العدد 609 صدر بتاريخ 29أبريل2019
يتميز أي عرض مسرحي، تأليفا وإخراجا، بكونه وثيقة مجتمعية جمالية الصياغة، يطل منها الجمهور المشاهد مع صناعه على الواقع المعيش، ويتلقى وجهة نظرهم فيه عبر بنائه، ليتفاعل معه ومعهم، متحاورا بالإيجاب والسلب حول وجهة نظرهم هذه. كما يتميز العرض المسرحي المتميز، تأليفا وإخراجا أيضا، بقدرته على النفاذ عبر الأزمنة والوقائع المجتمعية المحددة والمعبر عنها، ليخاطب مجتمعات أخرى في أزمنة مختلفة. وبهذا التفاعل بين زمنية العرض وتجاوزها، يتأرجح العرض المسرحي بين مخاطبته لجمهور اليوم القادم للمسرح بحثا عمن يعبر عن همومه المجتمعية الآمل في تغييرها، والمصاغة بصورة جمالية راقية تثير وجدانه وتدفعه للتفكير فيما ينبغي عليه فعله لتغيير ذاته ومجتمعه الذي يعيشه ويرفض ما آل إليه، توازيا مع تفتيشه عن القضايا الإنسانية والقيم الكبرى التي تهتز أمام ناظريه، ويجب عليه استعادتها في رونقها الكلي كي يبقى الإنسان حيا بها ومزدهرا تحت شموسها.
وبمسرح الطليعة (الفضاء الرئيسي)، نلتقي بعرض “شباك مكسور” عن نص بالعنوان نفسه للكاتبة “رشا عبد المنعم”، وإن حمل النص عنوانا فرعيا هو (صنع في مصر) لتحديد هويته المجتمعية وغايته من صنعه، وكُتب النص تقريبا قبل عقد كامل من الزمان، وتمت مناقشته في ندوة حول الكُتاب الشباب، نظمتها الهيئة العربية للمسرح بالقاهرة والإسكندرية عقب ثورة يناير مباشرة، كما ذكرت الكاتبة في معرض حديثها بندوة أخرى عن الكتابة الجديدة، أقامتها الدورة الحادية عشرة للمهرجان القومي للمسرح لعام 2018، ذكرت أن نصها يعتمد على قصة مجتمعية حدثت بالفعل، قتل فيها أب أبناءه بالسم خوفا من الفقر، صاغتها الكاتبة بنهاية مختلفة، وبأسلوب درامي واقعي يحطمه الحديث المباشر مع الجمهور المتخيل والحاضر في المسرح، وقام المخرج «شادي الدالي» مع مصمم سينوجرافيته «وائل عبد الله» بتحويله لعالم تعبيري مشوه المنظور، تميل فيه الحوائط نحو الداخل، مغلفة بإضاءة خلفية تنير المكان بشكل غير مباشر فتقلل من وضوح ملامح الشخصيات الجسدية، صممها «وائل عبد الله»، فضلا عن وجود نافذة مكسور شباكها بمنتصف عمق المنظر المسرحي، وأن اختفت في البدء خلف وقوف الممثلين في الصورة التعبيرية، ومع تحريك الممثلين (الميزانسين) دوما بوسط المسرح، رغم دلالة هذه النافذة الفكرية والدرامية في المسرحية، كما تبدو بعض الشروخ على جدران الغرفة، تماثلا مع تشوه الواقع المعبر عنه مسرحيا، وبداخله تبرز عينة من الشريحة المتوسطة الممزقة من الطبقة الوسطى التي اختارتها الكاتبة لترسم لنا وضع هذه الطبقة وهي في وضع الانهيار والسقوط للقاع المستمر خلال العقود الأربعة السابقة على زمن الكتابة، منذ بداية التحول للنظام الرأسمالي بأسوأ وأخل صوره، من منتصف سبعينات القرن الماضي، فهُجر شبابها خارجيا لمدن التخلف الفكري، وهجن رجالها داخليا بالتهادن والاستسلام للحياة الرتيبة والفكر المتكلس والاقتناع بنظرية «أنهم مجرد تروس في آلة ضخمة» لا دور لهم في تشغيلها أو تغيير مسارها.
