أثر عروض فرقة يوسف وهبي في النقد المسرحي في مصر (3)

أثر عروض فرقة يوسف وهبي في النقد المسرحي في مصر (3)

العدد 639 صدر بتاريخ 25نوفمبر2019

في المقالة الرابعة، تقدم أسلوب الناقد محمد عبد المجيد حلمي في نقده؛ حيث نشرت جريدة كوكب الشرق مقالة له في جزأين يومي 3 و4 ديسمبر 1924، عن مسرحية اللزقة، وهذا يُعدّ تطوراً في مجال الكم. أما في مجال الكيف، فقد أضاف الناقد إلى أسلوبه المتبع، بداية نقدية لفكرة الموضوع، قبل أن يبدأ في نقد العرض وتحليله؛ حيث تحدث عن اعتماد العرض على شخصيات غريبة ومتباينة، نتج عن احتكاكها مواقف تمثيلية لم نتعود رؤيتها. وقد أسهب الناقد في تفسير هذه الفكرة، وضرب أمثلة تفصيلية لمجموعة من شخصيات المسرحية. ثم تعرض الناقد إلى نقطة مهمة، تتعلق بترجمة المسرحية؛ بوصفها قطعة أدبية، قائلاً:
« ... إن الرواية كقطعة في الأدب، لا تساوي شيئاً، ولا أطلب أن تكون الرواية أدبية محضة؛ ولكنها تُرجمت بلغة لا هي بالعربية الفصحى السهلة، ولا بالعامية الدارجة «المبلوعة»!! فهي خليط ثقيل من معان عامية، وكلمات عربية، وتراكيب فرنسية». ومن الأمور المستحدثة في أسلوب الناقد، حديثه عن الإخراج؛ دون ذكر كلمة الإخراج صراحة، بل وضع لها عنواناً آخر، وهو النظام المسرحي!! كذلك تحدث – ولأول مرة – عن الإضاءة، دون أن يذكرها صراحة، بل ذكر عبارة نظام النور، قائلاً: « أما نظام النور فكان مؤلماً في الليلة الأولى، وأقل إيلاماً في الثانية. فترى النور ضعيفاً ثم يشتد ويشتد، ويقوى، ثم يضعف تدريجياً أو فجأة وبلا مناسبة».
وبهذا الأسلوب سار الناقد في كتاباته حول عروض مسرح رمسيس، مثل: القناع الأزرق، والتاج، والجاه المزيف. أما التغيير الملموس، فقد ظهر في مقالته النقدية لمسرحية الفضيحة – التي نشرتها جريدة كوكب الشرق في جزأين يومي 13 و14 يناير 1925 – وتمثل هذا التغيير في كتابة الناقد لمقدمة فكرية حول أسلوب المؤلف الفرنسي هنري باتاي، أبان فيها أن باتاي كاتب شديد العبث بعواطف الجمهور، وهو الأمر المناسب لجمهور المسرح المصري، الذي يميل إلى تغذية العقل والشعور، مع تلقي العبرة والموعظة. وهذا الأمر كرره الناقد عندما كتب عن مسرحية الذئاب – التي عرضتها فرقة رمسيس، وهي من تأليف هنري باتاي أيضاً؛ حيث بدأ الناقد مقالته، قائلاً:
«... لست في حاجة إلى أن أحدثك عن هنري باتاي. فقد قصصت عليك من أمره الشيء الكثير في رواية الفضيحة؛ ولكن لا بد لي أن أسلك بك ضرباً جديداً من التحليل، لنفهم نفسية هنري باتاي حين كتب رواية الذئاب: أو الامتلاك كما سماها هو، وإلى أية غاية قصد من وضعها. في الغالب لا يقصد الرجل شيئاً معيناً من كتابته، ولا يرمي إلى نتيجة يعظك بها فتعتبر، وإنما هو يسوقك معه عابثاً متلهباً، فيسرد عليك وقائع، ويقص حوادث، وما زال يسحبك وراءه، وأنت في شغل عنه بصناعته، حتى يقطع عليك السياق فجأة، وأنت لم تصل بعد إلى شيء بعينه، وإذ ذاك يكون عمله انتهى وبدأ عملك».
