عظام أنتيجون (3)

عظام أنتيجون (3)

العدد 817 صدر بتاريخ 24أبريل2023

لقد أمضيت وقتا طويلا مع عمل جولدمان لأنه ميز –في فجر الظهور النقدي لدراسات الأداء– أحد بدائل الاستراتيجية النقدية لفهم العمل الدرامي بين الشاعرية والأداء. فمن خلال قراءة الدراما في 1975, وفر جولدمان فكرة مقاومة الإفراط في التحديد الوهمي للأدب في المسرح, وقدم طريقة نموذجية للتشبث بخصوصية الكتابة الدرامية باعتبارها مواجهة مع التجسيد, ووسيلة لتأمل الكتابة كوسيلة للفعل، فضلا عن اعتبارها نصا له خضوع. ولم يكن جولدمان وحده, فتوفيق برنارد بيكرمان بين «النشاط» و»الفعل» يستفيد أيضا من التحليل الدرامي خارج النص، ويصوغ المسرح الدرامي كنشاط شامل, مما يستدعي جهدا أوسع لمتابعة إعادة الصياغة النقدية والنظرية للكتابة الدرامية في الأداء: لم تلزم النظرية الدرامية نفسها بما يكفي لتحليل دقيق للنشاط المسرحي, وذلك لأنها, في المقام الأول, نظرت إلى المسرح على أنه تركيب من الكلمات وليس الفعاليات؛ «اللغة ليست وسيلة الدراما كنموذج للفن المسرحي, ولكن الوجود البشري هو النموذج (...)؛ إذ يقوم الممثل الذي يقدم عملا خياليا بجهد مزدوج: إظهار المهارة الفعلية, وتصوير الوجود الافتراضي». 
     ومن خلال الاستفادة من الإدراك المتأخر, أفترض أنه من الممكن اقتراح سبب عدم اتباع الطرق الموضحة في مثل هذه الدراسات لصالح جداول أعمال أخرى عاجلة: فبعض مصطلحات جولدمان الرئيسية (الغياب/ الحضور) -على سبيل المثال- سوف تظهر بقوة تحت علامة التفكيك المنسوب إلى دريدا، على الرغم من اهتمام كتاب (حرية الممثل) بالتمثيل والمسرح, فإن هناك لحظات قليلة في التمثيل والمسرح: الممثلون والمسرحيات التي يؤدونها والجمهور الذي يؤدون أمامه, غالبا ما يكونون غير مميزين بالجنس أو العرق أو الموقع؛ إذ يتضمن المسرح الغربي وجود البدائي –المستمد من الثقافات التقليدية مثلما هو مستمد من لعب الأطفال– دون الكثير من الوعي بالذات الصريح بأفعال الاستيلاء التي قد ينطوي عليها مثل هذا النقل الثقافي (وقد نثير ترددا مماثلا فيما يتعلق بأعمال شيكنر وفيكتور تيرنر في السبعينيات من القرن الماضي). وحتى عملية التطابق, وهي إحدى الطرق التي يرتبط بها «حرية الممثل» بأعمال جولدمان في وقت لاحق, تنجح في تجنب الهويات المحددة للمشاركين, مما يعزز الإحساس بأن مشروع تحديد مسرح التمثيل ملتزم أخيرا بفتح استراتيجيات قراءة جديدة. ومع ذلك, حتى عند قيام جولدمان وبيكرمان بإعادة توجيه القراءة, فإن ما نقرأه عندما نقرأ الدراما ليس علاقة جوهرية بين الكلمات على الصفحة، ولكن الطرق التي يمكن بها فهم الكتابة لتحفيز السلوك, والفعل يتوقف على وسائل مسرح تاريخي معين وأيديولوجيات التمثيل والفعل والمشاهدة والرؤية التي تحققه. يقف هذا المنظور وراء كتاب «المسرح والجسد والمتعة Theater, Body and Pleasure» لسيمون شيبرد, الذي يقرأ بشكل إيحائي مطالب تجسيد أدوار محددة في تاريخ المسرح الغربي (هورنر وهاركورت في مسرحية ويشرلي «الزوجة الريفيةThe county Wife «, وهيرود في دراما القرون الوسطى, وتمبرلين في مسرحية مارلو), وتوثيق كيف أن الأجسام التمثيلية التي شكلها الأداء الدرامي مخصصة لأنواع معينة من النصوص والمسرح, من ثم يتم تشكيلها من خلال الإيقاع الدرامي للنص والمساهمة فيه. وبتوقع حالة التفاعل المستمر بين الأرشيف والريبرتوار, فتح جولدمان وبيكرمان وآخرون وسيلة للاهتمام بخصوصيات الأداء الدرامي الذي بدأ يدرك الآن فقط تراثهم الثقافي والنظري. 
