فينومينولوجيا الصوت في المسرح (1)

فينومينولوجيا الصوت في المسرح (1)

العدد 790 صدر بتاريخ 17أكتوبر2022

 ماذا يعني الإعداد للمسرح ؟ وهل هو، تماشيا مع تاريخ الفن المسرحي، تقنيا خالصا وفي خدمة المسرحية نفسها ؟ وهل يقتصر علي وظيفة غير وظيفته ؟ .
 يؤكد ألان باديو Alain Badiou أن المسرح هو “ مجموعة من المكونات المادية والفكرية شديدة التباين، والتي يكمن وجودها الوحيد في الأداء والتمثيل المسرحي“. وهناك تحديات فورية تقدمها عناصر الإعداد في المسرح – الملابس والديكورات والإضاءة والصوت وتصميم الرقصات وما الى ذلك – والتي تسبق بالضرورة العرض علي الجمهور . وبالطبع يسبق قصد الأداء الاتصال مع الجمهور، مع فراغ مسرحي وإعداد : كل متطلبات هذا القصد هو الفهم العميق الذي يمكن أن تشارك فيه العاطفة ( الخائف الذي يتلو التراتيل يشارك بأصوات الراحة والحنو والأمل، والشباب الذين يقفون خارج النوادي الليلية وهم يتشاركون في الجرأة والتهديد) . ومع ذلك، فنحن الذين نؤدي والذين نشاهد نستحضر لحظة زمنية من عالم لم يسبق أن فكرنا فيه من قبل. ولكي نفعل ذلك، فإننا نعتمد علي  ما نعرفه فعلا، ألا وهو خبتنا المتراكمة، ونعتمد علي ما نشاهده، ألا وهو وجودنا في العالم في هذه اللحظة الدقيقة وعاطفة الآخر التي نشاركها معه، ونعتمد علي ما نتخيله، ألا وهو توقعنا للمسار التي نتخذه للوصول إلى ذروة هذه المشاهدة، وفهمنا لها بأثر رجعي في الروايات التي ننتجها لأنفسنا .
يقول هيدجر: “يجب أن نستدل علي ماهية الفن من العمل الفني . فماهية الفن هي ما نصل إلى معرفته من جوهر الفن“ . وبدون أن نسمي دورهما صراحة في هذه العلاقة، نفهم أن الفنان، في نفس الوقت، هو مصدر هذا الفن الذي يسميه هيدجر، والقناة الموصلة إليه . الفنان يفكر في وجودهما ذاتهما في العالم والتفكير في وجودهما في العالم بهذه الطريقة التي تجعل التفكير نفسه معطى للآخر : الفن لا  يشير الى الجمهور أو يتخيله أو يطلبه . وبدون الجمهور لن يوجد الفن ببساطة . وتتزامن نشأة العمل الفني في داخل الفنان مع نشأة الفنان في العمل الفني، وكلاهما متلازمان داخل الفن نفسه . يبدو هذا التعريف الدائري للمصطلحات الثلاثة غير منطقي، كما يعترف هيدجر نفسه . وشرح هيدجر للعمل الفني يلاءم بدقة عمل الإعداد : العمل الفني بالتأكيد هو الشيء الذي يُصنع، ولكنه يقول شيئا مغايرا لماهية الشيء فقط، يشتريه آخر . العمل الفني يجعـل الجمهور مغايرا لذاته، ويظهر شيئـا آخـر؛ انه مجـاز . في العمل الفني يتم ضم شيئا آخر مع الشيء الذي يُصنع .... العمل الفني رمز .
