عصفور طل فوق السور رؤية حول بعض عروض الثقافة الجماهيرية

عصفور طل فوق السور رؤية حول بعض عروض الثقافة الجماهيرية

العدد 568 صدر بتاريخ 16يوليو2018

إذا أمكن للمسرح أن يبعث حيا فإنه لن يعود ليبعث من المركز بكل تأكيد، سواء أكان هذا المركز هو المركز الغربي، “وهو ما أدركته الطليعة الأوروبية مبكرا معتمدة في أحياء مسرحها على استلهام الطقوس الشرقية والأفريقية كواحدة من أهم روافد البعث”، أو المركز بمعناه الإداري والثقافي المتمثل في “القاهرة” كعاصمة، هذه العاصمة التي تنمو وتتسع زحفا كجسد عليل مفرط البدانة يتغذى على ذاته ويمتد عشوائيا ليجور على المناطق القريبة منه جغرافيا ولا يستطيع هذا الجسد المتعرقل في حركته إدراك مداه ولا حدوده ولا نوع الإنتاج الذي يعبر عن جدارته، وبالتالي لا يدرك ماهية ذاته، وعليه هو غير قادر على صياغة مفاهيم جمالية وآيديولوجية تعبر عنه، ورغم فشل هذا المركز في صياغة قيم جمالية مسرحية تعبر عنه بوضوح، وفشله في استعادة الجمهور وفي كسب ثقته واحترامه، فإنه يمثل منصة الاعتراف الأولى والأخيرة بالنسبة لمن هم خارجه من فناني الأقاليم رغم اعتقادهم العميق - كحقيقة واقعة - في هذا الفشل الهائل الذي يصحب عملية إنتاج المسرح المسموح به من النظام داخل هذا المركز، وهو ما يجعل العلاقة بين المركز والهامش علاقة مركبة شديدة التعقيد تتراوح ما بين الرغبة في الاعتراف والنعت بالفشل والزيف، في حين أن الجميع هنا وهناك في حاجة ماسة للبحث عن الدائم والدؤوب للتعرف على الذات المجتمعية وقيمها الجمالية من خلال المسرح، وما لم يتم التفاعل مع هذه العلاقة مع المركزية الثقافية بوعي ينطلق بالأساس من إدراك الذات ودورها الوظيفي وموقعها من التكوين وإدراك سؤال القيمة والجدوى الحقيقيين، فلن تصبح العملية المسرحية برمتها إلا خدعة كبرى. كل كادر ثقافي في موقعه يمكن أن يكون نقطة مضيئة لمجاله، يمتد أثرها ليكون نواة حقيقية للحصول على مسرح حي مسيس بواقعنا، ولن يحدث ذلك إلا عبر إعادة الاهتمام بموقع الجمهور، إذا كان المسرح منتجا بلا مستهلك فلا جوائز ولا كتابات ستعني شيئا بالتبعية، وبالتالي فإن رغبة الهامش في الحصول على موضع معترف به داخل المركز متجاهلا بدوره العلاقة بجمهوره وهي العلاقة الأساسية للمسرح التي تشكل الإجابة عن سؤالي القيمة والجدوى لن يؤدي ذلك إلا لدرجات متفاقمة من الفصام.
والحقيقة، إن المسرح المأزوم بأسئلة جوهرية حول النوع، والذات, والماهية، لن يبعث من قيم جمالية مكررة ومعاد تدويرها لعشرات بل مئات المرات التي يصدرها هذا المركز المنكفئ على ذاته باعتبارها الجميل والفني. في المقابل، فإن الأقاليم بما فيها القرى النائية البعيدة تمتلك الشرطين الأساسيين لبزوغ مسرح حيوي لا يمتلكهما مسرح المدن الكبرى، أولا: الجمهور، ثانيا: الموضوعات الحية والمتصلة بشكل مباشر بالمخيلة الشعبية التي تتداول بلا توقف في مجتمعاتها.