     هناك بالكاد موت في الكتابة عن الدراما. ومع ذلك، فإن الكثير من هذا النقد يهتم بجعل الكتابة الدرامية تؤدي إلى مجموعة من المواقف البلاغية والتنظيرية والأيديولوجية غير المسرحية, وحتى النقد الموجه للأداء كثيرا ما يتتبع الغرض من النقد إلى الأداء كتفسير: كيف يقدم زيفارلليو لورمان تفسيرا مختلفا لمسرحيات شكسبير؟. تأكد من الاستشهاد بأمثلة من النص. حتى أكثر قراءات الدراما شهرة تحت علامة دراسات الأداء -أفكر هنا في مسرحية جوزيف روش الفذة عن زيارة سفراء إيروكوا لماكبث عام 1710, أو استبدال تيموثي رافائيل لهاملت في خطاب رونالد ريجان العسكري أمام المقبرة التي دُفن فيها أعضاء جماعة وافن- تشارك في المقام الأول في السرد الدرامي والبعد الموضوعي كأداة تحليلية للتفكير في العواقب الثقافية للأحداث السياسية أو إعادة بناء حدث مسرحي معين لتشكيل دلالة الاتجاهات الثقافية الأعمق ومشاركتها. وقد لاحظ جون ماكينزي أن المعايير المميزة لدراسات الأداء تعمل في أي موقف يصبح فيه تقويم التعدي الحدي أو المقاومة نفسها معياريين, وغالبا ما توضع الكتابة الدرامية والأداء بشكل أساسي عبر عتبة هذا المفهوم الذاتي المتحول. ومع ذلك, فقد سجل أثر دراسات الأداء في استيعاب أولوياتها النقدية بطرق تغير حدود المجال وما يعنيه تجاوزه. وفيما يمكن اعتباره إشارة خاصة بالنقد الدرامي – مقاومة قراءة الأداء الدرامي باعتبارها إضاءة للنص, ورد الفعل المتبادل على استخدام الكتابة في تقاليد تجسيد الأداء (الأدائية) منذ أن عمل كتاب «حرية الممثل « -على الأقل- على منح الامتياز للوظيفة المحددة للأدب بقدر ما عمل على إعادة صياغة الوساطة المحتملة للكتابة في إعادة تشكيل السطح المشترك بين الأرشيف والريبرتوار, والكتابة والسلوك. 
     النظرية الدرامية الحديثة ليست ضد التفسير بالضبط, ولكن بمقاومتها لنماذج أولوية النص على الأداء, فإنها تقاوم بالضرورة الوصف التفسيري للمسرح ونماذج القراءة والكتابة والأداء التي تعززها, والنماذج الضرورية لدخول الدراما في الأرشيف. وبهذا المعنى, تروج النظرية الدرامية المعاصرة لطرق بديلة لقراءة الدراما, والاستراتيجيات التي تقاوم التحديد الأدبي للمسرح الدرامي ونصية الأداء التي ينطوي عليها. وهنا, أود أن أقدم أربعة نقاد بارزين في الحوار -هيربرت بلو وكتابه «المشاهدينThe Audience « (1990), وكتاب ستانتون جارنر ج.ر «مساحات جسدية: الفينومينولوجيا والأداء في الدراما المعاصرةBodied Spaces : Phenomenology and performance in Modern Drama» (1994), وكتاب بنيامين بينيت «كل مسرح هو مسرح ثوري All Theater is Revolutionary Theater» (2005), وكتاب هانز سيز ليمان «المسرح بعد الدراميPostdramatic Theater» (1999,2006)– كوسيلة لتحدي التطابق الأدبي للدراما مع وظيفة الكتابة في الأداء المجسد: وهي القضايا التي تضع الدراما عبر الحدود القابلة للاختراق من دراسات الأداء. 
 يلاحظ ستانتون جارنر أثر دراسات الأداء عندما يقول: 
 الأداء الدرامي, الذي غالبا ما يتم الحفاظ عليه, ليس سوى أحد فروع الأداء المسرحي (فهو في حد ذاته أحد فروع الأداء بمعناه الأوسع، وهـو تصنيـف ازدهر لكي يشمـل أداء الفـنون الوسائطيـة الأخـرى والطقوس مختلف أشكال الأداء الاجتماعي). 