وفي أكتوبر 1925، كتب محمد عبد المجيد حلمي مقالة نقدية، حول عرض مسرحية الطاغية، نشرتها جريدة كوكب الشرق في ثلاثة أجزاء – لأول مرة – سار فيها كما هو متبع في أسلوبه من حيث المقدمة الفكرية، وملخص لأحداث المسرحية، ثم الحديث عن التنظيم المسرحي – أي الإخراج – وعن المناظر – أي الديكور – ثم عن التمثيل. والجديد في هذه المقالة، أن الناقد تعرض إلى الملابس والمكياج – لأول مرة – مبيناً أن بعض الملابس، لا تناسب عصر لويس الحادي عشر، وأن أحذية الممثلين، كانت خليطاً من جميع العصور!! أما عن المكياج، فقد ذكره ضمن تعليقه على تمثيل أحد الممثلين، قائلاً: «حسن البارودي: مثّل دور جويدو، وهو مغرم دائماً بإبراز حدة العواطف والتهيج والاندفاع بلا مناسبة، والذي يراه في دور الأمس، وهو كما وضع مكياجه شيخ مضمحل؛ ولكن تمثيله كان يدل على الفتوة والشباب فأيهما أصح؟! التمثيل أم المكياج؟!».
آخر مقالة نقدية لمحمد عبد المجيد حلمي، يُمكن الوقوف عندها – لما فيها من جديد في أسلوبه النقدي – هي مقالته عن عرض مسرحية الذبائح، التي نشرتها جريدة كوكب الشرق في جزأين – أكتوبر 1926 - حيث إنها تمثل التطور النقدي، في أسلوب كتابته عن التمثيل. والمثال النموذجي في هذه المقالة، كان من حظ أمينة رزق، التي أبدعت لأول مرة في التمثيل المسرحي، وكان دورها في مسرحية الذبائح، بداية طريقها إلى النجومية. وحول دور أمينة رزق، قال الناقد:
« ... أمينة رزق، كانت بطلة الليلة ولا شك، وهي التي كسبت رضاء الجمهور واستحسانه، واستحقت تقديره وشكرانه! مثلت دور ليلي، فكانت حقاً ممثلة قديرة إلى حد لا يتصوره من يراها، في جسمها النحيف، وفي حيائها الشديد، وفي طفولتها الساذجة .. بلا تكلف، كانت تخطر فوق المسرح، وبلا تكلف كانت تلقي جملها متماسكة رنانة قوية المخرج، قوية الوقع، قوية التأثير... وكان يتقبلها الجمهور فيريد أن يهتف لها وأن يصفق طويلاً؛ ولكن الأسي الغالب يقعده، والألم الشديد يسكنه، والعين الغارقة في دموعها، تنهنه من غرب ثورته النفسية !! هذه فتاة ظهرت بغتة في عالم المسرح، وسارت في الموسم الماضي بخطوات سريعة حتى إذا ما جاء آخر الموسم، كانت نجماً متألقاً في مسرح رمسيس. وها هي الآن تبرهن من جديد على أنها أحق ممثلة بالتشجيع والعناية والاهتمام. كانت طفلة تلهو وتعبث، فإذا هي مثال الطفولة الغرة الضاحكة، وكانت فتاة تحب حباً طاهراً تكتمه في حنايا قلبها الصغير، فكانت أبدع مثال لحب الطفولة وترفها وسعادتها، ثم كانت فتاة دهمها الحادث الجلل فأذهب عقلها. وإذا في ثوبها الأسود وشعرها المنسدل. ومشيتها المجنونة ونغمتها الحنونة. أبرع ممثلة في مسرح رمسيس! وأنا أقسم أن هذا الدور لو أعطي لأية ممثلة أخري من المغترات المنتفخات، لما استطاعت أن تنجح فيه عُشر النجاح الذي حازته أمينه رزق. على أن المطلوب من مسرح رمسيس أن يبذل عنايته بهذه الصغيرة، فلا يدعها تُضيع موهبتها التمثيلية ولا يدع التعاليم الفاسدة تستولي على عقلها الصغير فتفسده».
