سوبيبور..إنتصار التوثيق على الدراما

سوبيبور..إنتصار التوثيق على الدراما

العدد 631 صدر بتاريخ 30سبتمبر2019

قامت إبادة جماعية إبان الحرب العالمية الثانية قُتل فيها قرابة ستة ملايين يهودي أوروبي على يد النازي “أودلف هتلر” الذي حكم ألمانيا بين عامي 1933: 1945، وعرفت حينها تلك الجماعة المُبادة بأسم “ الهولوكوست” ضمت تلك الجماعات اليهود، الغجر،المثليين، وشهود يهوه والمعوقين، ولكن كان لليهود النصيب الأكبر من العذاب على يد هتلر بسبب إعتقاده أنهم سبب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وفي ربيع 1942 شيد النازيون معسكرات عدة في عموم أوروبا لقتل اليهود وكان من أهم المعسكرات التي ذاع صيتها بينهم هو معسكر “سوبيبور” الذي شُيد عند مشارف بلدة سوبيبور شرق بولندا، فكان ساحة شهدت خنق وتعذيب حوالي 250 ألف يهودي، اقتيدوا من أراضي الدول التي كانت تجتاحها جحافل هتلر حينها.
قدم فريق كلية التجارة جامعة عين شمس العرض المسرحي “سوبيبور”، تأليف وإخراج “محمد ذكي”، ضمن فاعليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الثانية عشر، دارت الأحداث جميعها وسط حالة من الصراع بين من سينتصر في نهاية المطاف؟ وشمل الصراع تلك القوتان (النازية/ اليهود)، كما عمل على إبراز صراعات داخلية لدي شخصيات معينة عند كل منهما ودارت كل هذة الأحداث والصراعات وعلم النازية موجود بالخلفية وكأنه يؤكد على هيمنتها من البداية وحتى النهاية وإن كل ما يحدث ما هي إلا محاولات من قِبل اليهود حتماً لا ترى النجاح.
وقع اختيار المؤلف على معسكر سوبيبور دون غيره بسبب كونه المعتقل الوحيد الذي انتفض معتقلوه على سجانيهم بين المعسكرات النازية التي زرعها الهتلريون في كل أرجاء أوروبا.
فالمقاومة وعدم الاستسلام للأمر الواقع يعتبر الدافع الأقوى لربط أحداث العرض سيسولوجياً بأحداث المجتمع الحالي، فعادة ما يميل الشباب لفكرة الانتفاضة والمقاومة والثورة بهدف التغير، ولكن العرض لم يجرؤ على التصريح مطلقاً بهذا الربط، وأعتمد على إلقاء الدلالات المبعثرة البعيدة أثناء الحوار دون أن يخوض في تجربة الربط بين الماضي والحاضر والتي تُعتبر من أهم وسائل جذب المتلقي للعمل، لأن المشاهد على علم بالحوادث التاريخية ولا شأن له في رؤية التاريخ يكرر ذاته على خشبة المسرح، بل يريد أن يرى دلالات رابطة تجعله يستمتع ولا تفسد عليه ذائقته.
وفي أثناء إلقاء الدلالات، اعتمد العرض على ثنائية واضحة (السلطة/ المحكوم)، كانت السلطة هي النازية الباطشة، والمحكوم حينها هم اليهود الذين ذهبوا ضحية ذلك البطش، اعتمدت عناصر العرض جميعها على تأكيد وجود ثنائي متفرق وظهرت الفُرقة فيما بينهم في الملابس حيث أنقسمت إلى العسكرية والمدنية المُهلهلة، وأيضا الديكورات التي اعتمدت في تشكيلها على الحديد تبعاً للصلابة والسجن والظُلمة وما إلى ذلك،.. جميعها سلالم مُدرجة تُبرز الفارق بين الأعلى والأدنى لا يصعدها اليهود إلا في حدود، ولا يمكن لهم أن يصعدوها في وجود الجنود وكأن الدرجات العليا ستظل خاصة بالنازية فقط، وإن جرؤ أحد وتسلل درجة أو درجتين فما هي إلا خلسة سرعان ما تنتهي، كما أكد التشكيل على الفُرقة عن طريق وضع مستوى أعلى في العمق خاص بالضابط النازي “هيلمر” وجنوده فقط، لتؤكد الصورة المرئية طوال الأحداث على الانقسام الذي لا شأن له في الاندماج مهما حدث، ولكن كان للمؤلف رآي آخر وحاول إدماج عناصر من اليهود مع النازية وعناصر من النازية مع اليهود، فقدم شخصية جندي يُدعى “ألبرت” يُفتن بفتاة يهودية ويموت من أجلها، وقدم يهودي يتحالف مع النازية ويقتل والده مقابل حياته، ومن هنا تبدأ الرؤية في الوضوح، حيث أن العرض