ويواجه كتابه «مساحات جسدية « هذا التحدي علنا حين يقول: 
الدراسة التي تهتم بالعوامل الفينومينولوجية في الأداء المسرحي يجب أن تُوصل بحثها عمومـا بالإشارة إلى النص الدرامـي، تلك الأداة  التوجيهية التي سعت السلطة الأدبية لنظرية الأداء التقليدية المعاصرة إلى الإطاحة به. 
المطلوب, بالنسبة لجارنر, ليس رفض الأداء الدرامي كأداء, ولكن المطلوب مفهوم مختلف بشكل ملحوظ للنص الدرامي عن ذلك المتعلق بالدراسة الأدبية التقليدية. ففي الوقت الذي يرفض فيه جولدمان الوصف الأدبي للدراما كي يتابع وسائليتها في مسرح التمثيل, يلح جارنر على نموذج فينومينولوجي لقراءة قادرة على وصف التذبذب الغريب بين فن القص على خشبة المسرح والمشاركة المركبة للحدث الدرامي, وهو مجال لا يتضمن فقط المتفرج والمؤدي الذي يقدم جسمه للمشاهدة؛ بل أيضا الشخصية التي يجسدها هذا المؤدي. 
يقترح جارنر وسيلة لقراءة النص الدرامي لاكتشاف مجموعة التجليات الفينومينولوجية التي يحفزها داخل تقاليد المسرحانية الغربية المعاصرة المضمرة. وهنا لا تحكم الكتابة الدرامية الحدث المسرحي ولا تعتبره مجرد تفسير, ولا تفهمه بشكل أساسي من منظور الممثل؛ فالنص بدلا من ذلك يقدم وسيلة لفهم واستكشاف وتنظير الاستخدامات الاجتماعية والمكانية للأداء, والتجليات الجسدية الخاصة والتوجهات المفاهيمية, علاوة على السجل التاريخي للمواجهات السابقة. وبرسم العلاقات المتعددة للكتابة في لحظة الأداء, وعملها في مجال المسرح بين الجسدي, وعدم التمسك بالمسرح من حيث الحضور، ولكن من حيث التقديم, يقاوم كتاب «مساحات جسدية» أخيرا الدور المنطقي للنص في الأداء, ويقاوم أيضا –بشكل لافت للنظر, بطرق تشبه طرق كونكرجود وتايلور- تطبيق النص المنسوب إلى جريتز على الثقافة المجسدة. وينفذ صبر جارنر أيضا مع تجريد الجسم كما هو متضمن في النص وهي الحالة الواضحة التي أرسلت بها النظرية المعاصرة الجسم الظاهراتي (أو الحي) لصالح التمثيل أو الدلالة. وفي تسعينيات القرن الماضي, قدم الجسم داخل النسق الاستطرادي تأثيرا حاسما على الفاعلية الاجتماعية والسياسية للهويات المجسدة, ولكن من حيث الأداء الدامي, يوضح تحويل الجسم إلى علامة نصية, وقراءة معانيه بمصطلحات رمزية أو سيميوطيقية بحتة, نموذجا للتجسيد والمشاهدة الأرسطية بشكل أساسي في خطوطها العريضة: حيث يقدم المسرح معانيه تحت نظر متفرج متميز يقف أو يجلس -إن جاز التعبير- خارج ظروف العرض. ربما تكون أنتيجون عظاما في الأرشيف, ولكن العلاقات التي تساعدنا على تقديمها, وتسكينها وأدائها ينبثق من التجليات الخاصة لصيغ المواجهة المسرحية. والأهم من ذلك أن الدراما ترمز إلى نماذج مكانية تجعل الرموز الظاهراتية التي نعيش بها في العالم مقرؤة – وتغترب عنها في نفس الوقت. 
     لا تتوافق جهود جارنر لإضفاء الطابع المكاني على العلاقات المجسدة مع الاعتبارات الفينومينولوجية للدراما فقط, ولكنها تتوافق أيضا مع الجهود المبذولة لإشراك الأداء المادي للفراغ والمكان في الأداء الدرامي. ويمكن وصف عمل هربرت بلو, مع صعوبته, بأنه استيعاب النقد المعاصر للدراما في تقاليد أدبية وفلسفية طويلة من خلال الأفكار المكتسبة من الأداء نفسه. ففي الوقت الذي يستخدم فيه جولدمان الكتابة الدرامية لاكتشاف الفعل في مسرح التمثيل, يسأل بلو (المؤسس المشارك والمخرج المشارك لورشة الممثلين في سان فرانسيسكو, والمخرج المشارك لمركز لنكولن للمسرح التذكاري, ومخرج عرض «كراكان KRAKEN»): كيف يمكن تشارك الكتابة والتجسيد أحيانا وبشكل غير متوقع في المسرح, وسلسلة كتبه المهمة قد توصف بأنها «توسيط, من خلال تلك التجربة المسرحية, في ديناميات الاختفاء», وهي ديناميات تحدث في كتابات بلو في الغالب عند التفاعل بين تاريخية الكتابة وفورية الفعل. 