ما سبق، يُمثل خصائص النقد في أسلوب محمد عبد المجيد حلمي، بالنسبة لعروض فرقة مسرح رمسيس، وهي الخصائص التي سار عليها في نقده لعروض بقية الفرق المسرحية الكبرى. وحتى لا نكرر ما سبق، سنتوقف عند بعض المقالات النقدية للفرق الأخرى، لما فيها من جديد أو مستحدث، يُميز أسلوب الناقد في نقده المسرحي.
فعلى سبيل المثال، وجدنا محمد عبد المجيد حلمي، يتحدث عن المناظر – أي الديكور – في عرض مسرحية الشرف الياباني لفرقة جورج أبيض، وقد ذكر اسم مصممه – وربما منفذه أيضاً - وهو منصور غانم، قائلاً في نوفمبر 1924: « ... أما المناظر، فقد أبدع الأستاذ منصور غانم في تنميتها، ووضعها على النسق الجذاب، الذي ظهر على المسرح بالأمس، فزاد الرواية فخامة على فخامة». كما تحدث عن المكياج في عرض مسرحية الطمبورة لفرقة علي الكسار وأمين صدقي؛ بوصفه فناً خاصاً، له متخصصون فيه، أمثال جبران نعوم، قائلاً، في أكتوبر 1925: « ... وهناك شيء جديد في مسرح الماجستيك يستلفت النظر، هو اتقان المكياج بشكل غير معهود من قبل. فقد استخدم المسرح لذلك فنياً خصصه للمكياج، هو جبران أفندي نعوم، الذي نبغ نبوغاً كبيراً في هذا العمل، يستحق من أجله الشكر».
ومن الأمور الجديدة، التي تعرض لها الناقد، اللغة المسرحية التي يلقيها الممثلون على خشبة المسرح، وفكرة المزج بين الفصحى والعامية، التي يُعتقد أنها اللغة الثالثة التي تحدث بها بعض المؤلفين المسرحيين في فترة الستينيات!! فها هنا نكتشف وجود محاولة متقدمة، قامت بها فرقة منيرة المهدية في عرض مسرحيتها الحيلة، أشار إليها الناقد، قائلاً – في أكتوبر 1925 - تحت عنوان (اللغة):
«... بديع أفندي خيري رجل معروف في عالم الأدب. أسلوبه سهل قوي متين، وطريقته في انتقاء الألفاظ ووصفها فريدة ممتازة، تنحدر في نغم موسيقي ساحر، ولم يمض عهد طويل بعد على رواية محمد علي باشا، وأظن أنني ذكرت ذلك في حينه. رواية الحيلة مكتوبة بلغة عربية فصحى؛ ولكن الإلقاء كان ينحدر من فوق المسرح بلغة عامية ركيكة لا يحسنها الممثلون. هذا ولا شك أسلوب جديد في الروايات المسرحية. ولو سألتني رأيي لقلت لك إنه أسلوب غير ناجح كثيراً، فإن جلال اللغة الفصحى، يضيع في اللهجة العامية. وخفة اللهجة العامية تضيع في ضخامة التراكيب العربية الفخمة. ولكن من المسئول عن هذا الأسلوب الجديد؟ أهو المؤلف بديع أفندي خيري، أم هي السيدة منيرة المهدية ومديروها؟! أما أنا فألقي المسئولية على الاثنين معا، إذ لم يحن الوقت بعد لتوحيد اللغتين ومزجهما تماما!!».
