل للمسرح الذي نعرفه ولا يمكنها أن تفرض قواعدها على المتفرج ولا على صانع المسرح إلا مؤقتاً.
فالمسرح كما نعرفه ونعشقه، إما يكون أو لا يكون..


آنا عكاش - سوريا