العدد 802 صدر بتاريخ 9يناير2023
النويما Noema، التي هي موضوعية الموضوع، والمعـنى «بما هو كذلك» والشيء بالنسبة للوعي، ليس الشيء المحدد نفسه في وجوده الجامح (الذي يُظهر الفكرة كما هي بالضبط) ولا هي اللحظة الذاتية كما ينبغي أن تكون كلحظة ذاتية حقا، لأنها بلا شك تقدم موضوعا للوعي. لأنها ليسـت من العالـم ولا من الوعي، بل إنها العالم أو شيء ما من العالم للوعي.
من خلال تفصيل جوهر الوعي في بنية غير زمانية، يتجنب هوسرل مشكلة منشأ التجريبي. ويلاحظ دريدا أن «في الواقع، لا يُنظر إلى العالم في واقعه أثناء التحليلات، ولكن في قيمته الفكرية المعطاة للوعي – وهذا هو السبب الرئيس في كل صعوبات كتاب «الأفكار – الجزء الأول». فلم يتصور هوسرل أبدا في كتابه «الأفكار» علاقة الركيزة الحقيقية بمعناها الفكري المعطى للوعي الذي سيحدد مشكلة المعنى . وقد اتضحت المفارقة الناتجة في عمل دريدا بايجاز في عمله «الشكل والمعنى Form And Meaning». واعتمادا علي أعمال هوسرل المبكرة حول المنطق والرياضيات، فانه يضع اللغة في مركز التكوين الفكري المقدم للوعي، لأن هوسرل يقول انه يجب التعبير عن الأرقام في أساسها بالمعنى الذي يمكن بلوغه من خلال الوعي . وبالتالي، يجب أن يؤثر علي الطبقة السفلية السابقة علي الحس حتى يمكنها التعبير عن نفسها للوعي. وفي نفس الوقت يأخذ التعبير ويعطي المعنى:
وبالتالي فان الفكرة المعطاة للوعي السابقة علي التعبير، المعنى قبل اللغوي، يجب أن تصاغ في الفكرة التعبيرية المعطاة للوعي، ويجب أن تجد أثرها المفاهيمي في محتوى المعنى. ولكي يقصـر التعبير نفسه على نقل المعنى حتى يتجه إلى الخارج،ولكي يصل بالمعنى إلى العمومية المفاهيمية دون تغييـر بنفـس الطريقـة، ولكي يعبر عن المعتقد بالفعل ( ويمكن أن نقول انه مكتوب)، ومن أجل مضاعفة التعبير بأمانة –- يجـب أن يسمـح التعبيـر لنفسه أن يكون مصاغـا في نفـس الوقت الذي يعبـر فيـه عـن المعنى .
تحمل هذه العلاقة الغامضة بين طبقة ما قبل التعبير عن المعنى، والمادة اللغوية المعطاة من خلال الوعي، عواقب لمشكلة الكتابة، ولكن ليس أقل من ذلك بالنسبة لتصور فينومينولوجيا من الدرجة الأولى. ومهما كانت تجربة الموضوع الناتج عن الاختزال الفينومينولوجي، فإنها تظهر نفسها فقط في خصوصية المعنى – تلك التي يمكن التفكير فيها، مثلا، علي أنها الارتباطات قبل اللغوية في تجربة برت أوستاتس التي لا تنسى مع الحافلة . ومع ذلك فان الاستفسار عن مصدر تفاصيل المعنى المتكون هذا يمكن أن يؤدي إلى إحساس آخر مكون من أصل غير محدد، وهو ظهور سلسلة لانهاية لها من التخلي المادي المنبثق عن شيء/موضوع يتوارى باستمرار عن الأنظار . علاوة علي ذلك، فحقيقة أن هذا التراجع يكمن، بشكل مستحيل، في كل من العالم الترنسندنتالي (الخارجي) والعالم الجوهري (الذهني) يصل إلى حد التناقض بالنسبة لدريدا. فلا يمكننا تحديد الأصالة المطلقة حصريا بمعنى ما أو بمعنى آخر، لأن الأصل المؤسس للتجربة المعاشة موجود في هذه التجربة المعاشة وخارجها، أي أنها موجودة في الزمن وموجودة خارجه.