لم يرتكز فقط على تلك الحادثة التاريخية الشهيرة، بل أراد أن يبرز مكنونات الشخصيات وصراعتها الداخلية، مهما اختلفت في الرسم أو الشكل الخارجي أو الديانة فالجميع يحمل بداخله إنسان من الممكن أن يحب، يرق ويتعاطف، ومن الممكن أن يتحول إلى غول آثم بعد ان كان مقهوراً ضعيفاً، ومن الممكن أن يحمل الجانبين معاً في آن واحد، فقدم شخصية الضابط النازي “هيلمر” الذي قام بدوره “حسن خالد” تحمل الشخصية أقسى جوانب الشر وكأنها مفتورة على القتل وسفك الدماء تتلذذ بتعذيب الآخر ويحلو لها أن تمزق القلوب العذبة، وعلى جانب آخر قدم نفس الشخصية تحمل الحب الوفير لابنته وزوجته يدللهن ويلعب معهن وكأنه لم يخطر بباله يوم أن يؤذِ نملة، وكان حُسن إختيار من المخرج أن يعرض مشهد الزوجة والابنة كاملاً وفي الخلفية هؤلاء اليهود لم تغب عنهم الإضاءة الخافتة لحظة، ليوقف ذهن وقلب المتلقي على ألا يتعاطف مع ذلك النازي مهما حدث.
أما عن تحول شخصية اليهودي وتحالفه مع النازية كانت بمثابة الشرارة الهامة التي ستعرض اهم إشكالية من إشكاليات العرض وهي “كيف لإنسان ذاق العذاب الآليم أن يذيقه لغيره؟”
ومنها تُلقى دلالة عن سبب تعذيب الفلسطينيون حتى الأن!...، وفي الوقت ذاته تجعل المُتلقي يفكر ويطرح سؤاله هل هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى تعتبر مبرر كافِ لوقوع حادثة سوبيور وأمثالها؟، أم أن لهؤلاء الشخصيات أسباب آخرى درامية سابقة للحدث الدرامي الحالي جعلتهم يرتكبون تلك الجرائم؟
ومثلما عمل العرض على بلورة الانقسام عمل أيضاً عمل على تأكيد روح الوحدة بين اليهود ولم يقدم الاختلافات المهنية او الاهتمامات الشخصية بشكل دقيق بينهم، وأكد على المساواة في كل شئ، وأعتمدت الدراما الحركية للعرض والجمل الجماعية عليهم كأنهم بمثابة شخص واحد، أو مجموعة متكاتفة لا فرق بينهم، سوى شخصيتان يختلفان فقط في الديانة، وهما زوجان مسلمان وسط مجموعة اليهود، وعندما جاء وقت الإفراج عنهما تخلى الزوج عن وثيقة إثبات إسلامه لأسرة يهودية بهدف الحفاظ على سلامة ابنة هذة الأسرة اليهودية التي تشير إشارة مباشرة نحو المُستقبل، ليحدث الاندماج والانخراط من جديد وأنه لا فارق بين مُسلم ويهودي فالحياة لها أُسس آخرى يجب أن تُتبع، مما أدى إلى إخفاق العرض أن يبرز بشكل أكثر دقة الاختلافات الحقيقية والحياتية بينهم، فالتفرقة الدينية غير مساهمة في سير الأحداث بشكل قوي، بل وجدت لتخفف من حدة التراجيديا المُقدمة بإلقاء الإفيهات من داخل الموقف ذاته وفقط.
كما أن ذلك التكاتف القوي أيضاً لم يفيد في الحادثة التاريخية نفسها، ففي كل الأحوال باتت هذة المجموعة مُستسلمة تعمل وتُعذب حتى جاء لهم الضابط السوفيتي “ألكسندر بيتشيرسكي” الذي قام بدوره “فادي أحمد” فمنذ وصوله إليهم هو من أخذ يخطط للانتفاض على حراس المعتقل وقتلهم لتحرير المعتقلين وتأمين فرارهم إلى الغابات المجاورة ومنها إلى الأراضي السوفيتية.
ولكن النهاية كانت مثيرة للجدل بعض الشئ، فهي لم تهتم برصد من هربوا ولا بكيفية القتل لباقي اليهود، بل هي فقط قدمت هؤلاء يُقتلون بالرصاص الحي دون النظر لمن فروا وما مصيرهم فالاهتمام بهؤلاء  كان من الممكن أن يجيب على أطروحة العرض الرئيسية في كيف لمن ذاق العذاب أن يذيقه لغيره؟، حتى وإن حتم الحدث عليهم ترك النهاية مفتوحة في مشهد تعذيب جديد يكون قائديه مجموعة من هؤلاء المعذبين الهاربين أو من نسلهم، ولكن أسلوب إلقاء الدلالة من بعيد ثم الانتقال على ما يليها كان بمثابة خوف من الاصطدام بالواقع المعاصر أدى إلى تخبط الأحداث وتذبذبها وغلق الستار على النهاية الخاصة بالحادثة التاريخية لا الدرامية المُنتظرة.


منار خالد