حينما يتعرض الإنسان إلى صدمات نفسية تفوق قدرته على الاحتمال، قد يعجز عن مواجهة واقعه، فيلجأ إلى عالم الخيال والأحلام كمتنفس للهروب والتعويض وتفريغ إحباطاته، فلكل منا “نصهُ الناقص» فى الحياة الواقعية، يسعى إلى استكماله فى فضاء الحلم أو الوهم، حيث يمكن تحقيق ما استعصى عليه فى الواقع. تلك هى الركيزة التى ارتكز عليها العرض المسرحى “بناقص نص” الذى عُرض على مسرح السامر ضمن فعاليات مهرجان مسرح الهواة الدورة الحادية والعشرين، تأليف (محمد إبراهيم محروس)، إخراج (محمود عثمان).يطرح العرض أثر الصدمات النفسية على الفرد، من خلال شخصية المؤلف (محمد الباز) الذى يؤلف نصا مسرحيا من شخصيتين (هو وهي)، ويضع عدة تساؤلات لدى المتلقي: هل هذه مجرد شخصيات مسرحية ينسجها المؤلف من وحى خياله؟، أم أنها حياة المؤلف ذاته؟، أيهما أشد ألما: عالم الخيال أم عالم الواقع؟.عالم الأحلام كما يعرفه فرويد: أن هذه الأحلام تساعد الفرد على التعامل مع التوترات النفسية من خلال توفير بدائل خيالية للرغبات غير المحققة فى عالم الواقع. بالتالى الأحلام وسيلة للتعبير عن الرغبات المكبوتة، وهو ما لجأت إليه شخصية المؤلف هروبا من واقعها الأليم. وبصفته مؤلفا، يؤلف نصا يحاكى ذلك الواقع، يحاول أن يحقق فيه ما عجز عن تحقيقه فى عالمه الواقعى أو بمعنى أدق يحاول ان يكمل نصه الناقص فى الحياة الواقعية.أصبح لدينا ثنائية الواقع والخيال الوهم والحقيقة، حيث تتمرد الشخصيات على المؤلف بسبب طبيعة الأدوار التى كتبت لهم، أم خائنة وابن قاتل، يطالبون بصفات أفضل، فهل تختار الشخصيات مصيرها؟، لنجد الإنعكاس على شخصية المؤلف ذاته، فهو لم يختار مصيره فى الواقع، فيستخدم سلطته كمؤلف على هذه الشخصيات، فأثناء قطع المؤلف الحبل السرى فى مشهد الولادة وكأنه يحررهم من كونهم شخصيات مسرحية خاضعة لسلطته إلى شخصيات واقعية فى عقله، لنكتشف أن شخصية (هو) هو المؤلف ذاته، وبقتل (هو) الأم الخائنة بمثابة قتل المؤلف الحبيبة التى خانته فى العالم الواقعى، والعرض قائم بالأساس على هذه الواقعة التى آلت بالمؤلف إلى هذه الحالة النفسية ولجوئه إلى عالم الخيال.تقتحم فتاة عالم المؤلف وتتفاعل مع شخصية (هو) وتستكمل دور الأم الخائنة التى قتلت فى اللعبة المسرحية. وهنا ظل يؤرقنى سؤال: كيف لشخصية واقعية تتفاعل مع شخصية خيالية ليست فى خيالها؟، فمن المفترض أن تتعامل مع شخصية واقعية مثلها وهى شخصية المؤلف، فهذا الاختراق غير مبرر مما خلق فجوة فى قلب البنية الدرامية، خصوصا أن العرض أكد أن شخصية الفتاة شخصية واقعية فى أكثر من مستوى؛ على مستوى الملابس بفستانها الزاهى الذى اختلف عن زى الشخصيات الوهمية الموحدة باللون الأسود، ومستوى فعل القتل، فلجوء المؤلف لعالم الخيال ليكمل نصه الناقص فى عالمه الواقعى، وبقتل الإبن (هو) الأم فى الخيال بسبب أنها خائنة ليتضح سبب الأزمة النفسية لدى المؤلف بخيانة حبيبته له، فبمجرد ان رأها فى الحقيقة قام بفعل القتل. وسؤالى هنا؛ لو أن هذه الفتاة حبيبته الخائنة فعلا؟، فكيف لم تتعرف عليه؟، كما أن المؤلف لم يظهر عليه أى علامات توحى بأنه كان على معرفة بها، أم أنه رأى فيها صورة الحبيبة؟