الفتاة وبدايات المسرح الجامعي (1)

الفتاة وبدايات المسرح الجامعي (1)

العدد 645 صدر بتاريخ 6يناير2020

تم افتتاح الجامعة المصرية في ديسمبر 1908، وكان مقرها دار مجلس شورى القوانين، ولم تكن جامعة حكومية بالمعنى المعروف، بل كانت جامعة أهلية!! أما علاقة هذه الجامعة بالمسرح، فقد بدأت قبل افتتاح الجامعة نفسها بسنة كاملة!! حيث إن مشروع الجامعة بدأ من خلال الدعوة بجمع التبرعات لإنشائها، فكان المسرح من داعمي نشأة هذه الجامعة. فجريدة المقطم نشرت إعلاناً في يناير 1907، قالت فيه: “ يُحيى محفل الصدق الماسوني هذا المساء ليلة خيرية في دار التمثيل. تمثل فيها رواية هملت، ويقوم بأهم أدوارها حضرة المطرب الشهير الشيخ سلامة حجازي، ويخص دخلها بمشروع الجامعة المصرية، فاستحق المحفل المذكور، وحضرة رئيسه الفاضل محمد عثمان وافر الشكر”.
وفي مارس 1907، نشرت جريدة المقطم أيضاً، خبراً عن ليلة خيرية أخرى لهذا المحفل، قالت فيه: “ يُحيى محفل الصدق الماسوني الليلة في تياترو حضرة الممثل والمطرب الشهير الشيخ سلامة حجازي لعمل خيري، وهو مشروع مساعدة الجامعة المصرية، فيمثل رواية (غانية الأندلس). ويتخللها أدوار غناء، يقوم بها حضرة المطرب محمد العقاد. وتُتلى بعض الخطب والحوارات، التي تناسب المقام. فنحث الجمهور على حضور هذه الليلة الخيرية، ونثني على حضرات القائمين بها أطيب الثناء”. وفي مايو 1908، قالت – في هذا الصدد - جريدة مصر: “ ليلة تمثيلية تحت رعاية نادي المدارس العليا، لمساعدة الجامعة المصرية. تمثل إحدى الروايات في تياترو (برنتانيا)، مساء يوم الجمعة المقبل. وسيلقي حضرة الشاعر المجيد حافظ إبراهيم قصيدة في مشروع الجامعة، ويخصص إيراد الليلة لمساعدة هذا المشروع الجليل”.
أول امرأة في الجامعة
كان دخول المرأة إلى الجامعة المصرية، دخولاً مبكراً جداً، بعكس ما كنا نظن، بأن سهير القلماوي هي أول فتاة تدخل جامعة فؤاد الأول عام 1929؛ بوصفها أول طالبة. والحقيقة أن الفتاة دخلت الجامعة المصرية القديمة قبل دخول سهير القلماوي بعشرين سنة، ودخلتها محاضرة - وليست طالبة مثل سهير - ودخل معها فتيات ونساء كثيرات، وذلك من خلال محاضرات عامة، ابتكرتها الجامعة المصرية القديمة!!
ففي يناير 1910، قالت مجلة الهلال تحت عنوان (الجامعة المصرية واللغة العربية وتعليم المرأة): “من يطلع على بروجرام التدريس في الجامعة المصرية لهذا العام، وما يقابله ببروجرامها للعام الماضي، يتحقق أنها خطت خطوة كبرى نحو الغرض المرجو منها في خدمة اللغة العربية، وترقية الناشئة المصرية .......... ومما يزيدنا ثقة بذلك، التفاتها من تلقاء نفسها إلى تعليم المرأة، ففتحت أبوابها لحضور السيدات، يسمعن محاضرات خاصة بهن لا يحضرها الرجال. وظهر من فاتحة هذا العمل أن الإقبال سيكون عظيماً، ويكون فضلها في رفع شأن المرأة أضعاف فضلها في تعليم الرجال”.
أول محاضرة قرأنا عنها، كانت في مارس 1911، حيث نشرت مجلة المقتطف، نبذة عنها، فعلمنا أن عنوانها (التربية)، وألقتها لبيبة هاشم داخل الجامعة المصرية القديمة، وقد نشرت المجلة نصها كاملاً، نقتبس منه هذا الجزء، وفيه تقول لبيبة: “ هذا ما دعاني إلى اتخاذ التربية موضوعاً للبحث معكن أيتها السيدات الفاضلات، علنا بذلك نهتم في إيجاد وسائل لتحسين التربية في المدارس، وتعليم الفتيات قوانين الصحة، وقواعد الآداب الصحية، حتى إذا أصبحن يوماً أمهات يدركن ما عليهن من الواجبات الوالدية، فيرتقي بذلك مجتمعنا، ويصلح شأن أفرادنا بإصلاح التربية العمومية، وتهذيب أخلاق الناشئة على قواعدها الصحية ........... إلخ”.