ومن السهل أن نرى أن مشكلة اللغة نفسها يمكن طرحها علي فينومينولوجيا المسرح حتى لو استطعنا تفسير تأسيس الحقائق الموضوعية المتصورة. إذ كيف يمكن أن تنتقل تجربة شيء معزول بالشكل الصحيح عن طريق الاختزال الفينومينولوجي إلى شخص آخر؟. وقد أشار يوجين فينك إلى هذا التناقض في عمله المبكر عن هوسرل، بأنه إذا تجاوز العالم الفينومينولوجي الموقف الطبيعي، فربما لا يقال عن حق أنه يتواصل مع أولئك الذين بقوا في تلك الحالة. ينحي هوسرل مشكلة اللغة جانبا في كتابه «الأفكار – الجزء الأول»، مفضلا تجميعها مع الموقف الطبيعي بحيث يمكن ببساطة التخلص من التعقيدات . ومع ذلك، فان استحالة إثبات ولاء الكلام أو الكتابة لأي دوافع سابقة علي التعبير تشكلها تجعل اللغة مشكلة بالنسبة لعالم الفينومينولوجيا. وقد لاحظ برت أوستاتس مشكلة علاقة المعنى باللغة عندما قال «تحتوي اللغة نفسها علي أكثر أشكال المواجهة ضراوة». أي أن العلاقة التعسفية لرموز اللغة بمدلولاتها وعدم تحديد تلك الروابط لا ترقى إلى حالة لا يمكن القول معها بان الدافع الذي يحفز أي فعل كلام يملأ وعاء لغته دون التعرض لخطر التنقية أو التشويه أو الانتشار. ويشرح دريدا محاولات هوسرل للتأكيد علي شفافية اللغة. ومن الاستعارة المنسوبة إلى هوسرل عن نسج معنى قبل لغوي في اللغة، يلاحظ دريدا أن «ما تم نسجه كلغة هو أن الالتواء الاستطرادي لا يمكن تفسيره علي أنه تشوه ويحل محل اللُحمة التي لم يسبقا فعلا . وهذا النسيج لا ينفصم لأنه مهم للغاية : الخيوط غير المعبر عنها ليست بلا معنى». ولكن تبعات عدم الانفصام هذا هي عواقب كبيرة، بالنسبة لدريدا، إذا فشل عالم الفينومينولوجيا في حله بدقة:
إذا لم يسلط الوصف الضوء علي الخلفية التأسيسية بشكل مطلق وبسيـط، فلن تجد قاعـدة الصمـت خطابهـا في الوجـود المعـطى للشيء نفسه أصلا، وإذا كان نسيج النص، قـولا واحدا، غيـر قابل للاختزال، فلن يفشل الوصف الفينومينولوجي فحسب، بل سـوف يكون المـبدأ الوصفي نفسـه محل شـك. وبالتالي، فـإن ركيزة هذا الانفصال هو الصورة الفينومينولوجية ذاتها.
يفصل هذا التحليل اللغة التي تنتجها الذات عن طبقة المعنى الذي يُفترض أن تصوغه، وبالتالي تستدعي مسألة مكانة الكتابة الفينومينولوجية. ولكن نقد دريدا للفينومينولوجيا علي مستوى اللغة له بعد متطرف. فكما يلاحظ كابوتو، يختزل هوسرل اللغة لكي يسمح لمجال الجوهر بتفاعل هو في النهاية أحادي وصامت، وهو «عالم التعبير اللغوي الخالص والخالي من أي تدخل دنيوي وضبابي . يعزل هوسرل التخوف الترانسندتنالي، والأشياء الفعلية عن العمليات الذهنية المقدمة بشكل جوهري ومطلق وبدون صدارة . ومع ذلك، لا يكبح دريدا جماح اللغة في حدود مفارقة فينك فيما يتعلق بالتعبير باتجاه الخارج . وامتدادا لتحليل هوسرل للتوليد اللغوي للكيانات الرياضية، يجعل دريدا اللغة مسألة جذرية من خلال ربطها بمشكلة المنشأ. إذ يشرح لولور:
بالنسبة لدريدا، فان سؤال «اللغة الترانسندنتالية» المنسوب الي فينك، سوف يتم الاعتماد عليه في كتاب «نشأة الهندسة» حيث أن جعل هوسرل اللغة، وبالأحرى الكتابة، أساسية في تكوين (أو تأسيس) الأشياء المثالية، يعني أن اللغة تسبق كل الفروق التي صنعها هوسرل علي أساس الاختزال .
