فضائح الخوف القواد.. في مسرحية «جروب سري»

فضائح الخوف القواد.. في مسرحية «جروب سري»

العدد 638 صدر بتاريخ 18نوفمبر2019

يبعث عرض “جروب سري “، الذي تقدمه فرقة السامر المسرحية، من إنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة، يبعث حضورا طاغيا يشتبك بشراسة مع ذلك العالم الافتراضي الغامض، الذي يغير الواقع والملامح والأعماق - -، تسقط فيه كل المحظورات، ويفتح المسارات أمام الزيف والأوهام والأكاذيب والمؤامرات، تلك الحالة التي منحت تجربة الجروب السري خصوصية فريدة، باعتبارها من الأعمال المشاغبة التي تقرأ تفاصيل الواقع عبر مفارقات الدراما واستعارات الجمال، لتطرح تلك المواجهات المثيرة مع وقائع وجود مهزوم، ينهار في موجات الخلل والسقوط .
مؤلف المسرحية هو الكاتب المتميز” طارق رمضان”، الذي أدرك أن هذا العالم الافتراضي يتجاوز جموح العبث واللامعقول، يبعث موجات التناقضات، يرسخ لقيم وقناعات هابطة، تفتح أبواب الجحيم أمام هؤلاء المعذبين بالفقر والجهل واستلاب الروح والجسد، لذلك يصبح علينا جميعا أن ندخل هذا العالم عبر امتلاك الوعي والعلم والمعرفة والقيم - -، وهكذا يضعنا المؤلف أمام كتابة حية،حارة جريئة بريئة، تمتلك شرعية وجودها الفني، تموج بوهج التساؤلات وبريق الجدل، تنطلق من قلب واقعنا المعقد لتشتبك مع سحر العالم المراوغ، فتأتي الشخصيات واضحة الملامح والأبعاد، والتفاصيل ترسم قسوة القهر والجهل والاستلاب،حين يهزم نبض الحياة وروح الإنسان .
مخرج المسرحية هو الفنان إسلام إمام، الذي بعث تيارات الحياة الفوارة في قلب الجروب السري، تميزت الحالة المسرحية بالبساطة والجمال، بوضوح الرؤية وخصوصية البصمات، حيث اتجه منظور الإخراج إلي التفاعل مع وحشية اللحظات الفارقة، وكانت اللغة الفنية تعانق الحياة،رغم وجهها المأساوي المخيف، فامتزج الخيال بدهشة المعرفة، ليصبح المتلقي أمام حالة إبداعية خلاقة ترتكز على المفاهيم العلمية للمسرح من حيث الشخصيات والتقاطعات واندفاعات الأحداث .
تدور الأحداث في إطار تشكيل سينوغرافي ثابت، يموج بالدلالات والفضائح والأسرار،جماليات التشكيل الأسطواني الأحمر الضخم ترتفع في العمق، لتعلن سيطرة العالم الافتراضي على الجميع، وتناسق التكوين يبعث موجات البساطة والجمال، فهو عبارة عن حجرات صغيرة متوازية في عمق المسرح، كل حجرة توحي بطبيعة وملامح أبطال المسرحية، التفاصيل الصغيرة تروي عن فضائح الليالي وأسرار النساء والرجال، أيديولوجيا الجدران الفاصلة تؤكد أننا أمام مجموعة من البشر، لا تربطهم أي علاقة سوى أنهم جميعا يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، أما حركة النص عبر الزمن الماضي والحاضر، فقد جاءت شديدة النعومة تموج وعيا وحرارة، واشتباكا ساحرا مع ملامح واقعنا الفعلي المتوتر.
تأخذنا اللحظات الأولى إلى قلب ذلك العالم المثير، الضوء يتضافر مع الحركة والموسيقى، لنعايش حالة من الإبهار، الذي يظل يتقاطع ويتوازى مع تناقضات الأعماق ورغبات الحياة، الرؤية الإخراجية الرشيقة تخترق عالم كل رجل وامرأة من شخصيات العرض، لنتعرف على حقيقة الوجوه والأقنعة، الوجوه التي يعرفها الأهل والمجتمع، والأقنعة التي يمارسون من خلالها أسوأ جرائم السقوط الإنساني، فكل منهم له حساب فعلي علي الفيسبوك والواتساب وغيرهم، وكل منهم أيضا له حساب مزور على نفس المواقع، يعيش من خلاله أوهام الجنس والحب والاحتيال على الوجود والفقر والجهل والرضوخ، أحلام الحرية والتغيير ومواجهات الفساد، والبحث عن خلاص وهمي للإنسان .
