ستوكمان.. واختيارات الإنسان

ستوكمان.. واختيارات الإنسان

العدد 828 صدر بتاريخ 10يوليو2023

  قدمت فرقة مسرح الغد التابعة للبيت الفني للمسرح، على قاعة عبدالغفار عودة بالبالون، العرض المسرحي «ستوكمان» عن النص المسرحي «دكتور ستوكمان ومستر قاسم» للمؤلف ميخائيل وجيه مرزوق الذي فاز بجائزة ساويرس لعام 2019م، ومن إخراج الدكتور أسامه رؤوف. وفي مقدمة ميخائيل لنصه قال: «لا أستطيع أن أخفي إعجابي وتأثري برائعة هنريك إبسن (عدو الشعب)» (النص pdf، ص 2) والمؤلف لا يعرض أية أحداث من نص إبسن لكنه تعرض لشخصية دكتور توماس ستوكمان وهي الشخصية الرئيسية في نص إبسن، هذه الشخصية التي أصبحت عدو الشعب، فقد سلط إبسن الضوء على نوع من القضايا التي يكون فيها عدو الشعب هو الذي يراعي ضميره في العمل ويخاف على حياة الآخرين، ويصبح كما يقال (كبش فدا)، وبذلك يكون أفضل شيء للمجتمع أن يقام على كذبة ينشرها بعض الناس فيصدقها الجميع وتصبح هي الحقيقة، والسؤال: هل من الحق والعدل أن يكون الشخص الذي يتحدى جهل مواطنين بالعلم ويُوَجههم بالحقيقة يكون عدو الشعب؟ وهل من الحق والعدل أن يكون الإنسان الأفضل هو من يقوم باستغلال الآخرين بتضليل الرأي العام بغرض المنفعة الشخصية على حساب المنفعة العامة، حتى لو تحقق ذلك بمرض يؤدي إلى وفاة مواطنيه؟ وقد أجاب إبسن في نصة على الأسئلة بأنه ولا بُدّ من نشر الحقيقة، ولذلك تحدى دكتور توماس ستوكمان الجميع، وقام بإثبات أن مياه ما يُسمى بالحمامات السياحية والعلاجية في بلدته ملوثة بجراثيم مؤذية لصحة الإنسان، وعندما نعكس نص إبسن على الحياة التي يعيشها الإنسان في معظم بلاد العالم في الماضي والحاضر نكتشف الحقيقة الصادمة، وهي أن الإنسان يعيش في أكذوبة كبرى مهما اختلفت أشكالها. إن النص الدرامي (المسرحي) عدو الشعب الذي كتبه إبسن يمس صلب حياتنا، حيث إن الحقائق تصبح أحيانا صادمة، ومن خلال هذه الحقائق كان النص الدرامي (المسرحي) دكتور ستوكمان ومستر قاسم.
    إن العمل الفني الجديد هو الذي يقدمه صانعوه بنظرة مختلفة وقادرون على تحقيق ذلك، حتى لو كان مُستلهما عن عمل فني آخر، أو بمعنى أدق مستلهم عن شخصية أعجب بها المؤلف عن عمل فني آخر، ويقول ميخائيل عن إبسن ونصه عدو الشعب إنه «هو النص المفضل لي عبر كل العصور ودوما ما أشعر أني مديون له بشيء ما وعليَّ أن أرد هذا الدين. واليوم أشعر بارتياح بعد إكمال هذا النص وكأني قمت برد هذا الدين» (النص pdf ص2).
  كيف قدم لنا المخرج أسامة رؤوف هذا النص: 
  قام المخرج بتغيير عنوان النص من «دكتور ستوكمان ومستر قاسم» الذي كان واضحا ويتحدث عن شخصيتين مختلفين في المبادئ، أما عنوان العرض «ستوكمان» فهو عنوان غامض ولا يتعرف المتلقي على قصدية العنوان إلا بعد مشاهدة العرض، فيعلم أنه اسم الشخصية الرئيسية في النص المسرحي عدو الشعب لهنريك إبسن التي يقوم الممثل قاسم بتمثيلها في عرض مسرحي يحمل اسم عدو الشعب.