ربما كان الاعتماد المكثف علي الخبرة مقيدا بسياق العمل الفني الذي سيتم تنفيذه، ولكن من الصعب الموافقة علي موقف براسويل الذي يقول إن “ المعد designer كفنان ليس حرا في الدخول إلى حالة من الإدراك المشترك مع أي مجموعة احتمالات في المكان والزمان“. وقد ساد الموقف القائل إن الإعداد المسرحي يعمل كميسر تقني لاحتياجات العرض المسرحي في ثمانينيات القرن الماضي، وهي حالة عاطفية ينسبها روس براون Ross Brown إلى وجهة نظر مفادها أن “ التقني يمكن أن يتبرأ من الفشل ويظل راضيا أن الفنيين قد أدوا عملهم جيدا“. وهذا يعني أن نميل بعيدا عما يعتبره هيدجر “ رؤية فجة وخارجية “ للعمل الفني، لكي يلتزم بشكل وثيق جدا بطبيعته الشيئية أو تجهيزاته . بمعنى أن النظر إلى فعل الإعداد علي أنه في خدمة العرض المسرحي نفسه يعني أنه ينشأ من العمل الفني نفسه .  
 وهذه المقالة هي محاولة لاستخراج تعقيدات الإعداد المسرحي من صلته بتجربة الأداء من خلال الجمهور . ومنهجها فينومينولوجي ويتعلق بالقدرات المعقدة التي يجب أن يحملها العمل الفني في تجربتنا مع العالم وينقل المعنى : ليس فقط ماهية المعنى، ولكن كيف يتشكل هذا المعنى وكيف يخلق استمرارية الفهم بين المبدع والجمهور الذي يتجاوز الفصل بين الفضاء المادي والزمن التاريخي .
 ينبع التركيز الخاص هنا من ممارستي الفنية الخاصة كمصمم صوت في المسرح الاحترافي المستقل – بالإشارة إلى الأداء والتقنيات والإعداد، وأعود أولا إلى هذا السياق ثم التعميم باتجاه الخارج . ففي أنواع العروض التي تشكل ممارستي المهنية، هناك قيود شكلية معينة – في التوظيف الاحترافي، وفترات التدريبات، وعناصر المسرح التقنية مثل معدات الإضاءة والصوت ، والإعداد السينوغرافي، وإدارة خشبة المسرح ،والجمهور الذي يتجمع في مكان وزمان محدد لمشاهدة نتيجة عمل العديد من الفنانين والمحترفين .
بعض المشكلات في الفينومينولوجيا :  
     أنا في حياتي المهنية مصمم صوت للمسرح . ومهمتي هي أن أجلب إلى الوجود نسقا من العناصر السمعية ذات المغزى، لا أكثر ولا أقل، لاستكمال فهم نص أو عرض بعينه . ومع معرفة وخبرة وجودي في العالم يجب أن أدعو الآخر إلى الوجود، ويجب أن أتخيل أن أعمالي الصوتية تنجح في صناعة المعنى، وأن تكون مفهومة للآخر الذي هو مثلي جزء من جماعة أولئك الذين يسمعون . والعملية الإبداعية التي أسميها “ الإعداد design “ هي ذلك التخيل، إنها إنتاج للمعنى داخل معايير محددة ( مسرحية، عمل مبتكر، أداء للرقص، تركيب، وما إلى ذلك ) .
     وهذه محاولة لبحث العملية، وتعريف عملية الإعداد باعتبارها عملية فينومينولوجية، كتسامي ذاتي مشترك بين الممثل والمخرج والجمهور كمستمعين أفراد – حضور المستمع والمسموع  من أجل شرح نظرية مايك بيرسون Mike Pearson . يطور مايك بيرسون نظرية الأداء باعتبارها خبرة ترتكز علي سرديات متباينة  ينتجها صنفين من المشاركين :
1- سرديات المشاهدين Narratives of the watchers – المعجبين / المتعاطفين  ( المصبوغين بالتوقع والذاكرة والتاريخ )، الذين يحضرون لأول مرة ( المتطرفين الذين لا يصدقون )، والأجانب ( الذين يفهمون مختلف ترتيبات المعنى الدلالي ) . وبالطبع أولئك النقاد الذين يتناولون النص مثل التحقيق الصحفي والمقالة والأطروحة .