يتضافر الضوء الدرامي الأزرق مع الموجات الوردية، ونتعرف على الشابة الجميلة “فكيهة “، أو توتي على حسابها المزور، تركت عملها بعد أن عذبها الابتزاز الجنسي، وقررت أن تمارس هي ابتزاز الرجال على مواقع التواصل، هربا من الفقر وبحثا عن الرغبة والحب، أما الشيخ نوار الشاب الريفي المتدين، الذي يشتغل بالعمل الدعوي، فقد اكتشف أن جماعته هي جماعة إرهابية داعشية - -، فعاش صراع الرعب وظل مؤرقا بالخوف الجبان، ويأتي مهندس الاتصالات ميشيل برسوم، الموظف الصامت المستكين المنتظر دوما لمرتبه الشهري - -، لكنه يعيش كل أحلام الحرية والقدرة على المواجهة عبر حسابه المزور باسم مانديلا، وحين نلتقي بالأستاذ مغاوري المدرس الفاضل، نعلم أن حسابه المزور يأتي باسم “مهند “، الذي يشاغب النساء ليمارس كل رغباته الجنسية، وأخيرا نتعرف على السيدة المنقبة ليلى--، حسابها المزور باسم مدام ناهد، تعيش عشقا جارفا مع الرجال، تبحث عن الدفء والقبلات وأشواق الغرام، لكنها أسيرة دائرة الخوف المفزع من زوجها، الذي لا يعلم أنها تزوجت افتراضيا .
يتضافر الضوء مع الأداء وخطوط الحركة، وتتفجر إيقاعات الدهشة حين يتردد صوت الأدمن الشرس فرماوي، وهو يخبر أبطال العرض أنه ضمهم إلى جروب سري، وعليهم أن يرضخوا لكل أوامره، فهو يعرف كل فضائحهم وأسرار سقوطهم، وهكذا يعايش المتلقي أبعاد تلك المواجهات الصادمة بعد أن تكشفت كل الأبعاد.
يلتقي أعضاء الجروب للمرة الأولى بعد سقوط الأقنعة،المفارقات الدرامية تشتعل بالكشف والشرح ومبررات السقوط، والمهندس ميشيل يقترح أن يكشفوا جميعا عن شخصياتهم، ويواجهوا الفضائح المستحيلة، وعبر موجات الضوء والكوريوجرافيا الرشيقة، تقترح مبروكة اختراق حساب فرماوي، ليعرفوا حقيقته، كما فعل معهم، وفي هذا السياق تمتد وقائع التسلط ويطلب منهم الأدمن تنفيذ حملة إعلانية شرسة على فيسبوك تنادي بحرية العصافير المحبوسة في الأقفاص، لأنها لا تستطيع التعبير عن نفسها - -، وأمام الخوف من فضائح الجنس والسياسة، يوافق أعضاء الجروب السرى وينفذون الحملة --، يشعلون المواقع بالشائعات والهذيان، يتحدثون عن الرشاقة والتجميل وميراث النساء، عن الكرة وفساتين النجمات وأداء المذيعات وعن حرية العصافير- -، وهكذا تتصاعد الأحداث وينجح المهندس ميشيل في اختراق حساب فرماوي، يخبر جميع الأعضاء أنه مجرد كائن تكنولوجي مثل الفيروس، الذي يخترق حسابات الكثيرين ويسيطر عليهم لأنه مبرمج على اصطياد الشخصيات المزدوجة، التي تعيش عالم واقعيا وآخر افتراضيا، مثل توتي وناهد ومهند ومانديلا، ففي مجتمعاتنا الشرقية تنتشر الكيانات الهشة الضعيفة التي تفتقد الوعي والإرادة والمعرفة، ويظل الهدف من ذلك هو اغتصاب الإرادة واستلاب الحياة وتغييب المعنى، ليتحولوا جميعا إلى حشرات تلتهم قلب الوطن .
تأتي لحظات التكشف المدهشة، ويصعد ميشيل إلي أعلى المستوى المرتفع، يعلن بقوة أنه مسئول عما نشر على حسابه الوهمي باسم مانديلا، وعبر جماليات الأداء المتميز يعلن أبطال العرض عن شخصياتهم الحقيقية وعن رفضهم للزيف والسيطرة، لكن ليلى عجزت عن الخروج من أسر مدام ناهد، احتفظت بقناعها الفاضح واختارت حصار السقوط- -، وهكذا ينتهي العرض برسالة واضحة للجمهور بضرورة امتلاك الذات ومواجهة التمزق بين الوجوه والأقنعة .
شارك في المسرحية الفنانون “مصرية بكر، إيهاب عز العرب، محمد صبري، محمد النبوي، وفاء زكريا، ووحيد البدري، وهم جميعا من الطاقات المتميزة “
كان الديكور للفنان أحمد شربي،  والإضاءة لأبي بكر الشريف، والموسيقى لمحمد خالد

 


وفاء كمالو