 
الناقد محمد علي حماد
هو الناقد الثاني من حيث عدد المقالات التي كتبت حول عروض فرقة رمسيس - وفقاً لمعايير عينة البحث، ووفقاً للفترة المحددة - حيث كتب (24) أربع وعشرين مقالة في جريدة البلاغ؛ بوصفه ناقدها الفني. وأول مسرحية تناولها بالنقد، كانت الطاغية بتاريخ 15/10/1925، وفيها وجه نقده إلى الإخراج – دون أن يذكر كلمة الإخراج صراحة – وعبر عنها بعبارة « تنسيق الرواية «، ووصفه بأنه لم يكن موفقاً، وجاء بأمثلة منها: أن نتائج الأحداث جاءت دون مقدمات منطقية لها، وكذلك الديالوج المُمل في الفصل الثالث، وأخيراً عدم حفظ بعض الممثلين لأدوارهم. وبالرغم من ذلك مدح الناقد مُعرّب المسرحية محمد أسعد لطفي بعبارات كثيرة، أختتمها بقوله: «إن رواية الطاغية من أنقى الروايات التي أخرجها مسرح رمسيس لغة وأسلوباً». أما رأيه في الممثلين، فجاء بصورة انطباعية سريعة، لأنه تحدث عن جميع الممثلين تقريباً.
أما مسرحية وراء الهيمالايا، فكانت الثانية، ونشر الناقد مقالته عنها في جريدة البلاغ بتاريخ 21/10/1925، وفيها وجدنا تطوراً في أسلوبه!! فقد علمنا فيما سبق، أن الناقد مدح محمد أسعد لطفي مُعرب مسرحية الطاغية؛ ولكنه هنا لم يكتف بالمدح، بل قام بمناقشة حق المُعرب - محمد أسعد لطفي نفسه - في تغيير الشخصية الرئيسية في النص الأجنبي!! فمسرحية وراء الهيمالايا من تأليف الإنجليزي وليم آرثر، وموضوعها يسيء إلى الشرق والشرقيين، فقام المعرب بتغيير الأحداث وإعادة رسم الشخصيات، من أجل عرض مسرحية تمجد الشرق والشرقيين. وهنا تساءل الناقد: «... هل أحسن يوسف بك وهبي، وأسعد أفندي لطفي صنعاً أم أساءا؟! وهل يملكان حق هذا التغيير والتحريف؟ أما هما فيدافعان بقولهما: إذا كان للغربي أن يهاجم الشرقيين بقحة وفظاظة، أليس من حق الشرقي أن يدافع عن نفسه وعن عشيرته؟ وهل فعلنا غير ذلك! ثم إننا استخدمنا نفس سلاحه فدافعنا به، وجعلنا من روايته بعد أن كانت حرباً على الشرقيين أصبحت برداً وسلاماً عليهم».
وهكذا بدأ الناقد يطور من أدواته وأفكاره النقدية - بكتاباته عن عروض فرقة رمسيس – في مقالتيه - المنشورتين بجريدة البلاغ في يومي 23 و27 أكتوبر 1925 - عن عرض مسرحية الذبائح، فنجده يناقش المؤلف في أدق تفاصيل مسرحيته - حيث إنها من أهم النصوص المسرحية المؤلفة في تلك الفترة – التي عالجت قضايا اجتماعية غير مطروقة من قبل مسرحياً، مثل: الطلاق، والزواج من الأجنبيات، وعلاقة الأبناء بزوجة الأب .. إلخ!!
