جمال ياقوت يسرد ما لا ينسى فى رحيق النار

جمال ياقوت يسرد ما لا ينسى فى رحيق النار

العدد 940 صدر بتاريخ 1سبتمبر2025

حادث مروع زلزل أركان المسرح المصرى وترددت أصداؤه فى كل أروقة ومسارح العالم الذى كان كثير من مسرحييه على بعد أيام من زيارة مصرنا الحبيبة لمتابعة مهرجان المسرح التجريبى. وترددت الأسئلة فى كل مكان هل يؤجل التجريبى بسبب تلك المأساة التى راح ضحيتها كوكبة من ألمع عشاق ونجوم مسرحنا المصرى إذ كان مهرجان نوادى المسرح الذى أفرز هذه الحادثة وقتها فى أذهى عصوره يجتذب أعمدة المسرح المصرى من كل الأجيال ومن مختلف مدن مصر جاء “حريق بنى سويف” كى يحول البهجة والفرح إلى حزن وكآبة ولون فضاء قاعة العرض بلون اللهب وتركت الحادثة فى نفوسنا وجع وخوف من المسارح وبدورها وبسب الخوف من تكرار المأساة اتخذت إجراءات صارمة للحماية المدنية، وقرر الدفاع المدنى إلا يصرح لأى مسرح بالعمل من دون أن تتوافر له أنظمة الأمان ضد الحرائق وتحررنا تدريجيًا من الخوف حتى شممنا رائحة الدخان منذ بضعة أيام تنبعث من فوق منصة مسرح السلام بشارع قصر العينى فى الدقائق الأخيرة من عرض سجن النسا والذى كان ضمن عروض المهرجان القومى للمسرح المصرى ورأيت الناس يهمون بالفرار من العرض لولا ثبات الممثلين بمواقعهم وتدخل مدير المسرح ومشرفى دار العرض الذين صرخوا فى الناس أنه لا يوجد خطر وأن تلك الرائحة لماكينة الدخان التى أدمنها المسرحيون المعاصرون؛ لأنها تؤدى إلى تجميل المنظر المسرحى ولولا ثباتهم الانفعالى حسن تصرفهم ما استجابة الجماهير المذعورة والتى كان تدافعها سيحدث كارثة؛ لأنهم كادوا يندفعون إلى الخارج من دون أن تفتح المخارج التى يبدو أنها لا تفتح من تلقاء نفسها وقت الأزمات وإنما يجب أن يفتحها مسئولو أمن المكان، وقد كان من نتائج ذلك أن تذكرنا مأساة بنى سويف مجددًا وكأنها شريط سينمائى يمضى أمام ناظرنا، وتذكرت جمال ياقوت وكتابه الممزوج بالوجع والدموع والصادر عن سلسلة الإبداع المسرحى التى تصدرها هيئة الكتاب المصرية عام 2021م، وهو مسرحى شهير من الإسكندرية عاصمة مصر الثانية يرصد فى هذا الإصدار تجربة شديدة الخصوصية؛ حيث قاده عشقه للمسرح ذات مساء إلى مشاهدة عرض مسرحى كان العرض الأخير بل والعمل الأخير فى هذه الدنيا الزائلة بحياة صانعيه حيث كان نهاية العرض نهاية الحياة إذ شب حريق مروع بعد العرض أدى إلى موت المخرج ومساعديه وممثليه إضافة إلى عدد لا بأس به من المشاهدين، وعلى رأسهم بالطبع لجنة التحكيم وكبار نقاد المسرح المصرى وقتذاك فى الخامس من سبتمبر عام 2005م، وهو ما يعرف فى المراجع المسرحية بمأساة بنى سويف نسبة إلى المدينة الجنوبية التى وقع فى قصر ثقافتها الحادث، ورغم مرور كل هذه الأعوام لم يستطع “ياقوت” أن يمحى من ذاكرته أدق تفاصيل الحادثة فغادر موقعه كأحد كتاب ومخرجى ومنظرى المشهد المسرحى المصرى المعاصر إلى عالم السرد ليسرد لنا تلك السيرة الحزينة سيرة الألم والوجع، وقد نجح فى أن يشعرنا بكامل الإيهام لنبدو كما لو أننا شهداء الموقعة لا شهود عليها نجد أنفسنا بين المحترقين الذين أمضوا أسابيع طوال راقدون فوق الشوك بلحوم محترقة يصرخون من هول الألم يشاهدون جلودهم تسقط من أثر الحرق.