وفي إبريل 1911، نشرت مجلة المقتطف أيضاً نص محاضرة (المرأة والأمة)، التي ألقتها في الجامعة السيدة نبوية موسى – وهي محاضرتها الثانية – بدليل قولها: “ إني وفاء بوعدي السابق، أتكلم اليوم عن تاريخ المرأة في العصور الخالية إجمالياً، ثم أشرح أحوالها في بعض الأمم، لنرى كيف كان للاهتمام بشأنها دخل عظيم في تقدم الأمة. ولنرى إننا نحن المصريات مقصرات فيما يجب علينا في ترقية شأننا، لو كانت هذه الترقية قاصرة علينا، لا تفيد غيرنا، لتقاعدنا عنها، حتى لا ينسب إلينا حب الذات؛ ولكنها ترقية تعم الأمة بأسرها، لدخول نصفها في الحياة الحقيقية بعد أن كان كالعضو الأشل في جسمها، قد يعوق غيره من الإصلاح، فتقاعدنا عنها جهل بحقوق أبنائنا جهل بما لوطننا علينا من الواجبات “. وقالت أيضاً: “ لست أنصح للفتاة بأكثر من الالتفات إلى العلم، والبعد عن الكسل والفراغ، وهذا كل ما صلح حالها. فإن العلم يفتق الأذهان، ويجعل الفتاة تشعر بما يحيط بها، فتعلم عن خبرة الفرق بينها، وبين غيرها من الغربيات. فتصلح من شأنها كما تعرف قيمتها في الحياة، فتحتقر الزينة وترى من النقص تضييع الوقت، خصوصاً إذا كانت مشتغلة بعمل نافع فيها. وليس من يكون له من نفسه دافع إلى الشيء، كمن ينصح له غيره به. فقد لا يصادف قول غيره قبولاً من نفسه، وقد يخطئ فهم النصيحة فيعكسها”.
وفي إبريل ويونية 1911، نشرت مجلة المقتطف نص محاضرتين للسيدة رحمة صروف، الأولى بعنوان (الفتاة قبل الزواج وبعده)، ألقتها في الجامعة، وبدأتها قائلة: “.... بحثت كثيراً لعلي أوفق إلى موضوع جديد، أجول فيه فرأيت أن أهم ما ينقص الفتاة في بلادنا، هو ما الذي يجب عليها أن تعرفه، لتكون زوجة في استطاعتها أن تقوم بواجباتها البيتية. نعم إن ما يجب على الزوجة أن تعرفه، أمر خطير الشأن، بل هو من الأهمية بأعظم مكان. فإذا وفته حقه من البحث والتبيان في محاضراتي، التي أزمعت إلقاءها في هذه الجامعة – الجامعة التي تعلق بها الآمال وتشد إليها الرحال – فتلك هي الضالة التي أنشدها والغاية التي أسعى إليها”. والمحاضرة الأخرى، كانت بعنوان (التنفس والملابس)، نقتبس منها هذا الجزء، وفيه تقول السيدة رحمة: “ وقفت على هذا المنبر قبل الآن، فأبنت ما يجب على الفتاة أن تعرفه قبل الزواج وبعده، فكان ذلك تمهيداً لما أريد بسطه في محاضرات أزمعت إلقاءها في هذه الجامعة. ولا أدعي في العلم معرفة، ولكني وقفت على أشياء كثيرة في كتب بعض علماء الغرب، فاقتطفت ما منه كبير فائدة. موضوعي الآن يا سيداتي، يتعلق بصحة الجسم، وسلامة العقل، واعتدال القامة، وجمال الوجه”.
أما آخر محاضرة قرأنا عنها، فكانت بعنوان (غاية الحياة)، وألقتها في الجامعة ماري زيادة – الشهيرة بمي زيادة – يوم 29 إبريل 1921، بطلب من جمعية (فتاة مصر الفتاة)، ونشرت نصها مجلة المقتطف في مايو 1921؛ وقالت مي في ختامها: “ بقي عليّ أن أشكر لجمعية فتاة مصر الفتاة، دعوتها الكريمة التي مكنتني من الاجتماع بكنّ أيتها السيدات، وأجازت لي التعبير عن أفكاركن. في الظاهر كنت أنا المتكلمة. ولكنكنّ تعلمن أن ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، إنما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة، تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها. وإني لأغتبط بهذه المحادثة الصغيرة، وأهنئ مصر ببناتها العاملات المدركات معاني الحياة، وكلكن هنا ذوات أثر في بيئتكن وصاحبات فضل على قومكن. إننا نجتاز أياماً عظيمة تهز النفوس إلى أعماقها وتلفتها إلى ما لديها من المواهب والممكنات. ألا فلنكن أهلاً لهذه الأيام بدروس نكتسبها من مرورها! ولنكثر من التمني لأن ما نتمناه واقع لا محالة، وأنا من المعتقدين أن مجرد الشوق إلى أمر والرغبة فيه إنما هما إنذار بوقوعه المحتم”.