2- سرديات الشيء المشاهد Narratives of the watched – المذكرات ودفاتر الملاحظات والوثائق الإستراتيجية ( مثل النصوص الموازية التي تظهر فيها جميع عناصر العرض علي خشبة المسرح لحظة بلحظة الخ . وتوجد أيضا كحلقة ونصوص من الثقافة الشفهية واللغة العامية واللهجة والكلمات المشفرة : فولكلور الممارسات، والبناء الحر للاعتقاد المشترك .
 تضع صياغة بيرسون تصنيفات السرد الواسعة هذه باعتبار أنها متكافئة وملائمة . ولا يمكننا أن نمنح الأولوية للمبدع أو المشاهد، فالسرديات الناتجة منتجات مصنوعة في حد ذاتها . وليس من قبيل الدقة الاحتفاظ بالتعريف الذي يتعلق بتصنيف الكينونات التي تمارس إصدار الصوت، ولكن هناك نوعا معينا من الانفصال في الإشارة إلى أولئك الذين يصدرون الأصوات وأولئك الذين يسمعون في الإطار الذي نشأ بشكل راسخ في المرئي مثل “ المشاهد “ والشيء المُشاهد” .
 ولا ينبغي أن نوحي هذا بأن تصنيفات “ السامع “ و”المسموع “ مثقلة علي نحو ما . ولا أزعم أن الصمم يعطل – ومستحيل أن يعطل – العلاقة الأساسية التي تربط الإنسان بالصوت . لأن ما نسميه “ الصوت “  أولا هو ظاهرة من ظواهر العالم المادي : “حركة موجة في الهواء أو في وسيط ( أو مؤثر ) مرن، وثانيا ظاهرة من ظواهر الجسم المادي، “ إثارة آلية السمع التي تكمن في الوعي بالصوت ( الإحساس به ) .
 يجب أن نضيف لتفسير هذا المهندس بعدا نفسيا وفلسفيا: الصوت (كمنبه) هو ذلك المتاح أن نسمعه (كإحساس) والذي نسمعه (كتجربة) . العلاقة مع الصوت ليست علاقة مع الإدراك السمعي – فالجمهور في نظام صوت الريجي سيكون علي دراية نغمات الباس ( نغمات الجهير) التي يتردد صداها في أجسامهم كمظهر مادي للصوت كمنبه . ففي هذا التصور الجسدي للصوت أقل مستوى صوت للموصلات الذهبية، وتجربة الكابلات المتميزة وسماعات إلغاء الضوضاء وسماعات الهاي فاي؟ وإذا قبلنا أن الصوت له قدرة مادية لكي يتردد صداه في الجسم علي نطاق قنوات أوسع، وفي أغشية الأذن وعظامها ؛ فالسمع هو قدرة الجسم نفسه وليس وظيفة عضو إدراك واحد، وأن الاستماع هو تلك العملية التفسيرية التي تحدث بمجرد حدوث الصوت والسمع وليس امتداد معين للسماح للأصم بعلاقة مستقلة خاصة بالظواهر المادية للصوت . وتشير سالومي فوجيلين Salome   Voegelinالى هذا الجسم الذي يسمع بأنه “ جسم جمالي “ حساس للمادة الصوتية التي هي في بؤرة فلسفة فن الصوت . ولتركيز ذلك في حكاية عملية، لقد شاركت كمهندس صوت في عرض “ ليلة منوعات Variety Night “ في مهرجان “ فن ليلة الاختلاف Art of Difference Night “ في ستوديو (1) في قاعة مدينة نورث كورت . تم التشاور وعمل بروفات مع طاقم المكان وطاقم التقنيات . وقد استخدمت فرقة « الصم يمكنهم الرقص The Deaf Can Dance “ التي يتمتع أعضاءها بأشكال مختلفة من حدة الصمم، المسار الصوتي بنفس الطريقة التي يستخدمها الفنانين الذين يتمتعون بحاسة السمع – مطالبين بتعديلات علي النغمات العالية والمتوسطة والمنخفضة والمستويات والتوقيت . ويضم مجتمع أولئك الذين يسمعون هؤلاء الفنانين الصم الذين تتح لهم تجربة الصوت . وكما يجادل ميشيل فريندر وستيفان هيلمريش، فان مفاهيم “ يعمل السمع والبصر والنظر كأنواع مثالية، مما يقلل من التواصل بين القدرات الحسية ومعها“. ويضيفا بأنه “ قد يتراجع علماء الدراسات الصوتية عن المفاهيم السمعية للموسيقى من خلال توسيع معنى وجود علم الصوت (تتوسع الطريقة الصوتية للمعرفة والوجود في العالم ) إلى ما هو أبعد من التعريف المحدود للسمعي . تنشئ نانسي هذه التعددية باعتبارها دوي للذات في ذاته :
 الذات تشعر : وهذه هي خصائصها وتعريفهـا . وهـذا يعني أنها تسمع (نفسها) وترى (نفسها) وتلمس (نفسها)، وتتذوق (نفسها) الخ، وتفكـر في نفسـها أو تمثل نفسـها، وتضاهـي نفسها وتتوه من نفسها، وبالتالي تحس بنفسها “كذات” تهـرب أو تختفي مادام يتردد صداها في مكان آخر كما تفعل في ذاتها في العالم وفي الآخر .
