علاش.. هذيان رحم محاصر

علاش..  هذيان رحم محاصر

العدد 630 صدر بتاريخ 23سبتمبر2019

 “من تحت الجلد ستنمو شعيرات جسدي تغتصبني”.. أي فزع أوردها لهذه العبارة؟ من دفعها لأقصى الجدار حتى تكاد تتوارى داخله ؟ وأي أفواه داهمتها ونبتت من تحت أرجلها؟ إنها “عائشة”، بطلة العرض المغربي”علاش” أي لماذا باللهجة المغربية، لفرقة الكواليس للمسرح، الذي عرض ضمن الدورة 26 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، من إخراج وتأليف عبد الفتاح عشيق وسينوغرافيا رفيق عشيق وكيروجرافيا محمد قابة.
 في ركن أيمن من المسرح تظهر في إضاءة حمراء خافتة يحاصرها شحوب أزرق، كبداية مباشرة كلاسيكية تروي فيها بطلة العرض”عائشة” بصوت ضعيف حكايتها وتقدم لها، تحيك ثوبا من بكرة صوف، بحركة توحي باستهلاك يائس للزمن، تظهر خلفها في عمق يسار المسرح، فتاة بثياب بيضاء تجريدية، كنسخة نفسية لعائشة، تضاء بإضاءة ألترا، فتظلم إضاءة الشخصية الأولى؛ النسخة الواقعية التقليدية لعائشة، المستسلمة ككرة الصوف في يدها، الأمر الذي يشعرنا تلقائيا بانقسامها، في نسخ منفصلة تبحث عن أصل ضائع، تلتحم الفتاة بجناحي طائر أبيض يظهر تقنيا في الخلفية، معبرا عن روح تحلم بالخلاص، بعدها تستقر الفتاة في يمين عمق المسرح بجوار لوحة كالسبورة، تؤطرها وتتنتشر في حيزها وحدها الإضاءة الخافتة، محددة حيز الرؤية من المسرح الخاوي من أي قطعة ديكور، عدا هذه السبورة السوداء الشاحبة، يظهر نصف جسد الفتاة الأيسر في الضوء بينما يظل الأيمن في الظل، كلمحة جديدة للانقسام، حتى تبدأ في حركة متسحبة متلفتة، تسند ظهرها على الجدار ملتصقة، تتسحب يدها فاردة أصابعها المتباعدة تتحسس بها الجدار خلفها ببطن يدها، ثم بيديها المقلوبتين للخلف، كما حيوان زاحف يتحرك ملتصق الجسد بالسطح، يستمر تسحبها على امتداد اللوحة الفارغة، بوضع وجهي جانبي لا ينظر للأمام، مغطى بشعرها، مع حركة لليدين والقدمين تبدو مفصلية لا انسيابية، استمرارا لتشويه جروتسكي يثير الألم، صيغ بشكل جيد مرهف، ليتداخل ذلك مع كلمات أغنية كالنواح لغالية بنعلى تعبر عن مكنونها النفسي؛ “من رحم أبي أتيت وأعلم خطأ العبارة..من تحت الجلد ستنمو شعيرات جسدي تغتصبني..”، كمن تلوذ بالذكورة خوف الأنوثة، تتسحب حتى المنتصف خائفة، تنفض عنها بعشوائية فزعة شيئا لا نراه، لتبدأ بجسد مهزوم مرتعد في رسم دائرة حولها بطبشورة بيضاء، تقف في منتصفها بوضع مستسلم كمن يصلب، كمنطقة أمان مصنوعة، تحاصر نفسها فيها لتختبىء، إنها الآن داخلها كما الرحم، في الوقت الذي بدأ تسلل ثلاثة رجال مقنّعين بهيئة شبحية من يمين اللوحة في منطقة الظل حتى يلجون لمنطقة الضوء، يرتدون معاطف وملابس متشابهة مصطفين وراء بعضهم، يتسحبون عند الجدار، يرسمون شيئا بطبشورة كالذيل، نكتشف أنه الخلية التناسلية الذكرية، يصبح ملتصقا بدائرتها الممثلة للرحم، يشق أولهم بيده الدائرة بحدة، في إشارة رمزية لعنف وحالة اغتصاب، مدعمة بصوت خشن على السطح، كمزيد من التجسيد الرمزي، ثم يحاصرها الثلاثة، أحدهم عن يسارها وآخر يمينها والثالث أمامها كطير جارح ينتفض في انقضاضه على فريسته، ليتكالبون عليها جميعا، يغطونها تماما ثلاثتهم، فتجثو على ركبتيها غائبة عن النظر، في مشهد من أفضل مشاهد العرض رمزية وصياغة سينوغرافية وكيروجرافية، يستكمل بوقوفها محاولة بشكل محموم محو الدائرة كمن اكتشفت حملها، لتكون الدائرة الآن بطنها الممتلىء كتوصيف جديد ورمزية جديدة موفقة للدائرة، ترسم جنينا داخلها وثلاثة رؤوس في ذيلها المتصل، فهي حامل في ثلاثة أطفال.  