تتجسد العينة المختارة أمامنا عبر ثلاثة أجيال أسرية، تتوسطها شخصية الأب «عطية» (أحمد مختار بأدئه الرصين المتميز) السارد لحكايتها، والممثل لجيل الكبار الذي ما زال يعمل ويدير أحوال أسرته الصغيرة اقتصاديا بصعوبة شديدة، فهو رب الأسرة ومركزها، بحكم كونه (الرجل) في هذا المجتمع الصغير والكبير معا المتحمل عبء القيادة، وبضرورة عمله كموظف صغير يتدرج عالمه بدرجات وظيفية وفق الدرجات المتصاعد إليها دون إضافة مالية مجزية، وبوضعية حياته التي يحمل نصف قرن من الزمان على كاهله منها، داخل سياق مجتمعي تتدهور فيه طبقته اجتماعيا وفكريا، ولذا ينتزع من الأسرة حق سرد وقائع الحكاية، التي هي وقائع حياتها ذاتها، مستدعيا شخصياتهم بالحكي، عبر تخيل صورة معلقة بأحد حوائط المنزل، مجسدة شخصياتها كالصورة الفوتوغرافية التي يتحرك كل شخص فيها كلما جاءت حكايته. حيث يسكن بأسرته الصغيرة في بيت متوسط منذ زمن، هو بيت العائلة الذي آلت ملكيته له، دون أن يستطيع تطويره إلى ما هو أفضل معيشيا له ولأسرته، يعاني من الفقر والخلل الفكري والإحباط حيث كانت له، طفلا، أحلاما في أن يكون ذا شأن، فصار مجرد موظف صغير، وأضحى معتادا على تسريب أسرار عائلته لخارج منزله فصار مكشوفا للجميع، واقتحام الروائح الكريهة المنبعثة عن مخلفات الجيران الملقاة في الفضاء المطلة عليها النافذة المحطمة، فأضحى معتادا على الانحدار وأمست (الخرابة) مشروعة لهم.
الحكي على صورة العائلة المعلقة، الذي لم يعد الأب هو متوسطها، رغم مركزية وجوده داخل الأسرة، فقد نجح الجار المدعو «جمعة» (مجدي عبيد بخفة ظله وحيويته) بدوره في مساعدة الأسرة، حيث يعمل في النص المكتوب أمينا للشرطة، نجح في إزاحته من منتصف اللوحة، ليقفز للبيت في أي وقت ويتحرك فيه بحرية، فهو العارف بكل أسرار العائلة وأسرار الحي، له إتاواته الدائمة عليها وعليهم مقابل حمايتها وحمايتهم والوقوف إلى جوارها وجوارهم في الأمور المتعلقة بقسم الشرطة، فثمة اتفاق بين الطرفين قوامه التواطؤ والاستسلام والاحتياج الأمني له، ونظريته في الحياة والعمل هي من يطلب «الحق هو اللي يدفع المستحق».
وبين المركزيتين مركزية الأب (المزاحة) ومركزية الجار (المحتلة) لفضاء الصورة والحياة، تبرز الزوجة “فاطمة” (نادية شكري ببراعة أدائها وفهمها للشخصية)، من جيل الأب نفسه: متدينة ظاهريا كأغلب نساء هذه الشريحة التي سايرت أفكار التخلف في مظهرها الخارجي، بينما باطنها نقيض ذلك، فهي مدرسة بمدرسة ابتدائية حكومية، لا تقوم بتدريس الدروس الخصوصية لأنها «حرام»، لكنها لا تقوم في الوقت نفسه بأداء عملها في التدريس على ما يرام، وتمارس هواية تعذيب تلاميذها في المدرسة، بصورة بشعة، ونظريتها في التعليم والحياة «اكسر للعيل ضلع يطلع له أربعة»، وهي موفرة في البيت ورأيها تلخصه عبارة “أكل الطبيخ البايت ولا دلقه”.
قراءة لمسيرة الأجيال من على أرض الواقع، تقدمها المسرحية، منتقلة من حضور جيل الكبار، بحضور جيلي العجائز والشباب: يمثل الأول (الجدة) «لواحظ» (ربا شريف بصوتها الحاد النمطي) العاجزة عن الفعل، بعد أن انتهى دورها بخروجها على المعاش، تظل جالسة طوال الوقت على مقعد متحرك، لتشي بشللها أو كونها قعيدة، منشغلة دوما بالمشاكسة مع أسرتها والثرثرة تليفونيا مع آخرين غائبين عن مشاركتها حياتها الجديدة، ومنهم رجال الإسعاف والمطافئ رعبا من الموت المفاجئ، متحدثة معهم عبر موبايل دون (خط) شبكة، فتخلق عالما افتراضيا خاصا بها، تمنح ابنها «عطية» معاشها الصغير لتعيش به وتتخيل أنها تنفق منه عليه وعلى وأسرته، بعد أن باتت خارج نطاق الفعل المؤثر في حياة الأسرة والمجتمع معا.
لقد هرم جيل العجائز وصار قعيدا عن الفعل، وتحجر جيل الكبار مستسلما للأمر الواقع المنهار، وفقا لرؤية المسرحية، في زمن الكتابة أو زمن العرض، وحتى جيل الشباب قد صار براجماتيا، في إدانة واضحة لكل أجيال هذه الشريحة من الطبقة المتوسطة، بعد أن فقدت قدرتها على الفعل المؤثر في المجتمع، تمثلا هنا في الابن «حبيب» (مروان فيصل بحيويته وخطوط حركته الحادة) الطالب بقسم الفلسفة بكلية الآداب، السفسطائي المتشدق دوما بالحديث عن «هيجل» وضرورة التغيير، وفهم المتغيرات في المجتمع التي تحول الإنسان فيه إلى عبد، والتي ينبغي على الإنسان العمل لتغيير الأوضاع المستجدة ليعود إنسانا، متخلصا من عبوديته لقيود الواقع، ومع ذلك فهو انتهازي يمنح صوته في الانتخابات لمن يدفع أكثر، أو توجد مصالحه معه، سواء أكان إخوانيا أو ناصريا أو ملكيا أو ساداتيا، مكتفيا بالحديث عن نظرية النوافذ المحطمة في علم الإجرام، والقائلة بأن نافذة واحدة مكسورة في مصنع أو بيت تفسده وتجذب اللصوص والمتشردين والروائح الكريهة بالتبعية له، دون أن يعمل على إصلاحها، بل يشارك في زيادة عدد النوافذ المكسورة لتعم الفوضى ويزداد عدد اللصوص وروائح مخلفات الجيران الكريهة والأسرة ذاتها، المعتاد العيش معها، باعتبارها الواقع المتكلس الذي لا يمكن تغييره، ولا يجد من يغيره.