الذات التي تكتب نانسي عنها ليست متضمنة فقط في عالمها التجريبي، ولكنها متواطئة في بناءهم لها من أجل أنفسهم كفهم لإمكانية تلك التجربة في الآخر . ترشح نانسي الذات “ الرنانة “، لأن كل من ذات وموضوع حركة الاستماع للأمام والى الخلف قد تكون مصنوعة . وهذا يحدث لأن ذات وموضوع الاستماع يشتركان في سمات أساسية – “ الشكل أو البنية أو الحركة“. واستمرارية أولئك الذين يسمعون هي جماعة أولئك الذين يفهمون فعل السمع في الآخر .
 وهذا يؤدي بوضوح إلى المعضلة الثانية في تناولي الفينومينولوجي : بتعريف جماعة أولئك الذين يسمعون علي نطاق واسع، هل هناك خطر في تعميم أو إضفاء الطابع الجوهري علي مجموعة واسعة من تجربة الإنسان وفهمها ؟ وكشخص يسمع، هل أقلل من مغزى تجربة عدم السمع ؟ وباستدعاء نظام صوت الراجي، آنفا، هل أشارك في نزعة قومية جديدة أو مشحون عنصريا تجاه الموسيقى والثقافة الأفروكاريبية ؟ الإجابة هي أنه لا يمكنني التحدث عن أي تجربة غير تجربتي، ولكني أواجه تجربة آخر . ويشير هوسرل إلى ذلك بأنه “ المجال الترانسندتنالي لذاتي “، من حيث أن ذاتيتي الخاصة تواجه الآخر بالضرورة في عالم تجربتي، وبالتالي فأنا مضطر لدمج فهم ذلك الآخر – وأن ذلك الآخر موجود في العالم . وبكتابة هذه الكلمات، يجب أن أكون قادرا علي فهم – وتخيل – أن هناك في عالم تجربتي وجود قادر علي قراءة – أو سماع – نثري ومنه أحل لغز المعني ( وان لم يكن بالضرورة المعنى الذي أقصده ) . وبالعودة إلى الأمثلة التي قدمها فرايدنر وهيلمريش، يمكننا أن نستنج أن الاستماع ممكنا وأن الأصوات لها معنى من خلال الاهتمام بالطرق التي يمكن للصم أن يسمعوا بها الأصوات في غياب الآليات التي يملكها من يتمتعون بحاسة السمع :
 كثيرا ما تقال نكتة عن الزوجين الأصمين اللذين يقضيان              شهر العسل في أحد الفنادق . يخرج الزوج الى السـيارة              لتـلقي شيء، وعندئذ يدرك أنه لا يتذكـر رقـم غرفتـه .
 ويفكر للحظة وعندئذ  يميل إلى البوق، ويطــلق رمـزا .
 في النهاية تضاء كل أنوار الغرف في الفندق الا واحدة  وهذه بالطبع الغرفة التي تنتظره فيها زوجته الجديدة .
