«أفراح القبة».. السقوط الإنساني في جحيم الجسد

«أفراح القبة»..   السقوط الإنساني في جحيم الجسد

العدد 653 صدر بتاريخ 2مارس2020

تأتي مسرحية أفراح القبة، التي يقدمها مسرح الشباب الآن، تأتي كحالة إبداعية مدهشة غير مسبوقة، تمثل إنجازا دراميا رفيع المستوى، يثير الجدل والتساؤلات حول هؤلاء الذين امتلكوا شعلة الوعي والوهج، ليكشفوا أسرار ذلك العالم التراجيدي المخيف، الذي يسقط بقوة في جحيم الفقر والجسد - -، يشتبك مع الواقع والإنسان ليطرح تساؤلات الجنس والرغبة والهوى، ورؤى التمرد والعصيان والعبث، تلك الحالة التي تشاغب اللحظات الفاصلة في تاريخ الفن، وفي مسار الخلل الوحشي الذي نعيشه الآن- -، ففي حضرة نجيب محفوظ كان الوجود المسرحي فريدا مدهشا وعظيما، يبحث عن معنى العصيان، وعن العدالة الهاربة ودوافع الإنسان، يدين القهر والغياب، يحاكم الفقر الوحشي واندفاعات السقوط إلى الحضيض، يشتبك مع الوجوه والأقنعة، مع البطل الوحيد لمسرحية الحياة، ومع المفارقة الوجودية الكبرى،حيث الموت والحياة، والحضور والغياب، والرجل الذي لا يزال ينتظر أمه، التي أخبروه أنها ذهبت إلى الله  .
مخرج مسرحية أفراح القبة وصاحب إعدادها هو الفنان المتميز الواعد «محمد يوسف المنصور»، الذي كان شديد الإدراك لقيمة العظيم نجيب محفوظ، وفلسفة عالمه الجمالي المثير، حين طرحه من خلال نصه الروائي القصير» أفراح القبة  «، الذي ينتمي إلى الكتابة الحداثية، متعددة  الأصوات والرؤى والأبعاد، ذابت فيها الحدود الفاصلة بين الواقع والفن، الحقيقة والوهم، والجنس والاقتصاد والسلطة والسقوط، فقد نزع نجيب محفوظ كل الأقنعة، ليسقط  الزيف والعبث والأخلاق والقيم، فيصبح الإنسان عاريا، يواجه سقوطه المخيف، ويتحدى آثام الخطيئة الأولى، ليشعلها بنيران القسوة والمجون والعذاب  .
 استطاع محمد يوسف المنصور، أن يقبض على تلك الجمرات الفكرية والفنية النارية المتوهجة، فجاءت شخصيات تجربته مندفعة نحو مسارها المحتوم، ملامح البناء الدرامي جاءت متعددة المستويات، غابت عنها الأطر والمرجعيات وسطوة المركز، الأحداث تنمو وتتطور عبر حرارة التفاصيل الصغيرة، التي تكشف بذاءة  انتهاك شرف الإنسان،وتزييف جوهر الإرادة والوعي والحرية والأحلام، ورغم وقائع السقوط  الصادم لنماذج النساء في المسرحية، إلا أن الفن الراقي الجميل، لا يعرف أبدا شبهات الإسفاف والابتذال، حيث تأخذنا جماليات الطرح وسحر الكتابة وعمق المعنى، إلى الزاوية الحرجة، ليتفجر الجدل العقلي بين رؤى الضحايا وقسوة الجلادين، تلك الحالة التي منحت الأبواب المغلقة، على الأمهات والصبايا والعاهرات والساقطات والقوادات، وعلى الدعارة والثقافة  والفن، والفقر الذي يفتح  نيران الجحيم، منحتها دلالات مدهشة، تؤكد أن الحب وحده لا يفتح الأبواب المغلقة، وأن تراجيديا أفراح القبة تحتاج إلى أربعة وجوه للحب كي تبوح بأسرارها .
استطاع المخرج وصاحب الرؤية الفنية أن يمنح العرض مساحات خلاقة من الثراء والإبداع والجاذبية، فرغم أن قضية مقتل» تحية  «، أو موتها تمثل بعدا مثيرا في هذه التجربة، إلا أنه يظل بعدا ظاهريا مسطحا، حيث تموج الأعماق بدلالات المعنى وجمرات الحقيقة وعذابات القهر، ويذكر أن العرض قد وصل إلي ذروة النضج، عندما قدم بانوراما تفاصيل الحقيقة عبر أربعة أصوات واضحة ، تتقاطع وتتوازى، تتشابك وتتضافر، ثم تنفرد وحدها بتيارات الذات والمشاعر، لتحكي وتروي عن الماضي والحاضر، فتتضح الملامح وتتوهج الألوان،ويصبح الوجود ناريا أسطوريا، ساقطا ومخيفا، فعرفنا من هو طارق رمضان، العاشق الممزق، والمثقف المعذب، رأيناه مهزوما مكسورا مترددا، ممثل يبحث عن دور واضح في المسرح والحياة، وهو أيضا ثائر وراضخ عاجز عن التعبير، أحب تحية بجنون، ورفض أن يتزوجها، لكنها كانت صاحبة إرادة وقرار، فاندفعت إلى الحب لتواجه الفقر وعيون الرجال، قررت أن تكسر قيود عجز حبيبها، فتركته وتزوجت عباس، وماتت بعد شهور قليلة، ليدخل طارق جحيم العشق والذكريات،  بعد أن غابت الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والواقع والخيال، وظل يحاول تحقيق حلمه كممثل، حتى ولو لحظات .
