أنا مش مسئول.. إذا فمن المسئول!؟

أنا مش مسئول.. إذا فمن المسئول!؟

العدد 587 صدر بتاريخ 26نوفمبر2018

أصبحنا نحيا في مجتمع يعاني الكثير من الأزمات على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أزمات تطرحه أرضا وتدفعه إلى الاضمحلال يومًا بعد يوم، ولذلك فلا محالة من أن تتأثر الفنون السبع بهذا الاضمحلال؛ فكيف ترتقي الفنون في مثل تلك الأوضاع المتردية! فنحن نرى الآن هذا التراجع الذي تعاني منه الفنون حاليًا من خلال شيوع الإسفاف والابتذال وحيث تصبح الاستهانة بعقل المتلقي شعارًا يسير على نهجه البعض، بالمقابل لا يمكن أن نغفل محاولات الكثيرين من المبدعين في كل المجالات الفنية للارتقاء بمستوى ذهن المتلقي والسمو بالذوق العام مقابل هذه السطحية والاضمحلال السائد في الآونة الأخيرة، محاولات نجح الكثير في الحول لبقعة الضوء تخرج من أحشاء هذا الظلام الفني الدامس.
قد يكون من المنطقي إذن أن نتسأل ما دامت تلك التجارب الإبداعية السامية تلقى إقبالاً ويثني عليها الجمهور والنقاد حيث تنجح جماهيريًا ونقديًا فكيف تصبح هي الاستثناء والإسفاف هو القاعدة! كيف يقبل المتلقي أن ينجرف ويلهث لمتابعة هذه الفنون المتدنية، وكيف لا يبحث صانعو الفن عن الارتقاء بفنهم ومن ثم يسمو بالذوق العام ولماذا لا يكترث هؤلاء الصناع سوى لجني الأموال دون النظر إلى المتلقي! أم أن هذا الزيف والابتذال أصبح لسان حال مجتمع فاسد بين طياته منظومات فاشلة ومواطنون سلبيون، ليظل السؤال الأهم مطروحًا يبحث عن إجابة “من المسئول؟” المبدع الذي يتعامل مع الفن كسلعة؟ أم المتلقي الذي يساهم في إنجاح هذه التجارب المبتذلة؟ أم المجتمع الذي يسمح بأن تخلق هذه التجارب من الأساس؟ أم جميعهم؟
من هذه الأسئلة انطلقت دراما العرض المسرحي «أنا مش مسئول» - تأليف «محمد عز الدين» وإخراج «محمد جبر» الذي قدم على خشبة مسرح جامعة عين شمس - لتنبش بعبثية ما يمر به الفن بهذه الآونة الأخيرة وكأنه أراد أن يضع المتلقي أمام مرآة تعكس واقعه الفني الأليم. عزيزي المتلقى عليك أن تذكر دائمًا سواء كُنت صانعا أو ناقدا أو متفرجا عاما فأنت متورط بارتكاب تلك الجرائم البشعة في حق الفن بل “أنت المسئول”.
يعد الأداء التمثيلي أبرز عناصر العرض المسرحي “أنا مش مسئول”، فنحن أمام ممثلين أصحاب قدرات تمثيلية محترفة؛ حيث تمكن كل منهم من خلق صبغة خاصة به تنم عن طبيعة كل شخصية وهو ما يشير إلى وعي الممثلين بالأبعاد وتفاصيل الشخصيات الدرامية فقد تمكن كل ممثلو العرض دون استثناء أن يعبروا بانفعالاتهم وأدائهم الحركي عن آيديولوجيات ومكانة شخصياتهم الاجتماعية؛ مما يستحق أن نثني على أدائهم المتقن.
أما على مستوى الكتابة فقد دارت أحداث العرض في إطار غنائي كوميدي خلق من الأوفرتير حتى الفينال حالة من البهجة والمتعة الفنية التي يراها المتلقي دون اللجوء إلى استخدام كوميديا لفظية مبتذلة أو أحداث مفتعلة، فنحن أمام عرض ذي بنية محكمة الصنع تسلسل أحداثها منطقي يخلو من سمات ضعف الدراما في بعض العروض الكوميدية، كما جاءت أغنيات أميرة فوزي - مؤلف وملحن أغاني العرض - لتخدم الحدث الدرامي حيث عملت على استكمال وتسريع الحدث حينًا والتعبير عن أبعاد الشخصية حينًا آخر دون أن تخل بأحداث العرض وهو ما يكشف عن تمكن المخرج محمد جبر من توظيف موسيقى العرض لما يناسب الأحداث، بالإضافة لتمكنه من بناء تكوينات بصرية معقدة دون أن يشعر المتلقي بالفوضى أو العشوائية خاصة بالمشاهد التي تجمع جميع الممثلين معًا على خشبة المسرح.
على الرغم من كثرة المجهود المبذول من الفريق المسرحي بأكمله كما اتضح لنا من العناصر التي أشرنا إليها، والتي ساهمت في تخليق عرض مسرحي متقن فنيًا، فإن إغفال المخرج لكثير من العناصر الدرامية وغيرها لم تمكنه من تحقيق ذلك بشكله المثالي الذي استهدفه صناع العرض؛ حيث افتقر العرض للتكثيف فقد استمر لمدة ساعتين كاملتين دون مبرر لذلك خصوصا أن العرض يسير بخط درامي واحد دون غيره وهذا الخط لم يستدعِ كل تلك المدة الزمنية الطويلة فكان هناك بعض المشاهد دخيلة على الحدث، ولا أعني هنا أنها مشاهد بعيدة عن السياق الدرامي، ولكن ما أعنيه هو أنها مشاهد بلا جدوى في خدمة الحدث الدرامي، فإذا حذفت لن تُخل أو تؤثر على الدراما، كما نجد إسهابا في مونولوجات خطابية مباشرة للحد الذي أفقد المتلقي متعة المشاهدة خاصة في نهاية العرض الذي طمس بنية العرض عبر استخدامه لبعض الجمل الحوارية السطحية المباشرة لسرد المغزى من العرض بشكل لا يمكنني أن أراه سوى استهانة واستخفاف بعقل المتلقي الذي من المفترض أنها ما ينتقده العرض! جاءت الأغنية الأخيرة لتسهب أكثر في توضيح هدف العرض أو بالأحرى رسالته، حاول المخرج محمد جبر أن يتحايل على الواقع بصنع إسقاطات تُحيلنا إلى الكثير من مدعي الفن، إلا أنه أفقدها جماليتها الفنية بسبب المباشرة والسطحية المبالغ فيها مثل تكرار لفظ “قول عاا” لفرقة مسرح مصر، ومهرجان “اصحى وصحي النايمين” لأوكا وأورتيجا، وأيضا أغنية “نمبر وان” لمحمد رمضان، (فهو أراد أن يحيل المتلقي إلى أن هذه النماذج وأمثالها هي نماذج لأسباب هذا التراجع الفني الذي يهبط بالذوق العام)، ولكنه لجأ بدوره إلى المبالغة والسطحية في التناول فتحول العرض في النهاية من عمل إبداعي إلى خطبة.
أنت أيضا أيها المخرج مسئول عن تقديم وجبة إبداعية ممتعة للمتلقي دون استهانة بعقل أو الالتفاف عبر الخطب الرنانة والرسائل المباشرة التي سئمنا جميعًا منها؛ لذا احذر وتبين وضع أقدامك فالفن حقل ألغام.


رنا أبو العلا