جنة هنا .. أم جحيم هنا؟

جنة هنا .. أم جحيم هنا؟

العدد 694 صدر بتاريخ 14ديسمبر2020

إختار المخرج «محمد صابر» بعناية وذكاء متناه النص المسرحى الذى يضع به خطواته الأولى كمخرج بالبيت الفنى للمسرح بعد تجارب إخراجية عديدة بمسرح الثقافة الجماهيرية  طوال ما يقارب العشرين عاما, ويؤكد ذكائه مرة أخرى بإختياره لقاعة مسرح الغد (الملمومة) ليفتتح بها مسيرته بالبيت الفنى للمسرح بعرض «جنة هنا» للكاتبة المتميزة “صفاء البيلى” التى تطرح بنصها «تيمة» غاية فى الحساسية والرهافة... إذ فى الليلة التى تنتظر فيها الفتاة «جنة» أن تكمل عامها الثلاثين, تفجر الكاتبة صراع نصها فى هذه الليلة المفصلية فى عمر «جنة» وتقيم المؤلفة صراع البنية الدرامية لأحداث نصها على إصرار «جنة» للتخلص من سرير حديدى بأعمدة, وإصرار أمها «هنا» فى المقابل على الإحتفاظ به, ولكل منهما أسبابها, وعبر سرسبة أسبابهما يتنامى الحدث فى بناء درامى محكم يعكس مهارة المؤلفة وقدرتها على الإمساك بطرفى الصراع وكيفية تطويره بالقدر الذى لا يترك للملل أدنى مساحة أو تسرب للمتلقى على الرغم من أن شخصيات العمل لا تتجاوز الفتاة وأمها اللتان يقف السرير بينهما كحائل مادى (رغبة متناقضة الإحتفاظ/ التخلص) وحائل نفسى فيما يشكله لكل منهما من ذكريات متناقضة أيضا إذ هو بالنسبة للأم إرث غال عن أمها التى ورثته هى الأخرى عن أمها التى ورثته عن الجدة, وعلى مستوى آخر فقد جمع بين الأم وبين أوقات من الهناء والسعادة مع زوجها الغائب / الحاضر «محمود» والد جنة, وعليه أيضا وضعت طفلتها الوحيدة «جنة» التى جاءتها بعد حلم الإنجاب الذى لم يتحقق بسهولة.. أما بالنسبة للفتاة فهو (السرير) لا يحمل إلا ذكريات من الخوف والرعب بدأت مع حكايات جدتها لها عن العفاريت وأبو رجل مسلوخة, كما يمثل لها أيضا أسوأ ذكرى تحملها فتاة لتشويه جسدها بإقتطاع جزء منه بالختان, وما يتركه من أثر سلبى على المستوى النفسى, والبيولوجى أيضا إذ أفقد «جنة» الرغبة الحميمية, مما جعل زوجها الذى لم تستمر معه كثيرا يتهمها دائما بالبرود الجنسى ويشبهها بلوح الثلج ويطلقها فى النهاية, وإن لم تعترف لوالدتها بذلك من قبل حفاظا على كرامتها.. إن ذلك التداعى والبوح لكلا الطرفين يعضد الصراع بينهما ويساهم فى تنميته, وينتقل بالأحداث من مجرد صراع حول السرير إلى صراع من نوع آخر يتمحور حول ما تحمله كل منهما من مشاعر للغائب/الحاضر «محمود» الزوج /الأب...ذلك الأب الذى تعتز زوجته بعمله كمدرس يعلم الأجيال بحب وإيمان بدوره ورفضه امتهان مهنته بإعطاء الدروس الخصوصية, ما جعله يلتحق بعمل مسائى يساعده على الإيفاء باحتياجات أسرته التى لم يكفها دخله من العملين مما جعله يقرر السفر الى دولة عربية ليكفى زوجته وابنته إحتياجاتهما رغم إلحاح الزوجة عليه بل ورجائه بعدم السفر, وفى المقابل فالإبنة لا تقدر كل تلك التضحيات التى لا تساوى فى نظرها شيئ مقابل حرمانها منه, حرمانها من انتظارها له واستقباله وهو عائد من العمل حاملا لها الحلويات