وهذا صحيح بالمعنى الفينومينولوجي نفسه، لأن الدليل إلى غير المكتشف من المثاليات الترانسندنتالية هو اللغة بوصفها شيء ذي أهمية، وأيضا بمعنى أن التصنيفات اللغوية سابقة وموجودة في الفروق الرمزية التي تفتح المجال لعالم الفينومينولوجيا في المقام الأول . فاللغة مشكلة لعالم الفينومينولوجيا، وبالتالي لن توجد فقط في إنشاء ونقل النصوص الفينومينولوجية، بل أيضا في اللحظة الأولى الحاسمة في الفينومينولوجيا، عندما يتم تعليق الشيء نفسه المفهوم بفضل حضوره. وقد لاحظ كثير من محاوري هوسرل هذه المشكلة، ومن بينهم فولفجانج والتر فوش . يهدف هوسرل إلى جعل اللغة المشكلة الثانوية التي يمكننا الامتناع عن تعقيداتها في لحظة الوعي الترانسندنتالي، ولكن دريدا يوضح كيف أن وجود الشيء نفسه يعتمد علي الحركة والانفصال في قلب اللغة .
مجال الترانسندنتالي عند هوسرل، في نظر دريدا، هو المحجوب عن نظيره الدنيوي في مجاز التوازي الذي هو بوابة الاختلاف . فتجلي الأنا الترانسندنتالية يحل محل الأنا البديل لعالم الفينومينولوجيا وكذلك في حالات علاقتي بذاتي التي توجد بشكل متناقض، مثل الفكرة الجوهرية noema فيما يتعلق بالوعي، الأصيل والغريب علي حد سواء . وبالنسبة لدريدا، يتحدث هذا التوازي، الذي لا يمتد إلى أي شيء، بنوع جديد من الاختلاف : «علي سبيل المثال، يحدد هوسرل أن الأنا الترانسندنتالية تختلف جذريا عن الأنا الطبيعية والإنسانية، مع أنها لا تتميز بشيء. بينما يميل هوسرل لتجنب هذا اللاشيء، وهذه الهوة بين الدنيوي والترانسندنتالي باعتبارها المكان الغائب لذلك المستبعد بالاختزال . وسوف يقرأه دريدا علي أنه تناقض داخلي مثمر، وأنه المكان الذي يجب أن نوجه إليه الأسئلة باستمرار . فحقيقة أن اللغة يجب أن تكون المادة التي تمتد منها هذه الفجوة مجبرة – أي أنها تصنع إمكانية التعبير والحركة والرفض الذي يجعل اللغة ممكنة – تلقي الضوء علي التناقض عند هوسرل في موضع المنشأ الذي هو البذرة الأساسية للتفكيك :
سوف يكون معنى وسؤال اللغة عن أصلها قابلا للتأمل علي حساب حرب هذه اللغة ضد نفسها. ومن الواضح أنها ليست حربا بين عدة حروب أخرى. إذ يحدث في هذا الاختلاف حول إمكانية المعنى والعالم، الذي رأينا أنه لا يكـمن في العالـم، بل يكمن في اللغة فقط، وفي القلق الترانسـندنتالي للغـة. في الواقـع، بعـيدا عـن العيش في اللغة فقط، تحافظ اللغة على الاختلاف الذي يحافظ علي اللغة .