وهذا يرجع الى أن هذه الخاصية الشاملة للصوت باعتباره ذا مغزى مع وجود آخر أو بدونه هي التي تقودني الى استكشاف الصوت كوسيط قادر علي نقل الحقيقة، أي كمعنى فاعل علي مستوى التجربة أو الوجود .  
 وكما أشار ميرلوبونتي، فان هذه الفينومينولوجيا مبنية بالكامل علي الإنساني والتجريبي : “ يمكن لكل شخص أن يصدق أن ما يدركه هو الحقيقي فقط، ولكن في نفس الوقت، لا أحد يعتقد أو يفكر دون أن يكون مرتبطا بالفعل في علاقة معينة مع آخر .
 إن التطابق الفينومينولوجي مع الآخر السامع والمسموع يعني ضمنا وجود معية تتجاوز الوجود المادي للآخر . علي سبيل المثال، تكمن قابلية تفسير الصوت في أننا قادرون علي الاستماع الى تسجيل واستنتاج وتخيل الكائن الذي ًدر هذا الصوت، لاستنباط المعنى والمتعة والخبرة من مثل هذا التسجيل. وهذا يعني أن هناك علاقات معينة مع الآخرين، وهي علاقات أساسية لتفكيرنا، ما تزال موجودة وموظفة بدون حضور أولئك الآخرين في نفس المكان .
 وهذا بسبب خاصية الصوت الشاملة ذات المغزى التي تقودني، في حضور الآخر أو دون حضوره، عبر استكشاف الصوت كوسيط قادر علي نقل الحقيقة – أي، المعنى الفعال علي مستوى التجربة أو الوجود كما هو موضح فيما بعد .
غزوة إلى الحقيقة :
 يستند فهمي للعلم – أو أي جزء من المسعى العظيم للمعرفة الانسانية – علي وجودي وعلي وجودي مع هذا الفهم للعالم، المكتمل بشكل أو بآخر والمتضمن في ذاته بشكل أو بآخر . وهذا يعني أننا يجب أن نكون حذرين من أي مقولة تتعهد بتصوير العالم كما هو فعلا . ويجب أن نكون حذرين من الحقيقة ومن الواقع – إذ يجب أن نحدد تعريفاتهم، بشكل سليم، في مفهومنا للفينومينولوجيا، لكي تعمل . فالحقيقة تنتمي إلى التجريبي والوظيفي والقابل للدحض . الحقيقة هي أن سرعة الضوء 299792458 متر في الثانية . وهذه الحقيقة تعمل عبر مجالات السعي الإنساني، وفي قلب تقنياتنا واتصالاتنا وتفاعلاتنا اليومية . وهي حقيقية حتى لو لم نلاحظها . فالحقائق غير مؤثرة –  لون غروب الشمس في غرب ملبورن هو وظيفة ضوء الشمس الذي يصفيه الضباب الدخاني العالق في مدينة في القرن الحادي والعشرين . والحقيقة أنه ربما يستدعي حزنا طويلا علي صديق غائب .
 وموقف باديو فيما يتعلق بالفن ( ولاسيما المسرح) هو موقف مثمر هنا، ويمكن قراءة الاقتباس المذكور في كتابه “ نشرة اللا جماليات The Handbook of Inaesthetics “ كالتالي :
 من خلال اللاجماليات أفهم علاقة الفلسفة بالفن، التي تؤكد أن الفـن نفسـه منتـج للحقائق، ولا تدعي تحويل الفـن الى موضوع للفلسفة . وتصف التأملات الجمالية المضادة واللاجماليـات التأثيـرات الفلسـفية الصارمـة الناتجـة عـن الوجود المستقل لبعض الأعمال الفنية .
من خلال استبعاد الفن بشكل فعال من التأملات الفلسفية، يتجاهل باديو بدقة انتقادات الأصالة والخطر التي استمرت منذ أفلاطون بينما سمحت بدور لها كمولد للحقيقة. “وهذا لأن غاية الفن ليست في الحقيقة على الإطلاق. فالفن ليس هو الحقيقة بالطبع، ولكنه لا يدعي أنه حقيقة وبالتالي فهو برئ .