ويذيبها فى دفئ حضنه, حرمانها من لعبها معه, حرمانها حتى من ضربه لها حين تقترف أخطائها الطفولية  أو حتى ضربها (علقة سخنة) بلا سبب, مما ترك فراغا كبيرا فى حياتها والشعور الدائم بأنها بلا سند يحميها رغم تفانى الأم فى تربيتها ومحاولة تعويضها عدم وجوده إذ كانت تتمنى”جنة” أن تنشأ تحت جناحيهما معا حتى لا يترك الفراغ وإحساسها الدائم بالوحدة ما حفره فى شخصيتها, مما دفعها إلى دراسة الفلسفة علها تستطيع الإجابة عن كثير من الأسئلة الوجودية التى لا تجد لها إجابة يتعلق جزء منها بتوجيه أسئلة الى الرب الذى تعبر عن غضبها منه رغم إيمانها به. وعلينا ألا نغفل عن ذلك البعد الفلسفى الذى أرادته الكاتبة عبر ذلك المزج اللامنظور بين ( الرب/الأب/الرجل فى حياتها) الذين تربطهم بها علاقة متأرجحة ـ فقد تخلى عنها الأب بسفر بلا عودة, وتخلى عنها الزوج وطلقها بسبب لا يد لها فيه بل هى ضحية لهذا السبب ( العادة الرجعية لدى البعض بختان بناتهم) والرب الذى تشعر بتخليه عنها بوقوع كل تلك العذابات عليها دون غيرها متأرجحة ومتراوحة وهشة فى آن رغم إحتياجها الشديد لوجود كل منهم ليتم تحقيق التوازن النفسى الغير محقق لديها, لتشى المؤلفة عن رؤيتها ـ وإن جاءت بشكل ملتبس غير صريح ونستطيع أن نتفهم دوافعها ولجوئها الى التلميح دون التصريح لإعتبارات مجتمعية وعقائدية ـ الخاصة بعلاقة الأنثى بالذكر, وعدم اكتمالها إلا بوجوده فى حياتها وفق ذلك المزج المتشابك الذى أشرنا إليه, وغياب/هم ـ أو أحدهم ـ يؤدى إلى ذلك الإرتباك البادى على «جنة” وعدم تصالحها أو توائمها مع الحياة بالرغم من محاولتها التواؤم والخضوع اختياريا لزواج لا ترغب فى صاحبه وترتضى حتى أن تنفق عليه « وأهو ضل راجل ولا ضل حيط” حتى لا يتهمها المجتمع بالعنوسة, ويتواصل الصراع حول السرير ـ كرمز ـ حتى تعثر “جنة» على حل سحرى من وجهة نظرها ترى فيه مخرجا من هذا الصراع « لو مش عايزانى أخلص من السرير ده قوليله يرجع.. قولى لمحمود يرجع لو كان بيحبك هايرجع وأشوفه ولو لمرة واحدة وأقول له يا بابا”  ويكون ذلك المطلب مفصليا فى الصراع بينهما إذ لا تجد الأم مفرا من الإعتراف لأول مرة باستحالة عودته لأنه قد مات, وأمام إتهام ابنتها بالأناية لأنها حرمتها حتى من الحزن عليه, ولتنفى الأم تلك التهمة عن نفسها تفضى بالأسباب التى إضطرتها لفعل ذلك حتى لا تحرم من العيش معها إذ أن الأهل كانوا سيضطرونها للزواج من آخر, لا سيما وأن شقيق الأم قد طلب من قبل رفع دعوى تطليق لغياب الزوج والزواج بآخر وأمام سيل من الكشف عن محتوى الصندوق الأسود الذى حافظت عليه الأم بين ضلوعها طوال العمر, وهو الأمر الذى أنهكها فتتمدد على السرير لإلتقاط بعض الأنفاس, دون جدوى إذ تكتشف “جنة” أن أمها قد فارقت الحياة إذ أن الأم كانت تستمد القوة والقدرة على مواصلة الحياة بعدم اعترافها بموت الزوج والعيش على أمل وهمى صنعته لنفسها وانتظار عودة زوجها, وتفارق الحياة مع أول اعتراف لها ـ أمام إصرار إبنتها ـ بوفاة الزوج, إلا أن التصريح بوفاة الزوج على ذلك النحو يضع المتلقى أمام عدة أسئلة مربكة دون أن يجد لها جوابا من قبل، متى مات محمود؟ وكيف؟ وأين؟ أما على المستوى الدرامى فإن عدم وجود إجابات واقعية أو محتملة على تلك الأسئلة يشكل بعض الخلل فى البنية الدرامية المحبوكة بمهارة طوال العرض, ولكن يزول ذلك الإلتباس حين نعرف أن النص الذى كتبته المؤلفة جاء خاليا من ذلك الخلل الدرامى إذ جعلت وفاة «محمود» تحدث بعد سفره بحوالى عامين حين أجبر ـ كغيره كثيرين ـ للإلتحاق بالجيش والمشاركة فى الحرب الدائرة بين تلك الدولة العربية وإحدى الدول الإقليمية المجاورة لها, ويستشهد فى إحدى المعارك, وذلك الكشف عن موته الغامض يزيل الإرتباك لدى المتلقى ويتساوق مع سير البناء الدرامى للأحداث, كما يبرر أيضا مجئ الشيك الشهرى لهما ـ كمعاش للشهيد وهو تقليد كانت تحرص عليه العراق مع كل من استشهد فى حربها مع إيران حتى لو كان من غير العراقيين ـ وكان يشكل علامة استفهام دون إجابة فى العرض لكل من لم يطلع على النص المكتوب وهو مافات المخرج أن يعالجه, وفى نفس السياق فى اختلاف الرؤى بين النص المكتوب ونص العرض هو ماجاء فى نهاية النص المكتوب بعد وفاة الأم تكون “جنة” فى حالة إنهيار, وتخبرها بالتراجع عن بيع السرير, وتجمع كل الأشياء التى كانت الأم تحتفظ بها شاخصة إلى السرير متكورة فى أحد الأركان, لتواجه مأساة جديدة أشد قسوة بالحرمان حتى من وجود الأم, ومن الواقع الذى كانت ترفضه من قبل, لتنهى الكاتبة مسرحيتها بتلك القتامة وذلك البؤس, وتعدد الهزائم والإنكسارات, ومن ثم افتقاد الرغبة فى مواصلة تلك الحياة بكل مرارتها, إلا أن المخرج “محمد صابر” بوعيه الدرامى والنقدى أيضا يضفى على نهاية العرض رؤية مخالفة للنص المكتوب ليخفف بها تلك القتامة والضبابية التى تنتظر مستقبل شخصيته الرئيسة «جنة» إذ يجعلها تستوعب حدث وفاة الأم وفقدها, وتكتفى بتعليق صورة لها على الجدار كصورة الأب وكأنها تنقل للمتلقى الإيحاء بضرورة مواصلة الحياة رغم فقد الأحباب, وبهذا الحل الذكى والبسيط فى آن يخفف المخرج عن متلقيه تلك الجرعة القاتمة التى انتقلت إليه عبر مأساة «جنة» ولم تكن تلك هى المحاولة الأولى للمخرج بتخفيف وطأة الأسى على متلقيه بل سبقها بمحاولة أخرى وقد نجح فيها عبر المهارة الكوميدية وخفة الظل التى يمتلكهما “أحمد الشريف» الذى حفر لنفسه وللشخصية التى أداها (بتاع الروبابيكيا) ملامح تركت أثرا جيدا لدى المتفرج رغم ظهوره الخاطف فى مشهدين قصيرين إلا أنه قد فاجأ المتفرج وأكد على أنه ممثل قدير قد ضل طريقه الى عالم الكتابة النقدية التى احترفها على مدى سنوات وترك فيها أيضا علامات مغايرة, وكما تجلى ذكاء “محمد صابر” فى اختياره للنص فقد تبدى ذكائه أيضا فى اختياره لممثليه إذ جاءت «عبير الطوخى» مجسدة للأم «هنا» تلك المرأة التى تعيش من أجل ابنتها ومجموعة من الذكريات الهنيئة التى جمعتها مع الزوج الذى غيبه السفر ثم الموت من ثلاثين عاما, تعيش فى غير انكسارة رغم قسوة الزمن