وحيث يحدد هوسرل عالم الجوهر والترانسندنتالي اللذان يصلا إلى أساس التجربة في حضورها، يرسم دريدا تذبذبا متقطعا بين الذات والآخر سابق علي اللغة نفسها وعلي توليدها. فتكوين اللغة الملازم للوعي هو دائما الطرد والمغادرة والإرجاء، كما أنه يختلف عن الوعي، وبالتالي يستلزم التكرار من أجل البقاء، والعودة الأبدية . وهذا التذبذب أو التأرجح، كما يقول كابوتو، يحيلنا إلى التغيير الجذري الذي يواجهنا في العالم حيث نثبته بالمبادئ المتيافيزيقية. وهذا ما يقصده دريدا عندما يزعم أن الجدال بين مسائل المنشأ والبنية عند هوسرل تمنح للوصف حركته، الذي يقدم عدم اكتماله اختزال وتفسير جديدين ضروريين بشكل لا نهائي، يترك كل مرحلة رئيسية في الفينومينولوجيا غير متوازنة. كما أن استحالة أن تعبر الفينومينولوجيا بشكل قاطع عن مجال الجواهر لإشباع ذاتها ولإرضاء الآخرين، يزحمها بتعريف ذاتها بشكل لا نهائي، ويدين ممارساتها بأنها تأكيد ساذج للوصول إلى الجواهر المتغيرة، والتي تغير جلدها دائما .
آفاق الفينومينولوجيا في دراسات الأداء:
إن الاختزال الفينومينولوجي علي النحو الذي أقره علماء المسرح والأداء هو مخطط تفصيلي لعلم الفينوميولوجيا الذي أرساه ادموند هوسرل. وقد أصبحت تمثل تغريبا للجوهر أو انفصلا عنه، أو ميلا جسديا يؤكد علي حياة الجسم في الأداء. ومن بعض النواحي، لا علاقة لفينومينولوجيا المسرح بمشروع هوسرل. وقد قدمت الفينومينولوجيا مفردات لبعض الجوانب الحاسمة في التجربة التي تشهد الأداء التي لم تترجم أو تفهم بالقدر الكافي علي أنها مسألة ثقافية. ولكن لا يجب التذرع باسم هوسرل جهلا باللحظة التاريخية التي جعلت نظريته ممكنة، أو التناقضات التي تزعجها، أو بسبب تفكيك دريدا الفعلي لها تحت راية التفكيك. وإذا استمر علماء الأداء في استدعاء اختزال هوسرل الفينومينولوجي، فينبغي علي الأقل أن يكونوا علي دراية بهذه المشكلات وأن يكونوا مستعدين للإجابة عنها. وإذا اختارت الدراسات المسرحية تجاهل نقد دريدا لهوسرل، فيجب عليها علي الأقل أن تعرف سبب هذا الاختيار. فالنقد المنسوب إلى دريدا، مرة أخرى، لا يسبب طمسا للفينومينولوجيا بل يثير بالأحرى سؤال المنشأ والجوهر حيث أغلقت الفينومينولوجيا مسائل ميتافيزيقا الحضور. وبالتالي، يمنح مزج التفكيك ممارسة متغيرة لفينومينولوجيا الأداء، وليس كومة من الأنقاض. وما يلي هي ثلاثة تضمينات واسعة للحجة السابقة لهذه الممارسة.
النقد الفينومينولوجي لا يحتاج الفينومينولوجيا:
عندما قدم برت أوستاتس الفينومينولوجيا إلى المسرح، فعل ذلك لمعالجة الحاجة إلى إتمام تناول سيميوطيقي صارم للأداء. لكي يحد من ثقة السيميوطيقا الضخمة في منتجها. فحشد ستاتس هيدجر وميرلوبونتي وهوسرل لكي يصف ما لا يمكن تفسيره في لحظة تجربة الأداء. وتظهر نتائج هذه الحركة في كتابة غنية بالعاطفة بشكل مميز، ومشبعة بلاغيا وشاعرية. ولكن إذا قدم لنا عالم الفينومينولوجيا هذا الوصف لرحلته داخل عالم الوعي الخالص، فلن تستطيع الكتابة نفسها أن تنقل جوهر موضوعها. وسوف يصبح المنظور الفينومينولوجي «محاطا بالعالم» عند النقطة التي يحاول فيها توصيل نفسه للآخرين في الموقف الطبيعي. الأمر إذن ليس هل نقضي علي الكتابة الفينومينولوجية (فنحن نريد كتابة جميلة مثل كتابة ستاتس) أو بالأحرى، إذا كانت هذه الكتابة ناتجة في الموقف الطبيعي، فلماذا تحتاج إلى استدعاء تقنيات الفينومينولوجيا في المقام الأول؟. من الممكن إعادة صياغة أهداف النقد الفينومينولوجي بدون الاختزال الفينومينولوجي. ويمكن أن تتضمن هذه الأهداف : التركيز علي جوانب الأداء الحسية التي تعبر منفصلة عن وضعها كدوال، والكتابة عن المسرح التي توقظ وجهات نظر جديدة ومدهشة وذات ثقل عاطفي واهتمام باللغة ووصف لحظات الإدراك الحسي الأولى لموضوع الأداء كما يعايشها المتفرج. وسوف أجادل بأن وهذه المبادئ، سوف تأتي بفينومينولوجيا المسرح إلى اللحظة المعاصرة وتجنب المزالق المرتبطة بالخطاب الاختزالي الوضعي الجوهري .