أما مسرحية القاتل، فقد أرتقى الناقد بأسلوبه النقدي، عندما نقدها في مقالتين منشورتين – في جريدة البلاغ بتاريخ 30 أكتوبر، و14 نوفمبر 1925 – وفيهما، وجدناه – ولأول مرة – يأتي بمعلومات توثيقية عن مؤلفها الأجنبي، وعن تاريخه في الكتابة، وظروف تأليف المسرحية واقتباسها في أوروبا، وصولاً إلى تعريبها وعرضها في مصر قبل أن تعرضها فرقة رمسيس!! فمثلاً، عرّفنا الناقد أن المسرحية اسمها الأصلي الرجل الذي قتل، ومؤلفها هو كلود فارير، وألفها في صورة قصة، وقام بمسرحتها صديقه بيير فرونديه، ونالت شهرة كبيرة في فرنسا، وتحولت إلى فيلم سينمائي تم عرضه في مصر، وقام جورج أبيض بتمثيلها مسرحياً قبل يوسف وهبي .. إلخ. ولم يكتف الناقد بهذا التطور الملحوظ في أسلوبه النقدي، بل تطرق إلى ميزة جديدة في مقالاته، وهي الاقتباس من الصحف الأجنبية، من خلال ذكره لبعض أقوال النقاد المنشورة في الصحف الفرنسية، حول هذه المسرحية - عندما عُرضت في فرنسا - وفي ذلك يقول:
«... والآن أفي لك بوعدي فأنقل إليك آراء كبار النقاد في باريس على هذه القصة، وعلى طريقة اقتباسها للمسرح، فكلهم بلا استثناء معجبون بها وبتنسيقها المسرحي كل الإعجاب. ويجمعون أيضاً على أن الفصلين الأول والثاني إنما جعلا كتوطئة للرواية، ولتقديم أشخاصها إلى الجمهور. وإن كان الكاتب المسرحي قد توخى أن يختمها ختاماً مسرحياً قوياً. وأخذ ناقدا (الفيجارو والبتي بارزيان) على المقتبس حريته في التصرف وحذفه بعض التفصيلات؛ ولكنهما يغتفران له ذلك للضرورة المسرحية. ويدافع ناقد آخر عن هذه النقطة بقوله: إن الكاتب القصصي أمامه الصفحات واسعة ليشرح ما يريد ويسهب ما شاء؛ ولكن أمام الكاتب المسرحي عقبات منها ضيق الوقت، ثم خوف ملل الجمهور. وعلى ذلك هو يوافق تماماً على عمل المقتبس، الذي أخذ جوهر القصة وحوادثها المهمة، فصاغها في قالب بديع، يشهد له بالمهارة والمقدرة. ويوافقه على ذلك ناقد (الفيجارو) الذي يقول: وإن كانت القصة تبدأ بطيئة ضعيفة، إلا أنها تأخذ بعد ذلك في العنف والقوة، وتتابع الحوادث والمفاجآت بمهارة مسرحية نادرة، مما ضمن للرواية النجاح والفوز. أما ناقد (الطان) فيوافق على قوة الرواية مسرحياً؛ ولكنه يناقش قليلاً العاطفة التي يبديها (دي سفينيه) وإنكاره العظيم لذاته في سبيل المرأة التي يحبها، ويقول عن هذا: إنه أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة البشرية، التي نلمسها في الحياة؛ ولكنه يقول إن ذلك يجعل الجمهور يميل إلى القصة ويتعشقها وبذلك يضمن لها النجاح. وهناك ناقد آخر يأخذ على الكاتب إهماله لختام الرواية، وإن كان يعترف أن يملك الجمهور تماماً، وأن ختام الفصل الثاني، والفصل الثالث كله، وابتداء الفصل الرابع من أقوى ما كتب للمسرح، وإلى ذلك يعزى شيء كبير من نجاح الرواية».
ذكرت ما نقله الناقد من أقوال نقاد فرنسا؛ لأنه بعد ذلك أدلى برأيه النقدي هو، والذي استفاد فيه من آراء النقاد الغربيين، وبنى على آرائهم رأيه النقدي، وهذا يُعدّ تطوراً قام به الناقد في أسلوبه النقدي، بسبب عروض فرقة رمسيس، التي منحته هذه الفرصة من البحث والكتابة النقدية!! والدليل على ذلك رأي الناقد الذي ذكره، قائلاً:
«... بقي أن ندلي برأينا الضعيف. لا شك في أن الرواية كقطعة مسرحية خليقة بالمدح والثناء. ولا يقلل من قيمتها مطلقاً أن الفصل الأول، كان أقرب إلى القصة منه إلى المسرح؛ ولكن المقتبس مضطر إلى ذلك، وليستطيع أن يدفع إليك بالحوادث بعد ذلك متتابعة وقوية، وهو ما فعله تماماً. فلا يمكننا أن نعيبها من هذه الوجهة، وهذا يصح إذا اعتبرناها مستقلة تماماً عن القصة، التي اُقتبست منها؛ ولكن إذا رجعنا إلى الأصل وقارناه بما كتب للمسرح، نجد نقصاً كبيراً في كثير من الأمور والتفصيلات، التي يجد المرء لذة كبيرة في الإلمام بها، فأنت إذا قرأت القصة تملك روعة وأي روعة من العواطف المتباينة، والشعور المتضارب، وتحليل نفسية الأشخاص بقلم الكاتب المؤلف. وهذا ما لا يمكن أن يظهر على المسرح؛ ولكن لك أن تتخيله فقط، ويعاونك على ذلك ما يبديه الممثلون من مقدرة ومهارة في تفهم شخصياتهم، وإعطاء المتفرج فكرة صحيحة عنها. وفرق بين أن يشرح لك (كلود فارير) شخصية كل بطل في قصته، فيجعلك تحسها، وتلمسها، وبين أن يعهد (بيير فرونديه) إلى الممثلين أنفسهم بهذه المهمة، بما يبدونه على المسرح من الإشارات والانفعالات، وما إلى ذلك».