مما سبق يتضح لنا، أن أول نشاط للمرأة داخل الجامعة المصرية القديمة، كان نشاطاً ثقافياً، موجهاً إلى المرأة، فيما يخص المرأة من أمور وموضوعات، لا يصلح حديث الرجل فيها، ولا يحق له أن يلقيها على النساء في هذا الوقت المبكر!! وهذه المحاضرات، تعكس لنا مدى شجاعة المرأة وجرأتها في أن تدخل الجامعة، وتلقي محاضرات عامة فيها، مما يدل على الحرية التي كانت ممنوحها لها، بعكس ما كنا نظن أو نقرأ في المراجع الحديثة!!
بدايات مسرحية في الجامعة
حسب ما بين أيدينا من معلومات، نقول: إن المسرح كان بعيداً عن الجامعة المصرية الأهلية القديمة، منذ افتتاحها عام 1908، وطوال ثماني سنوات!! وفي مارس 1916، نشرت جريدة الأفكار خبراً، تحت عنوان (محاضرات فن الإلقاء)!! وهذا الخبر، يُعدّ أول علاقة غير مباشرة بين المسرح والجامعة. فالخبر يقول: “ يلقي حضرة الأستاذ محمد أفندي توفيق دياب اليوم الساعة السادسة، بعد الظهر في دار الجامعة المصرية، محاضرة تمهيدية عن فن الإلقاء الخطابي والتمثيل. ووجه حاجة المصريين إلى تعلمه”. ولو وضعنا في الاعتبار أن هذه المحاضرة، هي محاضرة تمهيدية، فهذا يعني أن هناك محاضرات عديدة ألقاها المحاضر في هذا الموضوع!! كما أن دعوة المحاضر المصريين – كما جاء في الخبر – لتعلم الإلقاء والتمثيل، يعكس لنا أن الجامعة بدأت تهتم بالمسرح، حتى ولو كان الاهتمام نظرياً من خلال بعض المحاضرات!
في العام التالي 1917، زاد اهتمام الجامعة بالمسرح، عندما قام أحد أساتذة الجامعة المصرية بتأليف مسرحية، قامت فرقة جورج أبيض بتمثيلهما، وكانت تفاخر في إعلاناتها بأن المؤلف أستاذ في الجامعة المصرية!! وهذا الأستاذ هو حسين رمزي، الذي ألف مسرحية (الضحايا)، ذات خمسة فصول. وهي بحث اجتماعي في الحياة المصرية، ومثلتها فرقة جورج أبيض في الأوبرا السلطانية في مارس، وقام بتمثيلها كل من: عبد الرحمن رشدي، محمود رضا، محمد عبد القدوس، إبريز أستاتي، أستر شطاح.
وفي العام الذي يليه 1918، قام حسين رمزي أيضاً بتأليف مسرحية أخرى، كتبت عنها جريدة الأفكار كلمة تحت عنوان (طريد الأسرة) في إبريل، جاء فيها الآتي: “ أرادت فرقة الأستاذ النابغة عبد الرحمن بك رشدي المحامي، تحقيق الرغبة السلطانية، التي رغبها أيضاً أصحاب السمو الأمراء. وفي مقدمتهم الأمير الجليل عمر طوسون باشا، الذي قال لهذا الأستاذ مدير هذه الفرقة: إنه من الواجب تمثيل روايات مصرية، تشخص ما فينا من داء، ثم تصف الدواء. فطلبت الفرقة من كبار الكتاب أن يشدوا أزرها في تحقيق هذه الرغبة الشريفة. وكانت الباكورة رواية (طريد الأسرة)، التي ألفها حضرة الاجتماعي حسين بك رمزي، الأستاذ بالجامعة المصرية. وقد مثلت هذه الرواية على مسرح الأوبرا في مساء أمس الأول، أمام شعب متعلم راق، فتأثر تأثيراً شديداً مما تضمنته هذه الرواية، التي بحثت في مضمار تعاطي الكوكايين، وفي مضمار عدم إعطاء الزوجية حقها، إذا كانت نتيجة الأولى الجنون والموت، وكانت نتيجة الثاني التعاسة والشقاء. وبالجملة فالرواية عظة بالغة، وعبرة خالدة. وقد أجاد أفراد الفرقة من ممثلين وممثلات أيما إجادة”.
وفي عام 1922، تطورت العلاقة بين الجامعة والمسرح؛ حيث قررت الجامعة الاحتفال بذكرى مرور 300 سنة على ميلاد موليير، وكانت لجنة الاحتفال تضم كلاً من: أمير الشعراء أحمد شوقي، وإسماعيل صبري، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وأحمد ضيف، والمسيو كليمان – الأستاذ بالجامعة -  الذي ألقى محاضرة حول موليير في الاحتفال، الذي تم على مسرح حديقة الأزبكية، وتم تمثيل فصل من مسرحية (مدرسة النساء) لموليير، وفصل من مسرحية (الشيخ متلوف) لموليير أيضاً، كما أخبرتنا جريدة الأهرام في فبراير 1922 ... وكل ما سبق، كان متعلقاً بالجامعة المصرية الأهلية، فهل استمرت علاقة الجامعة بالمسرح، عندما أصبحت جامعة حكومية اسمها جامعة فؤاد الأول؟


سيد علي إسماعيل