سيلفي مع الموت وإدارة الفن

سيلفي مع الموت وإدارة الفن

العدد 537 صدر بتاريخ 11ديسمبر2017

ربما كان يجب علينا أن نتوقف بعد لحظات الانبهار والإشادة اللتين صاحبتا عرض “سليفي مع الموت” للمسرح الكوميدي، ونحاول أن نعرف أسباب هذا، وما هي المقدمات التي أدت إليه.
فبعد مشاهدتك للعرض ستخرج وأنت واثق تماما من إمكانيات نشوى مصطفى الكلية التي تمثل بعضها في تمتعها بموهبة عالية أصقلتها باكتساب مصادر متنوعة لحرفية الأداء سواء كان هذا نابعا من دراستها له وفهمه على الوجه الصحيح ومن ثم تطبيقه عمليا، أو من خلال اكتساب الخبرات التي تراكمت من جراء عملها في الوسائط المختلفة، علاوة على تمتعها بالحضور الطاغي الذي مثل قوة أسرة لا يستطيع المشاهد معها فكاكا حتى وإن حاول.
ولكنك حتى وأنت في أسر هذا الحضور تدرك أنك لست أمام نص مسرحي يُعرض، ولا حتى رواية لقصة، وإنما هي مجموعة من الخواطر والذكريات وإبداء رأي أو وجهة نظر في بعض ما يدور حولنا من أحداث تهم المجتمع والوطن.
صحيح أن معظم هذه المقولات جاءت من خلال الإطار المرجعي الخاص بالمؤدية، لأنها هي صاحبة النص أو كاتبته، ولذا فمن الطبيعي أن يطغى عنصر إبداء الرأي في العملية الفنية وخصوصا العملية التمثيلية بأوجهها المختلفة، على الأداء العام أو الفحوى العام، في محاولة لربط هذا الموقف الذي يخص شريحة بالكل المجتمعي.
ويصبح واضحا أمامنا أن المسئولين عن إجازة النصوص بالكثير من المواقع المسرحية؛ رفضوا تقديم هذا النص - ولهم الحق في هذا - ولكن يأتي مدير المسرح الكوميدي (أحمد السيد) ليتحيز للتجربة بل ويقدمها عنده متحملا كل أوجه النقد السابقة على خروج العمل التي تمثل بعضها في محاباة النجمة نشوى مصطفى.. الخ، كما أن المآخذ الجاهزة بعد نجاح الحالة تمثلت في كيفية تبعية عرض مثل هذا بالمسرح الكوميدي؟ وكيف له أن يقدم من خلاله في الأساس.
والحقيقة، إن أحمد السيد لم يكن مقامرا أو متحيزا لنشوى مصطفى، فهو من خلال تجربته وخبرته أدرك أن العمل الفني في صورته النهائية هو الأساس في عملية التقييم والتقويم، وأن محاولة تقييم العمل الفني طبقا لمفرداته في عملية سابقة عن خروجه هي عملية ليست ناجحة على الدوام، وبأن نص العرض المسرحي خاصة؛ ليس هو الموجود على الورق فقط وينطقه المؤدون؛ وتكمله بعض الإشارات التي تعرف بالنص الموازي، بل هو ذلك النص المتمثل في كل ما يدور على خشبة المسرح بما في ذلك الإضاءة والموسيقى وتناسق الصورة العامة بكل مفرداتها من شكل لشخصية وسماتها وتعاملها مع المكان الموجودة به بكل تفاصيله الكائنة؛ لإيصال الرسالة التي تتحدد بحالة الصدق في التعبير عنها، بل إن درجة الصوت والإحساس أو الشعور المصاحب لما يقوله المؤدي؛ هو في الحقيقة جزء من نص العرض المسرحي؛ خاصة إذا كانت بتعليمات من المخرج أو المهيمن على العمل.
وحالة الصدق هذه لا تتحدد أساسا في تصديق المؤدي أو المصمم لنفسه أو حالته التي من خلالها خرج العمل، فهذا خطأ كبير شائع، وإنما حالة الصدق التي نتحدث عنها تتمثل في أن يصدق المتلقون والمشاهدون ما يتلقونه ويتفاعلون معه.
علاوة على هذا، فيبدو أن خبرة السيد قد تجاوزت هذا الأمر، لأن ما رآه حتى من خلال الاستعدادات للعمل قبل عرضه، لا يؤكد أن هناك نصا للعرض قادرا على جذب الانتباه بهذا الشكل المؤدي لانبهار المتلقي في عمومه، ولكنه يعرف جيدا أن هناك نوعية من البشر/ المؤدين/ النجوم؛ تخلق حالة فريدة من الاستحواذ على لب من أمامهم، ومهما كان ما يقولونه فإن التصديق هو النتيجة له ثم الإعجاب أيضا.
