فرقة زكي أفندي المسرحية.. تجربة رائدة في مسرح القرية

فرقة زكي أفندي المسرحية.. تجربة رائدة في مسرح القرية

العدد 723 صدر بتاريخ 5يوليو2021

 المسرح هو فن المغامرة والبحث عن صيغ تجريبية دائماً لذا نراه عبر تاريخه الطويل قد تعددت أشكاله من خلال تنوع طرق الأداء في التمثيل والتأليف والإخراج ويكاد يكون هو أكثر الفنون كسراً للنمط ، فما أكثر المحاولات الجادة للخروج عن الشكل التقليدي للمسرح من أجل الوصول بذائقة الجماهير إلى حالات متعددة من الدهشة ، وهذا التجريب لا يتأتى إلا من خلال مبادرات فنية فردية كانت أو جماعية ترتبط بالواقع السياسي والاجتماعي ، فالتجريب – في أحد جوانبه – مرتبط بالعنصر الزماني والمكاني ، الذي يهيئ للعملية التجريبية فضاءً مختلفاً بالإيجاب أو السلب . والحركة المسرحية – في الأساس – عبارة عن وسيلة تستنهض الوعي الشعبي في محاولة لالتقاط التفاصيل الدقيقة المسكوت عنها في بنية المجتمع ، وربما هذا المعنى يأخذنا إلى مستوى المشاركة الشعبية فى لغة المسرح المعقد ، والتي تحولت مع مرور الزمن في لغة وسطى تأخذ من جانب التلقي قدر ما تأخذ من جانب التلقي قدر ما تأخذ من جانب التأليف الدرامي ، بما في ذلك من كسر لنمطية الأداء والثورة على القوالب الجامدة المتعارف عليها في المسرح القديم .
فبدأنا نرى فى مصر – على سبيل المثال – مع بداية السبعينيات حركة فنية تتجه بالمسرح إلى الداخل أشبه بفرق المسرح الشعبي فى أمريكا اللاتينية فى الستينيات والتي وضعت نصب عينيها تشكيل مساحة إنتاج فني تتوجه الأنماط الروحية والمادية السائدة فيها صوب تغيير المجتمع .
ولنأخذ مثالاً على ذلك “ فرقة مسرح الفن الشعبي “ والتي ظهرت في “ يوجوتا “ عام 1964 والتي جاءت فى وثيقة إعلان مبادئها ما يلي “ نحن نعرف أهدافنا ولكننا نواجه مشكلة ندرة دور العرض المسرحي التي تسمح لنا بتطبيق المسرح الذي نريده كما نواجه مشكلة قلة الجمهور الذي يمكنه الحضور لصالات عروضنا بصورة دائمة ، ولذلك لا نتخلى عن أهدافنا وسنبحث عن جمهور يرى مسرحنا من داخل المدارس وصالات الأحياء الشعبية والنقابات والميادين وعواصم المحافظات والقرى “ .
وربما الذي قصدته من وراء إيراد ذلك المقتطف من أهداف الفرقة أن أشير إلى تجربة رائدة في هذا المجال قادها الفنان المتميز عبد العزيز مخيون الذي قدم رؤية مسرحية مغايرة في منتصف السبعينيات ، وعلى مدار أربع سنوات فى الفترة مابين 1974 حتى 1977 ، بقرية : زكى أفندي “ بمركز أبو حمص بمحافظة البحيرة .
وعلى حد تعبير “ مخيون “ فقد بدأت التجربة من سؤال قلق رواده لحظة قدومه من القرية إلى القاهرة حول ماهية المسرح ، خاصة وقد جاء إلى المدينة محملاً بإرث ثقافي تكون من خلال الطقوس الشعبية فى القرية ، كذلك بعد قراءته لكتاب “ قالبنا المسرحي “ لرائد المسرح العربي توفيق الحكيم ومقدمه د. يوسف إدريس لمسرحيته “ الفرافير “ والتي أشار فيها إلى أن المسرح الحقيقي مرهون بطاقاته التجريبية .