   حذف المخرج في العرض شخصية الدراماتورج أسامة، كما حذف بعض الكلمات وأضاف كلمات لشخصية عزت العامل بالمسرح  لتؤدي خلاصة المطلوب إيضاحه للمتلقي بواسطة شخصية أسامة في النص، وهي التعريف بأن الممثل يندمج أحيانا ويتقمص الشخصية التي يمثلها وتسيطر عليه في حياته كما حدث للممثل قاسم (ياسر عزت) الذي اندمج لبعض الوقت في شخصية «ستوكمان» التي يقوم بأدائها،  وأطلق على الشخصية اسم عارف (محمد دياب) وكان موفقا في اختياره لاسم عارف حيث إنه يعرف أشياء كثيرة عن تاريخ المسرح وتجاربه مع الممثلين عندما يندمج الممثل ويتقمص الشخصية التي يقوم بتمثيلها، وشخصية مستر قاسم في النص عكس شخصية دكتور ستوكمان في نص إبسن، فهو شخص مجتهد وطموح يعمل بمهنة التمثل، فقد أصبح ممثلا مشهورا، له جمهور كبير، لكنه يعيش لنفسه فقط، لا يفكر في الآخرين، ويقوم بفعل أي شيء ليحقق ما يتطلع إليه، هذا الرجل أقام في شبابه علاقة غير شرعية مع ممثلة مغمورة كانت زميلة له، أثمرت هذه العلاقة عن مولد طفلة، وقام قاسم بترك حبيبته ولم يعترف بطفلته، فقامت الأم برعايتها إلى أن وصل سنها عشرين عاما. 
    تم ترشيح قاسم لجائزة كبرى وبحصوله على هذه الجائزة سوف يعين في منصب رفيع، لكن أعداءه يفتحون ملفه القديم بأنه لديه بنت من علاقة غير شرعية ولن يعترف بها، فيقرر أن يسحق أعداءه لتحقيق هدفه ويعترف بابنته التي أصبحت شابة تُدعى هناء (ريم أحمد)، وذلك ليس بنية إصلاح ما أفسده ولكن كي يصل لغايته.
    يساعد باهر (نائل علي) صديق قاسم الذي يلازمه كظله في العمل كمساعد مخرج، وباهر هو من نصح قاسم في الماضي بعدم الاعتراف بابنته ويترك الحياة الآمنة والزواج من حبيبته ليتفرغ لمستقبله الفني ليحقق الشهرة والنجومية، ويُعتبر باهر نجاح قاسم نجاحا له شخصيا، والآن ينصحه بالاعتراف بابنته هناء للقضاء على حيلة معارضيه.
    يرتب باهر لقاء لقاسم بابنته هناء التي تعمل في جريدة (لم يُذكر اسمها) التي ترسلها لتغطية العرض المسرحي الجديد «عدو الشعب» لإبسن الذي يؤدي فيه قاسم شخصية دكتور ستوكمان.
   يُبلغ باهر قاسم أن كل شيء على ما يرام وأن ابنته هناء تحبه وتعتبره مثلها الأعلى وسوف تتحدث معه بعد العرض، ولا بُدّ أن يركز قاسم في دوره، وبعدما يخرج باهر، وفي لحظة ضبابية، لحظة بين الواقع والخيال يعيشها قاسم وكأنه في رؤية ذهنية، نرى كيف أثرت شخصية ستوكمان المدافع عن الحق على شخصية قاسم الممثل الطامع في تحقيق أحلامه، ونستطيع القول بأن زمن العرض الذي شاهده المتلقي استغرق خمسة وخمسين دقيقة تقريبا في الواقع، أما زمن الحدث الدرامي هو خمسة وعشرون دقيقة فقط، ويتضح ذلك عندما يطرق عارف باب غرفة قاسم في المسرح في بداية العرض ويبلغه أنه باقٍ نصف ساعة على رفع الستارة، ثم يطرق الباب ثانية في نهاية العرض ويخبره أنه باقٍ خمس دقائق على بداية العرض، فالعرض المسرحي يبدأ وينتهي بنفس المشهد، والاختلاف الوحيد هو مرور الزمن، ولذلك نستطيع القول إن قاسم لم يغادر غرفته وإن جميع الأحداث دارت في مخيلته.
   هذا العرض المسرحي يُعتبر فيه المتلقي هو العنصر الأهم في تكوين العمل؛ حيث يثير العرض لدى المتلقي التأمل والتفكير في الواقع وإبداء الرأي في القضية المتناولة، وقد دمج المخرج بين منهج كل من ستانسلافسكي وبريخت، حيث إن ستانسلافسكي يتعامل مع طبيعة العلاقة بين الممثل والحكاية وتعايش الممثل من أجل واقعية العرض، ويؤدي دوره كما لو كان هو الشخصية نفسها، أما بريخت تعامل مع فن المسرح من موقع الممثل ودوره التاريخي، فهو ينشئ سيطرة الممثل على الحكاية ومغزاها. وأوضح العرض ثلاث حالات مختلفة لشخص واحد، الممثل قاسم، وشخصية دكتور ستوكمان التي يجسدها قاسم في مسرحية «عدو الشعب» لإبسن، وقاسم الأب الذي تحركت مشاعره تجاه ابنته بعد أن أنكر وجودها لمدة عشرين عاما. وقد قام ياسر عزت بأداء كل هذه التناقضات في الشخصية بحرفية وتمكن شديد بالسيطرة على كل أدواته كممثل، ونلخصها في الصوت والجسد أو الأدوات الخارجية والداخلية.