صحيح أن البعض يولد بهذا، ولكن العملية الفنية لا تقامر بالموهبة والقدرة فقط، فلا تسند للبعض أعمالا اعتمادا على هذه القدرة فقط، ولكنها قبلا تعتمد على تاريخ النجم أو المؤدي مع الجمهور، وكيف أنه أي الجمهور قد قبل من النجم سابقا ما رفضه من آخرين؛ نتيجة قدرته الاستثنائية، وفي التاريخ الفني المصري والعالمي ما يؤكد حديثنا والأمثلة كثيرة، أظنك عزيزي أذكى وأكثر معرفة من أن أذكرها لك. وبناء عليه فقد أقدم أحمد السيد على هذا وهو واثق من النتيجة لتأكده مما يتمتع به المؤدي مع خبرته التي تؤهله لهذا النجاح، دون أن يسأل الجمهور وقت تقديم العمل لماذا وكيف.
قد تكون النقطة الوحيدة التي اختلف فيها مع السيد في إدارته للعمل، هو قبوله بأن يتخذ العرض شكل مسرح القاعة أو مسرح الجيب ضاحب العدد المحدود من الجمهور، فحاول أن يسفلم يعترض أو يبدي رأيا فيما طلبه المخرج محمد علام والممثلة بمحاولة أن يتخذ العرض الشكل الذي أشرت إليه سابقا، وفي الحقيقة أن طبيعة تكوين صالة عرض مسرح ميامي الذي قدم عليه العرض، لا يمكن أن تتنسب مع متطلبات مسرح القاعة مهما فعلوا، والنتيجة الفعلية أننا كنا أمام منصة موجودة أمامنا مبشرة يتحرك عليها المؤدي؛ أي أنه الشكل التقليدي للمسرح الشائع، وكان وجود الستارة التي وضعت لتقليص عدد المقاعد التي من الممكن أن يشغلها الجمهور هو الحدث الأساسي في التقديم.
ولكن لو كانت تمت إدارة العرض وفقا لما هو متاح؛ واتساقا مع مبادرة الإنتاج ذاتها، ربما أزيحت تلك الستارة، وأصبح في مقدور الجمهور أن شغل كل حيز صالة عرض مسرح ميامي، ولو حدث هذا لليلة أو لعدة ليالٍ فقط، ساعتها كان سيرفع أحمد السيد ونشوى مصطفى رأسيهما تباهيا عن ثقة في نفسيهما واختياراتهما، وأنا عن نفسي أرى أنه أمر كان من اليسير جدا حدوثه؛ خاصة إذا عرفنا أنه كانت هناك أيام يتم تقديم العرض فيها أكثر من مرة في الليلة الواحدة.
وإذا أتينا لمتن العرض نفسه وكيف قدم، ربما سنبرهن أكثر على ما ذهبنا إليه، فنص العرض كما قلنا يعتمد على هذه المرأة التي تجتاز ممرا أو نفقا لتصل إلى مواجهتنا، وتحاول أن تعرف أين هي الآن وماذا تفعل، وتدخل من خلال التداعي لذكر مجموعة من الذكريات الخاصة بها وبعملها والمجال الفني التمثيلي، من خلال استدعاءات منفصلة ولكنها ليست متصلة، كانت تحاول أن تحاكم كل الواقع القريب؛ ونفسها أيضا في بعض الأحوال، وفجأة يأتيها صوت يأمرها بأنها لو كانت تريد أن تعرف حقيقة أين هي، فلتفتح الكتاب الموجود أمامها، لتفتح الكتاب ونرى الكثير من الشخصيات المصرية الراحلة وبها شارات الحداد، لتصل في النهاية لصورتها هي مع نفس الشارة، أي أنها في القبر حاليا.
لست أدري من هو صاحب فكرة أن تكون هناك شخصية للموت وهو يرتدي القناع ولوازمه من عصا وزي أسود؟ أشك أنه كان في المتن ذاته، وربما هو من تخريجات محمد علام الإخراجية ليخرج من إطار عرض الممثل الواحد، ربما، مع أن الصوت الآخر المسجل والذي كان يتداخل في بعض الأوقات أنهى هذه المهمة من قبل! وعموما وجود تلك الشخصية لم يضف للعرض شيئا بقدر ما قلص، فوجوده أنهى مسبقا المفاجأة في الاكتشاف لعامة المشاهدين، أما خاصتهم فقد أدركوا الأمر من خلال النفق الأرضي والعنوان مسبقا.