وبالفعل بدأ “ مخيون “ تطبيق ما قرأ عملياً فأعد العدة ونزل إلى قرية زكى أفندي – وهى قرية صغيرة جداً تنتمي إلى بيئة زراعية محضة – تكاد أن تكون نسبة التعليم فيها ضئيلة للغاية ، وللوهلة الأولى ربما نعتقد أن ذلك سيشكل عقبة  في طريق نجاح التجربة ، لكن كان لصلة “ عبد العزيز مخيون “ بالمكان أثر كبير في تنفيذ جزء أساسي من التدريبات الفنية التي أشرك فيها عدداً لا بأس به من أهل القرية ، أما ما شكل عقبة كبرى في طريقه أنه كان ينوى أن يكون نص المسرحية قائماً على الجمع الميداني والحكي الشعبي من خلال رؤية متكاملة يشارك فيها الجميع ، لكن اصطدم هذا الحلم ببيروقراطية الأداء المؤسسي في وزارة الثقافة من ناحية ومن ناحية أخرى بالطابع المتشدد للرقابة ، فقد اشترطوا وجود نص مكتوب ، رغم أن مخيون كان ينوى العمل على المادة والفكرة ، ومع ذلك لم يرد أن يجهض حلمه في تكوين فرقة مسرحية من البسطاء ، فجاء بنص مسرحي لأستاذه توفيق الحكيم تحت عنوان “ الصفقة “ وبدأ يدرب عليها الفلاحين الذين غيروا المسرح التقليدي “ القاعة الإيطالية “ أو مسرح “ العلبة “ من خلال تدريبهم فى الحقل ، أو على حد تعبيره “ الواقع فرض نفسه فكون الشكل الفني “ .
فكنا نلاحظ المتفرجين فى أسطح المنازل وفى الجرن وتحت الأشجار وبهذا تم توظيف المكان كعنصر درامي ، رغم الخطاب السوسيو اجتماعي داخل بنية النص المسرحي الذي أحدث نوعاً من الصدام مع المؤسسة الثقافية والسياسية التي طالبت بتغيير الفصل الثالث وإلا سوف يلغى العرض وبالفعل توسط الراحل سعدالدين وهبة بين الطرفين ، ثم تم الاتفاق على تكملة المسرحية بفصل بديل .
بعد ذلك أراد “ عبد العزيز مخيون “ أن يوسع من رقعة الاستقلال الفني لتجربته من خلال استنطاق النص المسرحي على اعتبار كينونته وتأثيره على أساس أن المسرح – فى حد ذاته – هو الصراع والنص ليس إلا تطوراً لهذا الصراع فى قضاياه وأُطروحاته من أجل إطلاق العنان لتيمة الارتجال التي تنبني على المنطق الداخلي للعمل ، مع إعطاء كل ممثل الاتفاق فرصة للإسهام في التحليل وتكوين العرض .
ومن هنا جاءت المسرحية الثانية “ الدقيق “ والتي ناقشت قضية الدعم الحكومي لدقيق التموين الذي يسرقه الموظفون ويوزعونه فيما بينهم ، وقد بنى الأسلوب الفنى على أساس الجمع الميداني بالإضافة إلى قيامه على تيمة الرواية ، من خلال فلاح حكواتى ، أما السينوغرافيا فجاءت ملائمة للحدث بسيطة جداً مكونة من ثلاث كلوبات موقدة على عصا وفروع الشجر والظلام يملأ المكان ، ثم يبدأ الراوي / الحكواتى فى رصد تفاصيل المسرحية .
ثم جاءت مسرحية “ الانتخابات “ والتي شهدت مضايقات أمنية كثيرة ، رغم أنها قد لاقت ترحيباً دولياً لدرجة أن مهرجان “ نانس “ المسرحي بفرنسا قد أرسل مندوباً ليشاهد العرض إلا أن الأمن منعه من الدخول إل القرية .
وفى تعليقه على التجربة قال لي الفنان “ عبد العزيز مخيون “ هذه تجربة علمتني وفتحت لى آفاقاً جديدة فى فن المسرح ، فلا يمكن أن نتعاطى الأشكال الفنية ، سواء أكانت مسرحاً أو سينما أو عمارة أو أي ثقافة وافدة من الغرب دون أن نتأملها ونطورها فى الواقع المُعاش كذلك لابد من الاستفادة من التراث المصري والعربي .
هي تجربة عرفتني أن الجمهور العادي متعطش للثقافة والفن الذي يقدم رؤية للمجتمع مغلفة بطابع إنساني.


عيد عبد الحليم