وقسوة ابنتها عليها وخلافها الدائم معها إلا أنها لا تقابل تلك القسوة وذلك الخلاف إلا بمزيد من العطاء والحب المتجددين, تلك المرأة التى رفضت الإعتراف بموت الزوج وظلت طوال حياتها فى انتظار عودته, وتفارق الحياة حين تعترف بموته... كل تلك المشاعر والإنفعالات المتناقضة جسدتها «عبير الطوخى» بمهارة واقتدار وحرفية عالية معتمدة على أسلوب السهل الممتنع لتقيم طوال العرض مباراة تمثيلية مع الموهوبة بالفطرة «هالة سرور” فى دور جنة المركب الحامل للنقيض وضده فهى تحمل للوالد الغائب كل مشاعر الحب النابع من وحشة الإفتقاد وإن كانت لا تظهر إلا اللوم له والعتاب لغيابه وانعكست مشاعرها الحقيقية تجاهه حين علمت بوفاته فقد كانت تمنى النفس بعودته ولو كسيحا على كرسى لتدفئ نفسعا داخل أحضانه.. “جنة” التى تعلم مدى تفانى أمها وتضحياتها من أجلها وتبادلها الحب رغم مشاكستها الدائمة لها ولومها على توقف الزمن لديها وعيشتها خارجه, ولم يعكس مشاعرها الحقيقية تجاهها سوى مشهد موتها وإحساسها بالضياع ..”جنة” التى تؤمن بالله رغم غضبها منه, جنة التى لا تتواءم مع واقع مادى قاس لا يتسق مع تكوينها ككاتبة للشعر ودارسة للفلسفة تعيش مع المثل الفلسفية والرهافة الشعرية, جنة التى تهرب من الإتهام بالعنوسة الى الزواج من رجل لا تعرفه وسرعان ما يفر منها لعدم إشباعها لرغباته الجسدية.. «جنة” التى عانت من تشويه جسدها وهى طفلة جنة التى أرعبتها حواديت الجدة, وكل عذابات الواقع المريرة, وقد وضعت «هالة سرور” يدها على أبعاد تلك الشخصية ونقلتها للمتفرج عبر حركة متأججة لأتون يمور, وكفراشة يلسعها وهج جمرات مأساتها الشخصية, وتنتقل من وإلى اللحظات المتناقضة للشخصية بكل سهولة ويسر مؤكدة على موهبتها وإمكانياتها اللا محدودة.
وأبدت مصممة الديكور والملابس «مى زهدى» تفهما لطبيعة النص وطبيعة قاعة العرض محدودة المساحة فلم تزحم فضائها المحدود لتعطى أكبر مساحة ممكنة لحركة الممثلين, كما حاولت أن تعكس دواخل الشخصيتين الرئيسيتين بتلك الصور الجدارية بالقاعة, كما عكست فهما ملحوظا بأزياء «جنة وهنا» البسيطة المعبرة وجمعها بين الأبيض والأسود فقط مع وقار يتسق وطبيعة الشخصيتين, وجاءت إستعراضات «حسن شحاتة” فقيرة وزاد من فقرها عدم لياقة الراقصات ورقصات خالية من المعنى باستثناء ما حاول أن يعبر به عن طقس السبوع الذى تجلت فيه أغنية الشاعر الكبير «مسعود شومان» مع ألحان متواضعة لـ «أحمد الناصر” الذى جاءت موسيقاه المصاحبة للأحداث معبرة وملائمة لكل المشاهد التى صاحبتها وموترة فى تعومة مع تصاعد الأحداث.
أن عرض «جنة هنا” يجعل من المخرج “محمد صابر” إسما يستحق أن تفتح له المسارح الكبرى أبوابها دون قلق فقد صاغ عرضا يضعه الى جوار الأسماء اللامعة من المخرجين، كما يضع «صفاء البيلى» الى جانب المؤلفين الكبار بطرحها لموضوع جاد كتبته بوعى درامى لا يتوفر لكثيرين, ويعيد هذا العرض ثقة المتفرج الى مسرح الدولة وسط كثير من التخبطات التى يعيشها مسرحنا المصرى.


أحمد هاشم