بهذا الأسلوب نفسه، سار الناقد في مقالتيه عن مسرحية حانة مكسيم المنشورتين في جريدة البلاغ بتاريخ 11، و12 نوفمبر 1925، حيث وجدناه يكتب عن المؤلف جورج فيدو وكتاباته ومسرحياته وأقوال النقاد عنه، وعن مسرحيته (حانة مكسيم)، وظروف كتابتها وتعريبها، وانتقالها إلى فرقة رمسيس؛ بوصفها أول مسرحية كوميدية تعرضها الفرقة!! ولأول مرة يعترف الناقد أن هذا التطور في كتاباته النقدية؛ كان بسبب أحد أفراد فرقة رمسيس، وما يمتلكه من معلومات وكتب ومجلات مسرحية، وهو الممثل أدمون تويما!! وفي ذلك يقول الناقد محمد علي حماد:
«... أحدثك اليوم عن حانة مكسيم وهي الرواية الكوميدية الأولى التي أظهرها مسرح رمسيس في هذا الموسم. وقد نجحت نجاحاً مدهشاً، وتقبلها الجمهور بشوق وشغف بعد الذبائح والقاتل ... وأريد الآن أن أتحدث إليك عن جورج فيدو مؤلف هذه الفكاهة الممتعة، وأقص عليك شيئاً من تاريخ حياته، وعن عمله في المسرح. وبعد ذلك أنقل لك آراء كبار النقاد عنه، وعن مؤلفاته التي حازت من النجاح والفوز في كل فرنسا ...... ولكنني قبل أن أسوق كل هذا، أريد أن أتقدم بالشكر والثناء إلى مسيو (أدمون تويما)، الذي ساعدنا في جمع هذه المعلومات، ووضع تحت تصرفنا مجلاته وكتبه، التي تبحث في المسرح، وفي فنونه المختلفة، ولم يضن علينا بشيء طلبناه فله منا جزيل الشكر».
وبالرغم من تكرار الأسلوب النقدي بين هذه المسرحية وسابقتها – في ذكر المعلومات التوثيقية - إلا أن الناقد نجح في إضافة الجديد، عندما تطرق إلى الحديث المسهب في شرح معنى الفودفيل وتاريخه؛ لأن جورج فيدو من أعلامه!! ومن المعلومات التي ذكرها الناقد عن الفودفيل، والتي تُعد جديدة وغير معروفة في تلك الفترة: إن الفودفيل نشأ في فرنسا، ويُطلق على كل مسرحية مضحكة بها شيء من الحركات والكلمات التي تتعدى الحشمة والوقار، وبها الكثير من المفاجآت، ومحورها الأساسي قائم على سوء تفاهم صغير، ثم يكبر تدريجياً .. إلخ. ثم تطرق الناقد إلى تاريخ مسرحيات هذا النوع في أوروبا، وكيف انتقل إلى مصر، مع ذكر أهم المسرحيات والأفلام التي عرضت في مصر، وتندرج تحت هذا النوع الفني المسمى بالفودفيل. وما جاء به الناقد في مقالته هذه عن الفودفيل، لا أظن له نظيراً منشوراً في الصحف العربية من قبل.


سيد علي إسماعيل