    سرد لنا العرض أحداثا حدثت في الماضي في صورة قضية عن العلاقات الإنسانية، وهنا يطرح العرض سؤالا على المتلقي: ما هو الاختيار الأنسب للإنسان أن يعيش لتحقيق طموحه فقط أم يعيش حياة أسرية مستقرة؟ ويجيب على هذا التساؤل المخرج أسامة رؤوف بسؤال في كلمته عن العرض «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه» (انظر بامفليت العرض)، فعلى الجانب الآخر نرى موقف ابنته هناء وهل ستتقبل ما فعله والدها قاسم في الماضي وتغفر له بعدما سبب لها جرحا نفسيا غائرا طوال حياتها بعدم الاعتراف بها وموت أمها التي ضحت من أجلها، وأجابت لنا هناء (ريم أحمد) على السؤال بعدما اشتبكت في مباراة بالأداء التمثيلي مع قاسم (ياسر عزت)، موضحة معاناة الابنة التي تربت يتيمة الأب وهو على قيد الحياة، بين مشاعرها كمعجبة بممثل تعتبره مثلها الأعلى لكنه مذنب في جريمة أخلاقية كانت هي ضحيتها، وتقرر أنها تريد من قاسم ألا يعترض حياتها، فهو لا يمثل شيئا بالنسبة لها، أما باهر (نائل علي) فرسم شخصيته بشكل متوازن في حدود دور الصديق المخلص الوفي لصديقه الذي يصادقه رغم ما به من عيوب، وكذلك أجاد عارف (محمد دياب) في دور عامل المسرح العارف بأمور كثيرة بخبرته الطويلة في التعامل مع الممثلين، وقام برسم ابتسامة خفيفة على شفاه المتلقي.
   مزج المخرج بين تقنيات المسرح والسينما من خلال الحفاظ على انفعالات الممثلين بعيدا عن الأداء المسرحي، حيث يقدم العرض في قاعة يقترب فيها الممثل من المتلقي الذي يطلع على كل الانفعالات والحركات بشكل واضح، كما مزج المخرج بين اللحظة المسرحية في ربط بين مقدمة وعمق المسرح الذي يفصل بينهما فتحة باب، فقد قام مصمم الديكور (حمدي عطية) بتقسيم مكان العرض إلى قسمين، يمثل القسم الأول غرفة قاسم في المسرح مصممة بلمسة جمالية تليق بممثل نجم الفرقة المسرحية، فقد وضع فيها كرسيي فوتيه أحدهما مبطن بلون أحمر والآخر مبطن بلون بيج، أمامهما طرابيزة مستديرة عليها زجاجة مشروب وكوب، على يسار مقدمة المسرح، ووضع خلف الكرسيين في العمق مكتبة بها عدة صور مختلفة لقاسم، وفي عمق حدود الغرفة على اليمين وضع تسريحة بها مرايا وبعض لمبات الإضاءة أمامها كرسي للجلوس بلون أحمر وشماعة لتعليق الملابس، أما النصف الآخر يمثل خشبة المسرح والكواليس التي يقدم عليها العرض المسرحي «عدو الشعب» لإبسن كجزء من الأحداث. ثم يسحب البانر من خلف المكتبة المعلق عليه الصور ليغلق الباب، وتمثل حائطا معلقا عليه بعض الصور المختلفة لقاسم للإشارة لمدي حبه لنفسه فقط، ويصبح مكان العرض مكونا من غرفة قاسم فقط.
   يفاجئ المخرج المتلقي بخدعة دخول شخصية ستوكمان (خالد يوسف) الذي يرتدي نفس ملابس الممثل قاسم الذي سيؤدي شخصية دكتور ستوكمان دون أن يرى وجهه المتلقي، كما قدم خدعة أخرى بظهور قاسم خلف المرآة أثناء جلوس ستوكمان أمامها، وهذه التقنية تقترب من تقنيات الساحر ليحقق بها المخرج الدهشة للمتلقي، وقد حقق المخرج هذه الدهشة للمتلقي سابقا في بعض عروضه التي منها عرض «جزيرة العبيد» بظهور واختفاء الممثل، وكذلك في عرض «سيدة الفجر» عندما قسم هذه الشخصية ليؤديها أربع ممثلات يتبدلن في الدخول والخروج من وإلى المسرح بطريقة لا يلاحظها المتلقي وتثير دهشته. 