جاء التشكيل السينوغرافي  المتميز كجزء من عذابات المتلقي، ومن روح نجيب محفوظ، تناسق الأبعاد الجمالية والفكرية والوظيفية، تبعث موجات من السحر والغموض والإبهار، والضوء الدرامي  يأخذنا  إلي ذلك البيت القديم، وفي هذا السياق  يكتشف المتلقي، أن الوجوه الأربعة لحقيقة تضم ، كرم يونس الملقن وزوجته حليمة، وابنهما عباس - -، المؤلف الشاب الباحث عن معنى الحقيقة، كل منهم ينطلق إلى عالمه الخاص، ليستعيد التفاصيل والأحداث ، ويقرأها وفقا لثقافته ومشاعره ورؤاه، لنصبح أمام  ثورة الجدل المثير، الذي يبعث مناطق الوهج ومنحنيات الهبوط والصعود، واشتباكات الروح وسقطات الجسد، ورغم أن كرم عباس كان قوادا مدمنا للأفيون، إلا أن أعماقه كانت مسكونة بالعذاب والخوف والضياع، فهو ضحية أمه العاهرة الشهيرة، التي شوهت معنى الوجود  والمرأة في حياته، أراد الفرار من عالمها المشبوه، وقرر أن يصنع عالما نظيفا ، فتزوج من حليمة - -، لكن الأقدار خذلته، ففي ليلة الزفاف لم تكن عروسه عذراء، وتفجرت أمامه موجات التساؤلات والتناقضات،  وحين تروي زوجته مونولوجها الخاص ندرك حجم عذاباتها، فهي ترى نفسها امرأة نبيلة، لها أخلاق القديسات، اغتصبها سرحان الهلالي صاحب المسرح -، الرجل الرأسمالي الشرس، عاشت حياة مفزعة  مع زوج قاسي، دخلت معه الجحيم، وظل حلمها الذهبي هو ابنها عباس، الذي قررت أن تجعله ملاكا، لذلك تجاوزت صدمتها حدود الاحتمال حين شاهدت مسرحية أفراح القبة، وعرفت أن ابنها المؤلف يراها عاهرة رخيصة .
ارتكز منظور المخرج على أن قراءة أحداث تجربته المسرحية، لا يمكن أن تكتمل عبر ثنائيات الأبيض والأسود، الخير والشر، أو الملائكة والشياطين، فهذه الصيغ قد تخطاها قد تخطاها الواقع وتجاوزتها فلسفة الفن بشكل عام، لذلك شاركت كل شخصيات أفراح القبة بشكل إرادي أو لا إرادي في  تكثيف أبعاد هذه التراجيديا المأساوية، التي لعبت فيها الأقدار دورا دراميا اشتبك بقوة مع مفاهيم التسلط والاستبداد ورؤى المجتمع الأبوي، وتفجرت الدوائر الوحشية المغلقة لتستلب الأرواح وتختزل الأجساد، - -، وهكذا ندرك بوضوح أن المأساة في أفراح القبة ليست هي موت تحية، لكن الكارثة المأساوية الحقيقية هي ميلاد تحية جديدة كل يوم، وموتها أو قتلها أيضا كل يوم، فالقهر الاجتماعي والتسلط الاقتصادي هم المسار الفعلي إلي اغتصاب الوعي و تشويه الإنسان . وهكذا ظلت خشبة المسرح تموج بتيارات الحياة الثائرة، وكشفت مغامرة المخرج محمد يوسف المنصور، عن موهبته التي تضعه في مصاف الكبار، وتؤكد أنه فنان مثقف لامع، يمتلك أدوات جديدة مغايرة وتقنيات  متوهجة، ولعل أسلوب الفلاش باك، الذي وظفه ببراعة يكشف عن عمق إدراكه لمفاهيم الإبهار والدهشة والتشويق والجمال، ويكفي أن المتلقي لم يشعر أبدا بلحظة ملل، مما يؤكد على  حرارة الإيقاع وتصاعده المثير، ويذكر أن جماليات صورة المشهد المسرحي قد تجاوزت حدود الجمال المألوف، جاءت مسكونة بالتفاصيل الدالة الغزيرة ، أما خطوط الحركة  ولغة الجسد، ومزج شاشة السينما بأحداث خشبة المسرح، قد بعثوا تيارات من الوهج الأخاذ، فتحولت الأوهام والفانتازيا، إ لي قراءة  حية في قلب الحب والجنس والسياسة  والاقتصاد والإنسان .
شارك في المسرحية مجموعة من الشباب والشابات، كانوا جميعا نجوما لامعة في أفق هذه التجربة المدهشة، فتعرفنا على محمد تامر، سمر علام، فاطمة عادل، حمزة رأفت، مينا نبيل، أحمد صلاح،  عبد المنعم رياض، مينا نادر ’ عبير لطفي، والجميلة عبير الطوخي، جيهان أنور، محمد يوسف، هايدي عبد الخالق، مارتينا رءوف، أحمد عباس، وباسم سليمان  .
كان الديكور وتصميم الإضاءة للفنان عمرو الأشرف، والتأليف الموسيقي لأحمد نبيل، والتصميم الحركي لمناضل عنتر، والأزياء لعبير بدراوي .


وفاء كمالو