الفن بحد ذاته هو إجراء للحقيقة. أو مرة أخرى: يندرج التعريف الفلسفي للفنون تحت تصنيف الحقيقة. الفن هو الفكر الذي تكون فيها الأعمال الفنية هي الحقيقة (وليس التأثير ) . وهذا الفكر، أو بالأحرى الحقائـق التي تفعّله غير قابلة للاخـتزال الى حقائـق أخـرى –  سـواء كانت حقائق علمية أو سياسية أو عاطفية. وهـذا أيضـا يعني  أن الفـن، كنظـام فكـري فريد،  لا يمكـن اخـتزاله الى فلسفة .
اذن ينسب باديو دورا معينا متجاوزا لفعل صناعة الأداء، علي الأقل كما يوجد في المسرح . وهو دور فريد في الفن باعتباره تجميع لمكونات متباينة هدفها الوحيد يتحقق في فعل التمثيل المسرحي . ولهذا السبب، يرى باديو المسرح حدثا للفعل الذي لا يعرقل بتكراره ليلة بعد أخرى حقيقة أن الأداء في كل مرة محدث eventual، أي فريد . والمسرح، بسبب تفرده المحدث، قادر على إنتاج الأفكار مباشرة : ولأن الحقيقة الفلسفية لها صفة الحدث، فان المسرح يلعب دورا رئيسيا في صياغتها .  
 يقترح باديو أن المسرح يوجد في مواجهة الفكرة من جانب الجمهور. أي بالرغم من تشكيل الجمهور، وبالرغم من أن هذا الجمهور موجود في ذلك المكان في لحظة الأداء، فان الشيء الذي يحدث هو مابين المكان الذي يوجد فيه المشاهدون والشيء الذي تتم مشاهدته، وتلاقيهم معا وتقاربهم وانتباههم اليه . فنحن نفهم لحظة الأداء علي أنها مشاركة في معنى وفهم ما يحدث المشاهدين وما يشاهدونه، ظهور السرد الى حيز الوجود . ويجب علينا أن نميزها علي أنها طرق منفصلة للحكي : ليست طرق حكي فريدة ومتتابعة خطوة تلو أخرى ولحظة لحظة ... لكي تغطي جميع ترتيبات المعلومات المتولدة بواسطة الأداء ومن حوله .
 وسردياتنا عن الأداء هي سرديات إنسانية، انها ذاكرة وتقاليد واعتياد وطموح وقصد وفهم وحواز وعصاب. وتمزج الحقيقي (المعلومات القابلة للتحقق والأدلة والمواد الخام غير المنقولة) والقصصي (المشروط والتجريبي والمبتكر والمعد) . والشيء الأهم، رغم ذلك، فان هذه السرديات توجد قبل وبعد لحظة الأداء – بينما الأداء نفسه هو الشيء الذي يحدث دائما . الأداء هو الشيء غير المتوقع الذي يولده المشاهدون وما يشاهدونه في استكمال جزئي لفكرة المسرح الحقيقية والخيالية في الذاكرة وف المستقبل المتخيل .
 ماذا يعني هذا الوضع للأداء باعتباره متزامن في الذاكرة والتخيل ؟ يتكشف بالتأكيد الشيء الذي يتم أداؤه، أعني لحظة الأداء التي تشاهدها هذه الذات أو يجسدها هذا الآخر في لحظة أدائها، فكيف يمكن أن توجد في الماضي والمستقبل أيضا؟ .
..............................................................................
كريستوفر وين: باحث ومعد صوت في مجال المسرح والأداء المعاصر ويعمل أستاذا بجامعة ملبورن باستراليا .
هذا المقال هو الفصل الثالث عشر من كتاب «فينومينولوجيا الأداء: نحو الشيء ذاته Performnce Phenomenology :To The Thing Itself”
إعداد: ستيورارت جرانت – جودي ماكنيللي رينودي – ماثيو واجنر، والصادر عن Palgrave Macmillan 2019 


ترجمة أحمد عبد الفتاح