  أما الملابس (دينا زهير) فهي ملابس عصرية مصرية يرتديها باهر وهناء، لكن ملابس عارف الذي يرتدي بالطو غير عصري نعتبره تمسك به حيث أهداه له أحد النجوم من الممثلين القدماء الكبار في المسرح كان يرتديه هذا النجم أثناء تمثيله لدور ما، أو حصل عليه من مخلفات ملابس المسرح التي تم الاستغناء عنها ويذكره بذكرى ما مع الفانوس الذي يمسكه في يده، أما ملابس قاسم فتعبر عن ملابس شخصية ستوكمان، وهي نفس ملابس ستوكمان الذي يشبه قاسم، والملابس مناسبة للموضوع الإنساني الذي يحدث في أي زمان ومكان.
   كانت الموسيقى (رفيق جمال) معبرة عن الأحداث وقد سيطرت الآلات الوترية على العرض، وبنغمات مختلفة، فعند بداية العرض نسمع موسيقى ترقب وحذر، وهي عبارة عن دقات متكررة صادرة من آلة البيانو ويصاحبه التشيلو، تتداخل معها دقات انتظار وصول قطار، ثم تختفي النغمة وتتحول إلى نغمة ناعمة، ثم يبدأ قاسم في قراءة سكريبت المسرحية وتصدر نغمات موسيقية بصوت خافت تبطن المشهد ثم تختفي، كما نسمع صوت موسيقى فجأة وارتفاع صوت الوتريات عند دخول ستوكمان غرفة قاسم، معلنة عن مفاجأة قاسم بأن ستوكمان يشبهه تماما، كما نسمع موسيقى العرض المسرحي باستخدام الآلات الوترية بصوت مرتفع مصاحبة لتصفيق الجمهور، وعند قراءة قاسم خطاب ابنته هنا تعزف الوتريات موسيقى رومانسية،  وفي لحظة أخرى عندما تتذكر هناء ذكريات الماضي وحديث عن والدتها وأنها كانت دائما تذكر لها أن والدها متوفي تتحول الموسيقى إلى حزن وشجن.
  كانت إضاءة (أبو بكر الشريف) متميزة وتحقق رؤية المخرج، وكما قلنا إنه اختار مزج رؤيته بدمج تقنيات المسرح والسينما معا، فمالت رؤية أبو بكر إلى تنفيذ تقنيات السينما، فكانت خطة الإضاءة عبارة عن إنارة عادية للمكان وتزيد أو تنخفض شدة توهج الإضاءة أحيانا أو يستخدم بؤرة ضوئية وكانت الألوان المسيطرة الأزرق والأصفر والبرتقالي، فنرى الإضاءة الخافتة المعبرة عن إضاءة الغرفة ليلا في بداية العرض عندما كان قاسم يراجع دوره وقراءة السكريبت، وتزداد شدة الإضاءة قليلا عند دخول باهر وحديثه مع قاسم، وعند دخول ستوكمان وحديثه مع قاسم تنخفض شدة الإضاءة حتى يتم خدعة المتلقي بأن الجالس أمام المرآة وظهره للمتلقي ووجهه لقاسم هو يشبهه تماما، بينما يرى الجمهور وجه قاسم. وعند دخول هناء لغرفة قاسم وتجد دكتور ستوكمان بها وتحاوره على أنه قاسم، تزداد شدة الإضاءة على هناء وتنخفض على دكتور ستوكمان، وعبرت الإضاءة عن شعور قاسم الداخلي فنجده يجلس على أحد كراسي الفوتيه، وسلطت عليه إضاءة بلون أزرق خافت جدا يظهر وجهه وجسده في دلالة على اللحظة الضبابية المظلمة التي يعيشها وما هي نتيجة لقائه مع ابنته، كما أسقط على قاسم بؤرة خضراء فاتح جدا وبؤرة أخرى حمراء، أثناء اعترافه لابنته بأنه اعترف بها لنيل الجائزة، فهو ما زال بداخله شعور اللامبالاة بمشاعر الآخر حتى لو كانت ابنته، لكنه على الرغم من ذلك لديه جزء ولو بسيط من حبه لابنته كإنسان.
  كل التحية لكل ممثلي العرض الذين تم ذكر أسمائهم، وكذلك (تريزة فريد – أحمد سعد) لمشاركتهما في العرض كممثلين في عرض «عدو الشعب»، والتحية واجبة لكل من ساهم لخروج هذا العرض للنور، والشكر لمدير فرقة الغد المخرج سامح مجاهد لاختياره الدائم بتقديم عروض مميزة. 


جمال الفيشاوي