تتزامن معه جيليا أخته “إيمان” (مروى كشك بصوتها المرتفع)، التي يناديها الأب باسم جدتها (لواحظ) الرافضة له، لأنه عند مولدها قرر أن يسميها على اسم أمه، معيدا بها حضور جيل العجائز، غير أن الشابة «إيمان» تعمل على تأكيد ذاتها وجيلها برفض حملها اسم جدتها، ورفض مشابهتها في وضعية وجودها المتكلسة داخل الأسرة، وذلك عبر أفعال شرسة، تفقدها في البدء الشباب القادم لخطبتها، وأخيرا تتزوج زواجا فاشلا ويخرج زوجها من المنزل دون عودة بعد ثلاث سنوات زواج، تاركا لها طفلين، وتاركا وظيفته كموظف للحسابات، وسائقا لسيارة أجرة، قذفته للشارع المليء بالرعب الذي أفقده مروءته وقدرته على المواجهة. وأخيرا تبرز رمز الجيل القادم “سمر” (هند سلامة بخفة ظلها) الابنة الصغرى، في مرحلة الثانوية العامة، المغرمة بحكايات الشياطين التي تنقلها لأختها الكبرى «إيمان»، بعد أن انغمس عقلها البريء في الميتافيزيقا والخزعبلات.
حكايات صغيرة يحكيها الأب عن أسرته الغائبة بيده، وحوارات متداخلة لأفراد الأسرة تبعثها من مرقدها لتقدم نفسها ورؤيتها للعالم، في ومضات سريعة تشارك في تحطيم واقعية الحدث الدرامي، وتعمل على إحالته لعالم تعبيري، كما ذكرنا سلفا، مركزة على الأب السارد لهذه الحكايات وشخصياتها، والبارزة من خلال لاوعيه المستدعي لها دون ترتيب بالمنطق الواقعي، والصاعدة معه من مجرد حكاية عابرة، لتمثيل شريحة من طبقة متخلخل وجودها ومتأزم مستقبلها، غير أن رغبة الكاتبة اللاواعية في إزاحة التشاؤم من أمامها ناظريها، والمخالفة مع القصة الواقعية، تعلقا بالأمل في حياة أفضل، جعلها تنهي المسرحية نهاية سعيدة، فبدلا من أن يقتل الأب أسرته بالسم في وجبة مكرونة يصنعها لها، يفاجأ أن السم مغشوش وغير مؤثر، لأنه ككل شيء مغشوش، صنع في مصر، فلم يأتِ موت الأسرة نتيجة لقرار تراجع هو عنه، بل بسبب عدم فاعلية السلاح المستخدم في القتل.
أدانت الكاتبة ومخرج مسرحيتها كل الأجيال، ومع ذلك لم يجدا معا مبررا للحكم بالموت عليها وعلى ما تمثله في المجتمع، بل منحاها حق الحياة والرقص والضحك، دونما ما أمل في امتلاكها للوعي الذي يدفعها لتغيير ذاتها، مما ينعكس بالسلب على الجمهور المتلقي، الذي يجد الواقع أكثر شراسة وحدة من الفن، ويقتنع بأن الخلل القائم في المجتمع أمر لا فكاك منه، وبأن الحياة لا بد وأن تستمر مهما بلغت قسوتها، ومهما تشابهت مع الموت ذاته.
ومع رفضنا القاطع للقتل بسبب الفقر، الذي ارتكزت عليه الحكاية الواقعية، فإننا نختلف مع الكاتبة والعرض الذي لم يقدم لنا بديلا عن مواجهة القتل رعبا من الفقر، ولم تكشف حكاية الأب عن الدافع الحقيقي لسعيه لقتل أسرته، كما أن حكايته ذاتها، وحكايات أفراد أسرته لم تتعرض بصورة جلية لقضية (الفقر) كقضية محورية للمسرحية، بقدر ما تعرضت لموضوعات التخلف والفساد والبراجماتية والتعلق الظاهري بالتدين، وهي موضوعات نتاج خلل في المجتمع، تسري بين كل الطبقات اليوم، وليست فقط نتاجا للفقر وحده، وهي قضايا محلية، لكنها ذات حضور إنساني كبير، ترتبط فيه الموضوعات بالمقدمات المستشرية في المجتمعات عامة.