أولا: الجمهور في الأقاليم وهو جمهور من غير محترفي التلقي، وهذه هي الميزة الأهم، فنحن أمام جمهور يبحث بدوره عن حيز للاعتراف به، والإيمان بوجوده كمواطن معترف بوجوده من قبل جهة ما, ومن ناحية أخرى يفتقر لمنافذ الترفيه الاجتماعية، بإلإضافة إلى كونه غير مدجن جماليا، وذلك على خلاف الجمهور في المدن الكبرى والقاهرة تحديدا، فيمكننا أن نقسم جمهور المسرح بالقاهرة إلى جمهور من النقاد والعاملين بالمهنة وهم يشكلون الأغلبية، وبقايا جمهور اعتبر الذهاب للمسرح نوعا من الوجاهة الاجتماعية، وهما نوعان من الجمهور ساهما في إفساد العملية المسرحية بدرجة كبيرة، أما الجمهور من غير محترفي التلقي (الأقاليم)، وهو جمهور خشن ونقي يعبر عن قناعاته وميوله وانحيازاته الجمالية بوضوح ممارسا ما يؤمن به حتى وإن كان مخالفا لشروط التحضر المديني ولا يشعر بالانسحاق أمام منصة العرض، لا يشعر بضرورة تقدير ما يقوله العرض باعتباره جديرا بالاحترام مسبقا، وهو ما يجعل تفاعله مع العرض تفاعلا حقيقيا إلى حد كبير، وتصبح فرص حيازته وإخضاعه لشروط العرض أصعب، فإذا لم تتم حيازته جماليا سيصبح من المستحيل إعادة مساءلة قناعاته الراسخة حول الإنسان والوجود، وهذه الأخيرة هي المعركة الحقيقية للفن، تحريك الوضع الراكد للمفاهيم والراكن لنوع من الحقيقة الميتة.
مع وجود جمهور من النوعية التي استطاع عرض - مثل عرض “انشطار” لساحل سليم إخراج أحمد شريف - استقطابها، ليصل إلى حد تعلق الأطفال على السور المحوط لمكان العرض، أو جمهور الغنايم عرض “عيون بهية - إخراج غريب مصطفي” وهو جمهور من الأطفال والمراهقين ممن يصعب السيطرة عليهم، وغيرهم من هذه النوعية الخطرة من الجمهور التي هي كنز ومأثرة عظمى وخطر ماحق أيضا، حيث إن هذا الجمهور غير المدجن سيدفع فنانيه بالبحث عن قيم فرجوية تستقطبه، وعليه يدفع المسرح لمساءلة ذاته مساءلة جادة وخطورته تكمن أيضا في أنه قد يدفع الفنانين للانسحاق لقيمه الثقافية.
بالإضافة للجمهور كعنصر يدفع لتأمل أدوات العرض، نجد أيضا عنصرا آخر وثيقا بالجمهور يطرح نفسه بكثافة وهو مكان العرض الذي يحدد بدوره نوع الموضوعات الدرامية وآلية تقديمها، فمكان العرض هو القاسم المشترك بين أغلب العروض في المواقع المختلفة، بحيث نلاحظ أن العروض جميعها تقدم خارج إطار العلبة الإيطالية، وهذا أيضا مأثرة وخطر في الوقت نفسه، فبالإضافة لعرضي “انشطار” و”يس وبهية”، نجد عرض صدفا «طرح الصبار» إخراج حسام القاضي، وعرض “الغولة” إخراج عبد الرحمن المصري بالفشن, وعرض “يس وبهية” بإهناسيا، والغريب أن العروض جميعها التزمت بتقنيات عرض لشروط العلبة إيطالية، وهو أمر غريب غرابة محاولة طائر السباحة، ورغم أن واقع العرض في مكان يشبه ساحة بها خشبة مسرح، فرض حلولا منطقية تم تحجيمها وتقزيمها لتخضع لافتراض غير كائن هو مسرح علبة، فيتخد عرض مثل “انشطار” حيلا منها إحياء مشهدية المولد الاحتفالية والارتكاز عليها لخلق واقع احتفالي يستقطب الجمهور ويسترعى انتباها إلا أن بقاء مشهد المولد - وهو مشهد أصيل بمخيلة الجمهور - محتجزا على خشبة المسرح خفض من قيمته الكرنفالية التفاعلية، استخدم أيضا دمى الكف وهي بالطبع لاقت استحسانا لدى الجمهور أيضا، ولكنها كذلك بقت محتجزة في مساحة الإيهام على خشبة المسرح، وهو ما خفض من تأثيرهما تماما، هاتان اللحظتان الفرجويان اللتان توالدتا تلقائيا، تم تقليصهما لصالح قيم جمالية خارجة عن السياق.