، لكن كيف يراها فى صورة الحبيبة الخائنة وشخصية الفتاة لم يقدمها العرض فى العالم الواقعى على أنها خائنة، فمن الواضح ان المخرج أسرف فى دمج الوهم مع الحقيقة، واللعب مع المتلقى بين ما هو واقعى وما هو متخيل إلى أن أغفل طبيعة الشخصيات وعلافتها ببعضها.ولأن العرض ينتمى إلى المدرسة التعبيرية التى تعبر عن المشاعر الداخلية والصراعات النقسية والأفكار الذهنية، وهو ما أظهره المخرج فى عناصر العرض، فجاء ديكور (محمد أبو عمرة) معبرا عن حالة التشظى والتفكك داخل عقل المؤلف، نجد فى الخلفية مجموعة من الأوراق المتناثرة، دلالة على تشتت أفكاره، على جوانبها يتدلى من أعلى السوفيتا قلم وكراسة دلالة عى أن المؤلف يكتب عن ذاته، وأن كل ما يتوهمه يعكس ما مر به فى حياته، فى مقدمة الخلفية على الجوانب فصى المخ الأيمن والأيسر وأن كل ما يدور على خشبة المسرح داخل عقل المؤلف، فى المنتصف لوحة تعبيرية لوجه إنسان مشوه تأكد نفس معنى باقى تفاصيل الديكور من حالة التشتت والتشوه الفكرى لدى المؤلف. كما قسم خشبة المسرح إلى مستويين؛ مستوى منخفض للشخصيات المتخيلة، ومستوى واقعى مرتفع يمثل مكتب المؤلف مما يعطيه السلطة فى التحكم عما يدور على خشبة المسرح. فنجح الديكور فى دخول المتلقى داخل حالة العرض وجعله يتعايش مع الحالة النفسية للشخصيات.تنوعت الإضاءة التى صممها (أحمد أمين) بين الأزرق والبرتقالى، حيث عبر الأزرق عن عالم الخيال والقتامة النفسية التى تعيش فيها الشخصيات، واللون البرتقالى عبر عن اللحظات الواقعية، ويتداخل اللونين معا للمزج بين الواقع والخيال، كما فصلت الملابس ايضا بين العالمين فجاءت الشخصيات المتخيلة بملابس سوداء تدل على قتامة الأحداث، وواقعية مع فستان الفتاة، وبدلة المؤلف الذى كان يرتدى قميصا احمرا تحت الجاكت، وبدخول الفتاة يخلع الجاكت وكأنه يخلع الخيال، وأن كل ما سيحدث فى المستوى الواقعى من حياة المؤلف، وتأكيد على ذلك نجد اختفاء شخصية (هو) فى لحظة القتل، ولون القميص الأحمر أعطى تمهيدا لدى المتلقى على اقباله على فعل القتل فى الواقع، فجاءت الملابس موفقة بشكل كبير. كما لعبت موسيقى (ميخائل ماجد) فى اندماج المتلقى مع حالة العرض.وفق المحرج فى اختيار ممثليه فجاء فى دور المؤلف (محمد الباز) الذى وعى بطبيعة الشخصية وتحولاته بين صراعه الداخلى بين سلطته كمؤلف ومرضه النفسى، بالإضافة إلى تعبيره الصوتى والجسدى التى عبر بهما عن الشخصية بشكل كبير، ولم يبتعد عنه فى الأداء (يوسف تمساح) فى دور (هو) وتحوله من شحصية لأخرى بشكل متقن دون تصنع، كذلك (نسمة فرج) التى عبرت عن الام بشكل جيد والنقيض الآخر لها فى دور الممثلة، وهو ما يدل على موهبتها، لكن فى كثير من اللحظات كان أدائها الصوتى منخفض فى دور الأم فلم نسمع حوارها، فكانت تحتاج أن ترفع من صوتها.بناقص نص ليس مجرد عرض نفسى، بل تجربة مسرحية تضعنا أمام سؤال جوهري؛ هل نحن من نكتب مصيرنا؟ أم أن واقعنا يفرض علينا نصا ناقصا نحاول جاهدين أن نكمله فى خيالنا؟رغم بعض الارتباك فى تماسك العلاقات الدرامية، نجح العرض فى نقل أزمة نفسية معقدة بأسلوب يجعل المتلقى مشاركا فى اكتشاف خبايا العرض لا مجرد مشاهد.