رجل لكل العصور.. حكاية نعرفها منذ زمنٍ بعيد

رجل لكل العصور.. حكاية نعرفها منذ زمنٍ بعيد

العدد 571 صدر بتاريخ 6أغسطس2018

يُعد هنري الثامن أحد أشهر ملوك الماضي البريطاني في التاريخ، وذلك لما بدر منه تجاه الكنيسة، فهذا الملك المزواج العاشق للنساء قد تصدى لقوانين الكنيسة وانشق عن سلطة بابا روما الذي رفض بطلان زواجه الأول حتى يتثنى له الطلاق من زوجته الأولى أخت الأمير الألماني شارل والزواج من أخرى لتُنجب له ولي العهد؛ هذه باختصار حكاية هنري الثامن ملك إنجلترا الذي بات الكثير يسردها على مر العصور، وقد تناول مبدعو الفن حكاية وتاريخ هنري الثامن ذلك الملك الأشهر بالكثير من الأعمال الفنية والأدبية.
وإذا كان محور القصة أو القضية هو زواج وطلاق الملك بحثا عن ولد يرث العرش كما صدرها لنا التاريخ، فقد نظر إليها روبرت بولت مؤلف النص المسرحي “رجل لكل العصور” بتأويل ونظرة مختلفة، وبالأحرى يمكننا القول إنها وجهة نظر سياسية بحتة ذات أبعاد تاريخية، وحيث جعل بولت من شخصية توماس مور – كبير القضاة - الشخصية المحورية للأحداث، حيث تدور دراما بولت حول موقف توماس مور ضد الملك وتصديه له لإعلاء قوانين الكنيسة وإرضاء للبابا معلنا اتباع الحق حتى لو أودى ذلك بحياته. دفع مور حياته ثمنا للبقاء على الحق ورفضا للانصياع وراء الباطل والاستسلام لتلك القوانين الزائفة التي تُسن لإرضاء رغبات الملك فحسب، فكان لصمود مور عبرة جعلت منه قديسا وأسطورة يحكى بها وأصبح مور هو ذلك الرجل الذي نبتغي وجود أمثاله على مر العصور.
ولعل هذه الرؤية هي ذاتها رؤية فريق مسرح كلية الطب البشري جامعة القاهرة ومحمد السعدني مُعد ومخرج عرض “رجل لكل العصور” المقدم ضمن فعاليات الدورة الحادية عشرة من المهرجان القومي للمسرح المصري للأحداث حيث جاء السعدني بإعداد درامي لم يختلف كثيرا عن رؤية روبرت بولت إلا أننا لا يمكننا إنكار تقديمها بشكل مُتقن فنيا على مستوى الصورة البصرية وتمثيليا إلى حد كبير.
بدأ العرض المسرحي “رجل لكل العصور” بمنتصف الفعل الدرامي - الأقرب للذروة - فقد بدأت بالفعل حكاية الملك هنري الثامن ورفض الكنيسة لفعله وتصدي توماس مور للملك، ولذا كان استخدام السعدني للراوي الذي بدأ بسرد ما حدث قبيل الفعل المسرحي الذي نحن على أعتاب رؤيته على خشبة المسرح، أمرا مرضيا بالنسبة لي، فعنصر التكثيف أحد العناصر الهامة في المسرح حتى لا يشعر المتلقي بالرتابة أو يسقط إيقاع العرض وللتركيز على الدراما والأحداث المعنية من العرض المسرحي، ولأننا بصدد عرض مسرحي ذي أبعاد تاريخية شائكة، فقد لعب السعدني باستخدام الراوي على التركيز على الفعل، موضحا ما حدث قبله وهو ما جعل المتلقي متابعا للحدث دون تشتت أو تعجب لما يراه، ولكنه لم ينجُ من سقوط إيقاع العرض والرتابة ببعض اللحظات، وربما السبب في ذلك هو الأداء التمثيلي الرتيب الهادئ نظرا لطبيعة وأبعاد الشخصيات. وفي حقيقة الأمر، أرى أن السعدني قد حاول التغلب على ذلك بإضافة بعض الإفيهات الكوميدية بما يتناسب مع دراما العرض المسرحي ولكنها لم تجدِ أحيانا.
لم يكن ديكور بهاء الشريف وهاجر عبد القادر ديكورا مسرحيا لإعطاء معادل بصري جيد للعرض المسرحي فحسب، بل نسج كل منهما دلالة رمزية خاصة باللوحة التي تصدرت عمق المسرح بعد زمنٍ قصير من بداية أحداث العرض المسرحي تحديدا، فنحن أمام لوحة العشاء الأخير للرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي الذي عبر بها عن لحظة خيانة السيد المسيح من قبل أحد تلاميذه رمزا لمور ذلك الشريف المتبع للحق دائما الصامد تجاه الباطل الزائف والذي لم يدرك أن سهام الواقع القاسي ستقتله لتصديه لرغبات الملك، ومن ثم فإن قصة مور تشبه حقا قصة المسيح عليه السلام، أما ملابس مريم عصام ومكياج رحاب طايع بدت كأكثر عناصر العرض إتقانا حيث أتت متناسقة مع العصر الذي تدور فيه الأحداث، فقد كان يسيرا على المتلقي تحديد الزمن الذي تدور فيه أحداث العرض، فالدقة في اختيار ملابس ومكياج العرض بدت وكأن المتلقي يرى الحكاية بعالم الماضي الموازي لعالمنا الواقعي، ولأن الدقة كانت سمة الفريق فقد استند أبو بكر الشريف إلى استخدام الإضاءة الخافتة طوال مدة العرض ليوحي للمتلقي بتلك المؤامرات والخدع التي تدنس الحقائق.
طرأ على ذهني الكثير من الأسئلة بعد مشاهدتي للعرض المسرحي “رجل لكل العصور” محورها الرئيسي هل هناك سبب خفي وراء اختيار الفريق لهذا النص تحديدا أم أن اختياره اعتباطي؟! ولكن عقلي رفض تصديق الاختيار العشوائي للنص، وسرعان ما تذكرت لينين الرملي وكتابته عن فن التحايل، حتى أدركت أننا بصدد عرض مسرحي يستخدم فن التحايل في أبهى صوره، فنحن نذكر أحداثا تاريخية حدثت قديما بإنجلترا مثلما كان الأمر بفيلم “الزوجة الثانية” الذي يحكي عن عمدة طاغٍ بإحدى القرى، ولكن في حقيقة الأمر ودون تحايل فإننا حقا نمر في الوقت الراهن بما يشبه تلك الحكاية بكل البلاد العربية حيث ملوك ورؤساء يسنون القوانين تبعا لأهوائهم ومصالحهم الشخصية تمسكا منهم بالعرش مدعين “حماية الوطن” دون النظر إلى الشعوب، حتى رجال الدين أصبحوا يجهرون بالفتاوى الدينية التي تناسب أولئك الطغاة فحسب، وما زال البحث جاريا بعالمنا عن رجل لكل العصور.


رنا أبو العلا