بالطبع، مدى تفاعل الجمهور بالصمت أو الضحك أو التشويش أو التصفيق هي تأمل تجعلنا نقف متسائلين عن إمكانيات توافق جماليات مسرح العلبة، والإيهام التام، مع مساحة عرض مفتوحة وجمهور راغب في المشاركة والاعتراف، فمن المفلت مثلا أن تحول ممثل لمخاطبة الجمهور مباشرة كان الأكثر فعالية في إسكات الجمهور بشكل تام للمرة الأولى، وهو ما يؤكد على رغبة هذا الجمهور في التفاعل والمشاركة والاعتراف بوجوده، وهو يجعلنا نطرح سؤال ماذا لو لم تحتجز هذه اللحظات الاحتفالية على خشبة المسرح، ماذا لو نزلت لأصحابها الحقيقيين!
كل هذه الجماليات الفرجوية التي ظهرت كنواة وومضات في عرض “انشطار” تحديدا، تدفعني لأتساءل ماذا لو تحررت من حيز الخشبة؟ ماذا لو لم تبقَ محتجزة داخل شروط علبة إيطالية على الرغم من أن هناك سؤالا بديهيا؟ لماذا الالتزام بشروط مسرح علبة إيطالي؟! إذن، لا أملك خشبة مسرح مناسبة وأجهزة إضاءة كافية وأجهزة صوت كافية وستارة مسرح تؤكد على فصل العالمين، عالم العرض عن عالم الجمهور، وإذا كان جمهوري بالأساس هو جمهور احتفالي يميل للمشاركة ولم تقلم أظافره في مجزرة الوجاهة الاجتماعية، وعليه يكون من الطبيعي صعوبة إدماجه بشروط جاهزة في سياقات من خارجه، وكل محاولات إقناعه بضرورة الاندماج وضرورة الإنصات لا تحقق أي استجابة، فالطريق لتواصل يبدأ من التعامل بحرية مع الواقع كجمهور وكمكان.
 في عرض “يس وبهية” يحتل خشبة المسرح مشهد شواهد القبور بحيث يكون المكان الدرامي الرئيسي هو المقابر ليحمل معنى واقعيا محددا ومعنى استعاريا، حيث إن القضية هي قضية الأرض “المكان”، الوطن، الدفاع عن وجود ما في مكان ما، هذا الوجود المنعدم للأرض أو الشعور بالوطن أو المكان ينتج المعنى الاستعاري للحياة الدرامية في المقابر، ورغم جمال استعارة الصورة ودقتها في التعبير عن انعدام الأحقية في الحياة بعد سلب الأرض وتعبيرها عن حضور سوداوي, إلا أنها أخلت دراميا بالصراع الاجتماعي الأساسي الذي يحدث خارج المقابر، كما أنها لن تصلح كمركز للتفاوض الدرامي باعتبارها حيزا محكوما بالموت من ناحية المعنى الذي تشير إليه، وعليه أيضا ماذا لو كان فضاء المقابر هو الخشبة، والصراع والتفاوض ينتقل لمستوى آخر للمنطقة الحية “منطقة الجمهور” أو العكس إذا اعتبر العرض أن الجمهور هو فضاء المقابر، وهو ما قد يؤسس لعلاقة مشاركة وتوريط للجمهور، بالتحريض على الفعل في حال أن التفاوض على أرض الجمهور أو الإدانه في حال أن المقابر هي مكان الجمهور، هذا التأمل يطرح ذاته في إطار الخروج عن شروط عرض هي بالفعل تفسد علاقة الجمهور وتستثير ضجره.
الكثير من العروض استثارات في نفسي بذورا جمالية مبشرة، ومنها العرضان السالف ذكرهما, وما يدفعني للحديث عنهما كنماذج يمكن أن يتمخض عنها تصور مغايرة للمسرح أكثر حرية وخيالا، وما دفعني للحديث عن الجمهور ومكان العرض هو أن هذا الالتزام الجمالي بالخشبة بدا محجما لإبداعات الفنانين وغير ملائم للجمهور، بالإضافة لوقائع حدثت في كل العروض تقريبا لها علاقة بتعطل استجابة الجمهور، فمرارا يطلب أحد المخرجين من الجمهور الصمت وضرورة الجلوس بتهذيب والجمهور لا ينصت، ويحدث أن يقذف طفل من مكان ما بين الجمهور حجرا على المسرح معلنا رغبته في المشاركة ولو بصورة عنيفة بقذف حجر على منصة العرض. والحقيقة، إن شيئا من هرج الجمهور الدائم أو بعض من عنفه لم يثِر استيائي على الإطلاق رغم تعطيل قدرتي على تلقي العرض في كثير من الأحيان، إلا أن ذلك دفعني لسؤال حول ما يريده الجمهور وما يريده العرض، وبعيدا عن تحسس النيات فيما يريد أي من الأطراف إلا أن هذه هي المنطقة الشائكة التي يوجد بها المسرح دائما وأبدا، وهو ما يدفعنا للتفكير في نوعية العرض الذي يحقق استجابة مع الجمهور، نوعية الإتاحات التقنية وتوظيفها بما يلائم شروط الواقع، والقضايا المطروحة وتحديدا ما يخص الموروث الشعبي الذي يستميل مزاج الجمهور ويستحث حضوره من خلال شعوره بجدارة معرفته القبلية للعرض، وأخيرا مجالات المنافسة بين عروض ليست خاضعة لنفس الشروط.