مخاطر الجوهر:
مهما كانت الكفاءة التي ربما تصنعها الفينومينولوجيا فيما يتعلق بالجوهر، فإنها تزعم الوصول إليه، ولا يمكنها أن تهرب الصفاء البلاغي والمثالية التي أسست مشروع هوسرل . ويقر هوسرل بأنه لا يمكن معرفة الموضوع الدنيوي بنفس دقة البديهية الهندسية، ومع ذلك فان حثه علي الاقتراب من الأشياء نفسها له آثار في المجال الاجتماعي . والمطالبة باختزال أي شيء إلى جوهره، لفهمه في تساميه لا يمكنه إلا أن تمارس العنف في مجال التفسيرات والتجارب التي تحيط بهم. وإذا قبلنا، مثلا، وصف رولان بارث لعيني جريتا جاربو ( تشابهها مع شابلن, الغطاء النباتي الداكن ) كلمحة لجوهر تلك الصورة و وإذا علقنا مخاوفنا فيما يتعلق بالتصفية المركبة والتشوهات التي ترتكبها اللغة أثناء نقل الصورة من مقال بارث إلى ستاتس، وما إلى ذلك، فسوف نتنازل عن مجموعة القراءات والتجارب البديلة لتلك الصورة . وحتمية فهم الاختلاف الذاتي للشيء، والإنسان، أو الثقافة له عواقب سياسية . وكما يشرح دريدا في مائدة فيلانوفا المستديرة، فان تأثير الاختلاف يبتعد تماما عن التأثير العدمي ؛ انه مدفوع بالباعث الديمقراطي :
هوية الثقافة هي وسيلة الوجود المختلف عن ذاته ؛ فالثقافة مختلفة
عـن ذاتهـا ؛ والشخـص مختلـف عن ذاتـه . وبمجـرد أن نأخـذ في اعتبارنا هذا الاختلاف الداخلي والآخر، وعندئذ ننتبـه إلى الآخــر ونفهـم أن القتـال من أجـل هويتنا ليـس مقصورا على هويـة الآخر ومفتوح علي هوية أخرى. وهذا يمنع الشمولية والقومية والتمركز العرقي وما إلى ذلك.
تفكيك موضوع الأداء، علي الرغم من أنه منحدر من الاختزال الفينومينولوجي يعمل علي اختزال اختزالية هذا الاختزال. انه يقر لعب الذات والموضوع في منشأ اللغة نفسها. ويحميه من ميتافيزيقا موضوع الأداء التي لا أساس لها من الصحة. وكما يقول جون كابوتو، انه يحافظ علي انفتاحنا علي الغموض .