وفى كتابه يقول: “كلما مرت بضع ساعات سقط فارس جديد من فرسان المسرح المصرى”، ويستمر الوجع إلى أن حصد الموت (52) شهيدًا، بينما كاتبنا ومعه بعض المحترقين ينتظرون بالمشافى بين الموت والحياة ونشرت هيئة قصور الثقافة كتابها “عطر الأحباب” الذى أعده الكاتب الراحل محمد الشربينى وقدم له بمقدمة نارية تدمع الفؤاد وهو إصدار يشمل السيرة الفنية والإنسانية لشهداء بنى سويف يركز على من رحل بينما العائدين من الموت ظلت آثار الحرائق على أجسادهم وآلام المشهد تجثم فوق صدورهم لا يقوى على فتح جراحهم أحد حتى أخرج ياقوت هذا الإصدار يشمل سيرة عشق ونضالًا فى سبيل المسرح لم تستطع تلك الحادثة أن تحول بينه وبين مسرحه، فالفن داء إن تمكن من إنسان صار بلا دواء.
فى كتابه (رحيق النار) يحكى سيرة الوجع يكتبها بالآلام والدموع والتى وقعت أثناء مهرجان نوادى المسرح أهم ملتقيات هواة المسرح آن ذاك يصفه ياقوت بقوله: “لم تكن لى مشاركة بالتمثيل أو الإخراج هذا العام ولكنى قررت أن أكون هناك دعمًا لمن يشارك من الإسكندرية ولكى أصور أحداث المهرجان بالكاميرا الديجيتال التى اقتنيتها مؤخرًا”.
ومن خصائص هذا المهرجان أنه يقدم أكثر من عرض فى اليوم الواحد وفيه تعرض أفكار جديدة بعيدة عن التقليدية، ولذلك قدم عرض “قصة حديقة الحيوان” للأمريكى “إدوارد إلبى” ذلك العرض المسرحى الذى خلدته الحادثة فى قاعة معارض وهى عبارة عن صالة فسيحة قرر مخرج هذا العرض الذى اقتنص الجائزة الأولى فى الدورة السابقة أن يحول الفضاء المسرحى إلى مكان موحش منعزل كى يحتضن الأحداث الخاصة بهذا النص المسرحى الشهير يحاول أن يبدع للحفاظ على اللقب، وتعتمد تلك المسرحية فى صياغتها على شخصين فقط، أحدهما عائش فى عزلته قابع فى= موقعه راضٍ بحالة حتى يقتحم عليه الآخر المكان فيبدل حالة ويجعله يتنكر تمامً لكل الثوابت التى عاش عمره يقدسها، ويجبره آخر الأمر أن يقتله مؤكدًا أن سلوكيات البشر ترقى أحيانًا إلى حد أن تكون قصة حديقة حيوان ويصف ياقوت العرض بأنه كان مبهرًا تمامًا حيث إن ممثليه كانا فى أرقى حالات الانسجام والإبداع والألق ولما لا وهما على مشارف الصعود إلى عناية الله ورحمة الرحمن مع غيرهم من شهداء المأساة التى حصدت أرواح أكثر من خمسين شهيد من مختلف عناصر العرض واحدًا منهم أبطال العرض الممثلون والمخرج ولجنة التحكيم التى شاهدنا هياكلهم متحجرة فى مواقعها من مقاعد المشاهدة المتحركة؛ لأن هذه القاعة ليست قاعة مسرح وإنما هى قاعة للفنون التشكيلية ملحقة بقصر ثقافة بنى سويف، كما فى جميع قصور الجمهورية ورحل عدد لا بأس به من النقاد والمشاهدين، وفى كتابه يصف لنا جمال ياقوت اللحظات الأخيرة من حياة بعض الحاضرين الذين لم تقتلهم النار وإنما تركتهم فى أوضاع لا تحتمل من الألم والمرارة يحكى عن “مؤمن حلمى” أحد الشهداء فيقول: (كان يجلس على الأرض أمامى يشاهد “قصة حديقة الحيوان” عندما داهمتنا نيران المحرقة فأكلت وشربت من أجسادنا).
يحكى الدكتور جمال ياقوت أستاذ الدراما بقسم الدراسات المسرحية بجامعة الإسكندرية عن مواجع المستشفيات التى تحرك إليها وكيف وصل إلى مستشفى بنى سويف المركزى وانتقل بعد ساعات إلى أحد مستشفيات القاهرة حيث بقى قيد العناية لمدة شهرين ويحكى ياقوت كيف كانت أجسادهم ممددة على الأسرة فى أوضاع لا يحتملها بشر وصرخات الألم تتعالى بينهم، وتختلط الآهات ويتوحد الجميع فإذا بورقة أحدهم تسقط قبل الآخر الذى لا يملك رفاهية أن يحزن فالوجع دائم ومستمر يقول إن فترة إقامته بين المستشفيات والتى ظن أنها أيام استمرت إلى شهور لم يكن يسمح له فيها أن يرى وجهه بالمرآة ويرى أن ذلك من الصواب؛ لأن الحالة التى كان عليها وجهة من تشوه وتورم كانت ستحول نفسيًا بينه وبين الشفاء، أن نبرة التراجيديا العالية وارتفاع صوت الدراما وهول الحدث هى ما يؤمن لهذا الإصدار الوثائقى التوثيقى المهم ما له من أهمية فى تاريخ المسرح المعاصر نحن بصدد سرديات عائد من الموت كتبت بالآلام والدموع.


محمود كحيلة