ثم الحيلة الاكتشافية في هذا الكتاب كيف؟ وهي أي البطلة من ساعة دخولها علينا وهي تحاول أن تعرف أين هي وزرعت المكان كله ذهابا وإيابا، فكيف لم تفطن لهذا؟! ثم لمحاولة كسر الوجود الأحادي كانت هناك استدعاءات لهياكل تقف تمثل شخصيات ماضية تتحدث معها البطلة، ونفذت عن طريق الخيط الواصل من الأعلى بها فعندما يشد تنتصب أمامنا تلك الدمية مجازا، ولكن التوظيف لم ينجح في إبعادها وقت عدم الحاجة إليها، وربما لو كان استخدم تكنيكا آخر في دخول تلك الهياكل لربما كان جديًّا وترك كل المساحة أمامنا، مع أنه من وجهة نظري لو لم تكن لما قل شيء وربما العكس. وبالطبع، المخرج يعرف أن الاستدعاء لشخصية أو حدث ما بصورة ما من خلال الوجود العقلي والتخيلي للشخصية الرئيسية يتبع مدرسة فنية لها أصولها وقواعدها، لم تتوافر شروطها مسبقا، وهو لم يعمل على تأكيدها لاحقا،
كما أن الزي الأسود الذي ترتديه البطلة قد يناقض الحالة نفسها، ولو كان سار مع المتواتر وارتدت البطلة الزي النقيض لربما كان من خلال الإضاءة استطاع أن يجعلها تبدو أمامنا بأكثر من صورة طبقا للحالة التي عليها في اللحظات المتغيرة.
صحيح أن استخدام المادة الفيلمية وتصوير البطلة في بعض اللحظات، خاصة في مرحلة عبور البرزخ، أو مرحلة عبور النفق، كان استخداما جيدا، ولكنه استخدام لم يكن يعبر عن خيال بقدر ما كان يعبر عن واقع الحالة، والواقع هذا لا يمكن أن يسير مع اللون الأسود للزي المستخدم.
لو اكتفينا بما ذكرناه الآن فقط مع عدم التطرق لخطوط الحركة البسيطة جدا في فضاء متسع، والإشارة لأن الموت هو نحن/ الآخرون من جراء جلوس الشخصية التي تمثله وسط المشاهدين، وهو استخدام لو كان اهتم به من خلال إعادة الكتابة لكان له تأثيره الأكبر، ولكنه لمجرد أن يكون للممثل القائم بالشخصية وجوده فقط، مع أنه موجود وجوبا طبقا للحالة في كل الأنحاء ولا يقتصر على مكان معين!
نقول إن هذه النقاط لو كانت في عرض ما ولم تكن المؤدية بهذا الحضور والتمكن، لأصبح للعرض شأن آخر، ولكن النجاح تحقق لها وبها في الغالب الأعم.
وإذا كان البعض قد يمسك بآرائي السابقة التي لا تؤيد عروض المونودراما وعروض الممثل الواحد، وكيف أنها تتعارض أساسا مع فكرة المسرح الرئيسية، إلا أنني أذكره ببقية رأيي وهو أن هذا النوع يكون في الغالب لتكريم بعض من المؤدين واستعراض قدراتهم، كما أن المخرج خرج عن القالب الأحادي بعملية الصوت المسجل لشخصية أخرى وشخصية الموت هذه، صحيح أنه خروج متواضع لم يؤد إلا لكسر الشكل فقط دون مضمون ولكنه خروج عن تصنيف مهما كانت النتيجة، وبالعودة لنفس رأيي أرى أنه عرض يمثل استعراضا لقدرات نشوى مصطفى لتعلن أنها موجودة بقوة كممثلة مسرح من العيار الرائع، وأن على المؤلفين الكتابة خصيصا لشخصيات صعبة من الممكن أن تؤديها بسهولة.
كما أننا لا يمكن أن نغفل دور إدارة الفن ذاتها في نجاح هذا المنتج، وكيف أنها إدارة واعية بالممكنات ولولاها لما شاهدنا هذا، وقد يكون هذا النجاح دافعا لها للخوض أكبر في منتجات أكثر ترسيخا وإبداعا من خلال عروض أكبر من جهة عدد المؤدين والجمهور المستهدف، اتساقا مع فكرة الفن ذاتها التي تخرج عن نطاق المألوف والعادي.

 


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