يشارك عمل بلو بعمق في الأهمية المادية والإلحاح الفلسفي للفكر الدموي في الأداء. ورغم ذلك يمكننا أن نلتقط الخيط هنا لما يبدو شذوذا منزوع السلاح: تورط بلو مع ت.س. إليوت في تأطير المشاهدين؛ إذ يتردد صدى تاريخ النقد الدرامي من خلال الجمهور, بما في ذلك الدراسات البارزة في خمسينيات القرن الماضي –كينيث بروك بالطبع, ولكن أيضا فرانسيس فيرجيسون وإريك بنتلي مع دريدا وباتلر– حيث قدمت ممارسة إليوت ونظريته في «الدراما الشاعرية Poetic Drama» مثالا على المسرح غير التقليدي المقاوم مسرحيا, أو حتى بعد درامي, قبل هجوم بيكيت ويونسكو وجينيه وآخرين. وعلى الرغم من أن بلو يرى بالكاد أن النص الدرامي يحدد الأداء, فإنه ليس لديه مشكلة مع الشعر في المسرح: نفاذ صبر ييتس مع الامتداد السردي وآليات المصداقية في كشف الحبكة التي يتم تقديمها كمثال على الأداء على حافة غير قابلة للتمثيل (قد نتذكر أن كل من بلو في قسم الدراما بجامعة ستانفورد, وجودمان في قسم اللغة الإنجليزية في برينستون, قد تحدثا عن القوة المسرحية في أعمال ييتس المسرحية في أطروحات الدكتوراة الخاصة بهم). فبالنسبة لإليوت تنزلق الكلمات بدون دقة, مهما كان لفظهم سيئا, أو متناغما, ما دام يمكنك توضيحها, فهناك تراكم اجتماعي شديد اللزوجة يحمل في سياسات اللاوعي وصمة عار التاريخ. تحمل الكتابة وصمة عار التاريخ للأداء. ولكن، على الرغم من أن الفرق بين الفن والحدث فرق مطلق دائما, (استدعاء تمييز إليوت للتقاليد والموهبة الفردية), فإن استيعاب العمل الفني –الكتابة في هذه الحالة– في الحدث هو الذي على المحك في الأداء الدرامي, «التدفق غير القابل لتحديد الفن في الحياة يقابله توغل مستمر للحياة في الفن». وهذا التمييز بالنسبة لبلو وكذلك بنتلي يجر إليوت إلى فلك أكثر المسرحيين انتشارا في العصر الحديث, وهو برتولت بريخت, ويحدد مكان الكتابة في الأداء الدرامي: فالمسرح لا يستند على اللغة المنصوص عليها؛ بل يمكنه –أحيانا في بعض الأشكال– أن يتبلور خلال إعادة بناء الفن الشفهي كحدث حي. 
بالنسبة لبلو, تتغلغل الدراما والنظرية في كل منهما الأخرى كوسيلة للفكر. فعلى الرغم من استخدام المسرح للنصوص, وهذه النصوص دائما في حالة حركة, وتفكر في الأداء ومن خلاله, وليس مكانه وبدون تحديده مسبقا, فإن النصوص تلعب خارج التوقعات باعتبار أن قابليتها للتغيير هي التي تشكل تاريخ النص في الأداء, أو نص الأداء. ويلاحظ بلو بإعجاب أن اللحظة التي ظهر فيها الأداء على الساحة ليضع نفسه في مواجهة المسرح –وهو مرتبط بالهجوم الأوديبي المضاد على مركزية العقل– كانت فترة في لغة الجسد, أو غير اللفظية, أو اللفظية الفصامية, التي كانت أيضا ضد التفسير. مثل التحليل النفسي, ومثل عقدة أوديب, فإن الهجوم اللامتناهي على اللغة هو أحد مكونات الأداء الدرامي نفسه. 
 مهما كان الأسلوب, سواء كان نصا هرميا أو واقعيا, منصوص عليه أو غير منصوص عليه, ضعه في صندوق وأخفيه, وفككه إن أردت -- يختفي المسرح تحت أي ظروف,  ولكن مع انتشار المادة اللاصقة في كل مكان, من جثة شقيق أنتيجون إلى مومياء ستراندبرج, إلى جثة ميديا عند يونسكو, فإنها موجودة عندما ننظر.


ترجمة أحمد عبد الفتاح