 استدعى المشهد السابق هذه الحالة الوصفية لما فيه من تفاصيل رمزية ثرية ودقيقة تختزل جذور حكاية “عائشة” وصراعها النفسي، برسمتها التي ستظل باقية في الخلفية، وبتجريد مشابه سنقفز زمنيا ثلاثين سنة صارت عمر أبنائها التوائم الثلاثة، الذين يصبحون نسخة من مغتصبي أمهم، بشكل رمزي قصدي يشير لتطابق الطبيعة الذكورية وامتدادها فيهم يصبح متوقعا، يظهر أولهم في موقف متشاحن مع أمه يحاسبها ويعنفها محاولة الدفاع عن نفسها، ثم يظهر ثلاثتهم معا في هيئة مطابقة لملابس الثلاثة الذين اغتصبوها فيما مضى، لكنهم الآن غير مقنّعين، فكأنما فقط كشفوا عن وجوههم، كامتداد وتوالد لذكورية واحدة وإن كانت من رحم الأنثى الضحية نفسها، فحصار عائشة النفسي والاجتماعي يمتد من رحمها، يتجادل الأبناء غاضبين من أمهم، لنفهم أن أقاويل الناس عنها تطاردهم، ليبدأ الصراع بينهم، بين مهاجم ومدافع، يعلو الصراخ، تطول مشاهد الحوار المسترسل الذي يدور حول معان متقاربة، بشكل يهدر ويخدش بناء تجريديا، وصياغة حركية مرهفة أسست للعرض وتطل بين آن وآخر برمزية وتجريد متميزين.
  تؤكد عائشة بشكل بدا مباشرا أنها “عائشة” إسما لكنها لم تعش أبدا، تكرر سؤال “علاش أو لماذا؟” والذي بدوره يتكرر في حديث أبنائها الساخط، يلعنون جوع السنين والأقاويل، يرسمون بطبشورة حول رسمتها الدائرية، ملامح قرية وجبال حادة الزوايا كذكوريتهم بخطوط مرتعدة كعالمهم الداخلي، فالكل في حقيقته مشوه، مع رموز دينية تشير لمخزون عالمهم الذكوري المشوه، بإدانة ضمنية، يمضي العرض ليعود الحوار الطويل شبه المكرر مسببا ترهلا في بعض الأجزاء مضرا بالإيقاع، فقد كان الأنسب لطبيعة العرض وبنيته، تغليب فترات التعبير الحركي الرمزي النفسي على الحوار الانفعالي الخارجي، خاصة مع السينوغرافيا المتميزة مختزلة التعبير، والتصميم الحركي المختزل  كذلك والدقيق برهافة، والإضاءة الإبداعية في الحقيقة التي صممها حسن فائز، المتماشية مع الحالات المختلفة، المجيدة لحالتي الإخفاء والإظهار، والمؤثرة في تعدد إيحاءات العرض الدرامية وسط ثبات المنظر المسرحي.
 في المشاهد النهائية للعرض، يعود العرض لبوصلته كعرض حركي تجريدي؛ فيزداد اشتدادده، نرى عائشة منقسمة لاثنتين متطابقتين ملابسا وحركة، ترتديان معطفين كمعاطف ذكورالعرض، كمن تلوذ بجلادها، تقفان إحداهما وراء الأخرى، تتساقط الأمامية فتسندها الخلفية، لتصبحا متجاورتين ملتصقتين بوضع متعاكس يثير شعورا بالألم، يعكس فقدا وانشطارا وتشويها، ليبدأ تصاعد مشهد النهاية الصامت، إلا من موسيقى إيقاعية متسارعة، وتصبح الإضاءة في أبدع حالاتها، ممثلة في دولاب ضوئي رأسي مستطيل، يمر من اليسار لليمين على عمق المسرح المظلم، في حركة كالمسح الضوئي، بحيث يؤطر ما يريدنا التركيز عليه، فمرة نجد الذكور وحدهم، أو نرى تجمعا كتليا لهم وراء الأم، كل ذلك مع استمرار حركة الإضاءة الشبيهة بالمسح الضوئي بمن اليسار إلى اليمين وتكرارها، ليستدير الجميع للخلف يمحون بحركة محمومة ما خطّوه جميعا على السبورة من هواجس وانعكاسات نفسية، في عملية تطهير واستشفاء، ثم يستديروا في مواجهتنا، في مراحل تلخيصية تصحيحية، فيتقدم الذكور الثلاثة، لتبقى الفتاتان وراءهم في دلالة ذكورية كتركيز على الداء، ثم تتقدم الفتاتان فتقفان بين الرجال الثلاثة ليصبحون جميعا جنبا إلى جنب، على صف واحد، ليمسك الجميع بأيدي بعضهم، في وضع مساواة تصحيحي بمشهد بليغ، كحل ونهاية لمأساة عائشة، وكل عائشة.


أمل ممدوح