تجاوز الاختزال الفينومينولوجي:
يُنظر إلى هوسرل على أنه رائد المشروع الفينومينولوجي كما نفهمه اليوم، ولكن أسس هذا المشروع قد أعيدت صياغتها علي النحو المنصوص عليه في فكر هوسرل وتم البناء علها من جانب الكثير من المحاورين . وقد تناول هيدجر وميرلوبونتي وبول ريكور، من بين آخرين، البحوث الفينومينولوجية في مجال الفن والإدراك والسرد، وموضوعات أخرى. ويجب أن نلاحظ أن النقد الفيومينولوجي في المسرح والأداء قد تبنى رؤى هؤلاء المفكرين أيضا، وتجنب، في بعض الحالات، مشكلات الاختزال المنسوب إلى هوسرل أو تعديل الاختزال لكي يكون أقل جوهرية. علاوة علي ذلك، فقد استخدم نقاد مثل ميشيل فوكوه وجوديث باتلر الاختزال المنسوب إلى هوسرل علي مستوى واضح في اتجاه تحليل المعرفة التاريخية وتشكيلات الأداء الاجتماعي. في هذه المشروعات، يتلاشى تدريجيا اختزال الوعي من أجل لقاء خالص الشيء . وقد أوضحت النظريات البنيوية أن اللغة بعيدا عن أنها وسيط شفاف يمكن من خلالها أن تتضح الموضوعات الترانسندنتالية وتوصف. فمشاكل اللغة، التي صاغها دريدا وآخرين, قد أزعجت الصيغة الفينومينولوجية المنسوبة إلى هوسرل .
ونتيجة لذلك، ينبغي أن تعترف تطبيقات هوسرل علي دراسة المسرح والأداء بحدود الاختزال باعتبار أنه مفهوم أصلا . فقد أثقلت مفارقات اللغة في منهج هوسرل الادعاءات حول جوهر الأداء أو موضوعات معينة في الأداء . وسوف تستمر الفينومينولوجيا في شغل مكان مهم في دراسات المسرح والأداء، ولاسيما أن العلماء يدركون أهمية علم الأعصاب الإدراكي في مشروع الفينومينولوجيا الذي يوضح حدود وملامح الإدراك . ويفهم ميرلو بونتي الآلية البشرية العصبية كأحد مصطلحات معادلة التجربة البشرية الواعية شديدة التعقيد، وتثير التطورات الأخيرة في علوم الأعصاب آفاقا مهمة في الدراسات التفصيلية في فينومينولوجيا المسرح المستنيرة بفهم العقل وتعاونه مع الحواس والجسم . وهناك إمكانية كبيرة لبحوث أداء حول الوعي العقلي الفينومينولوجي من خلال تلك الصيغ لا تستورد بسذاجة الاختزال المنسوب إلى هوسرل من أجل الوصول إلى جوهر بعض جوانب الأداء . ومع استمرار تعديل مشروع هوسرل وتحديثه، سوف تظهر وجهات نظر جديدة حول علاقة الوعي بموضوعات الأداء .
وسوف تكون فينومينولجيا هوسرل مهمة لدراسات المسرح كتركيب فكري له علاقة خاصة بالمسرح في التقاليد الغربية . فتأكيد هوسرل علي الحضور والمكانة والخاصة للرؤية في منهجه الفينومينولوجي، علاوة علي أن بنية الاختزال نفسه يتردد صداها مع أهمية الحضور في المسرح الغربي، وتطور النموذج المعماري الذي يمنح الأولوية للرؤية علي الحواس الأخرى، واختيار اختزال وظيفة مقدمة خشبة المسرح . وعندما يعلق دريدا في كتابه « الكلام والظاهرات» بأن الاختزال الفينومينولوجي هو مشهد وخشبة مسرح، فانه يربط مجازيا بنية صيغة الوعي المشروطة والمربوطة بلحظة تاريخية محددة بالشكل المفاهيمي/ المعماري للمسرح الغربي . إذ يعتمد كلا البناءان علي توجه العقل الواعي نحو شيء محدد، وكلاهما يعزز صمت ذلك الذي يحيط موضوع الاهتمام هذا، وكلاهما يجعل الحضور هو معايير دمج الشيء . وفضلا عن معالجة فينومينولوجيا هوسرل باعتبارها المنهج الذي يمكن أن ينفي تطبيقه تدخل وعي الحياة الدنيوية لتوضيح خصائص العالم الترانسندنتالية، ربما يحلل علماء المسرح الفينومينولوجيا باعتبارها الموضوع الذهني الذي يرقى محتواه الايجابي إلى إرشادات لصيغة غريبة للوعي ، والصيغة التي تشبه بنيتها الحدث المسرحي الغربي نفسه .
.....................................................................................
•بانيل كامب يعمل أستاذا بجامعة براون بولاية ترينتي بالولايات التحدة .
•هذه المقالة نشرت في Journal of Dramatic theory and Criticism, Fall 2004 .