على المسرحيين ممن لا يملكون مسرح الخروج من الأسوار الوهمية للمسرح التي تتحدد في مكان ما قد يكون قاعة أفراح أو ساحة تم بناء خشبة بها واعتبرت مسرحا، بالإضافة للخروج عن المسرح بمعنى الفصل الاستعلائي بين حيز الجمهور وحيز العرض، ولذلك البحث عن وفضاءات عرض جديدة وحلول فرجوية جديدة هو موضوع جدير بالبحث التجريبي المسرحي كسؤال متجدد، وورشة عمل لا تتوقف من عرض لآخر، بل لا تتوقف من ليلة عرض لأخرى، للوصول لقيم جمالية جديدة خاصة وغير معلبة مسبقا في مكان ما بعيدا عن الجمهور وعن المبدعين في المواقع المختلفة، وهو ما يتطلب بحثا دؤوبا في طبيعة الموضوعات المطروحة وآلية طرحها والمكان الذي يمكن أن تولد فيه كعرض، وعناصر العرض الفرجوية التي ستقوم بدورها في تقليص شعور الجمهور بالقدرة المتكافئة والتساوي مع مساحة العرض، وهذا الإحباط لقدرة الجمهور عبر أدوات العرض التقنية لحظيا مفيد في تأهيله لاستقبال العرض فكريا، وهذه الحيلة التعجيزية لتحديد حيز وقدرة الجمهور، قد استطاع العارض المتجول بإدراك فطري لسيكولوجية الجمهور تحقيقها، فنجد الساحر ولاعب النار وغيرهما عارضين الشارع يستطيعون بعد لحظات وضع حدود تتكون تلقائيا مع الجمهور تجعله عاجزا عن اختراقها دون طلب منه أو ممارسة عنف على الجمهور، ويحدث ذلك عبر تسبيط قدرة الجمهور على ممارسة فعل العرض، وبالتالي تعجيزه عن احتلال مساحة العرض.
صحيح أن فن الدراما للمسرح أكثر تعقيدا من عرض شعبي فرجوي من نوع عروض الساحر، وذلك لأن الوظيفة الدرامية تبدأ من الفرجة ولا تنتهي عندها، فالفرجة وسيلة لإعادة موضعة السؤال الدرامي عن الذات وقيمها الجمالية، وإعادة مساءلة للقيم الإنسانية ومناقشة وضع الإنسان من ذاته ومن العالم، بإلإضافة إلى أن التكنولوجيا الحديثة وفن السينما تحديدا عطلت بقدرتها اللامتناهية على الإيهام بالإنبهار القديم بفنون الشارع، وعليه فقد تلاشت تلقائيا كضرورة احتل محلها التلفزيون، ولكن ما أشير إليه عبر طرحها كنموذج هو أن الفرجة المسرحية هي مشروع بحث معملي تقني لا يتوقف، وأسئلة دائمة عن متى يجب تعزيز شعور الجمهور بالعجز، متيى تجب مشاركته، متى تجب مساءلة قناعاته؟!
الشرط الثاني لبزوغ مسرح فريد وخاص جماليا هو الاتصال المباشر مع واقع بكر سواء مع الحكايات الشعبية التي ما زالت تمثل جزءا من الممارسة الثقافية للناس، أو مع الطاقات البشرية غير المدربة على أنماط أداء جاهزة، وهذان العنصران هما منجمان لاستخراج مسرح جديد من نوعه، إذا ما خضعا للاكتشاف ولم يتم التعامل معهما برؤى جاهزة، بالفعل انحازت أغلب عروض الجنوب لتناول السير الشعبية، وكان الأكثر تكرارا من بينها “شفيقة ومتولي، السيرة الهلالية، ياسين وبهية”. بشكل مفارق تتكرر هذه الموضوعات في أغلب المواقع، وهو ما يشي بسؤال حقيقي خفي في نفوس هؤلاء الفنانين الجادين عن الأصالة ونوعية القضايا التي تهم الجمهور ونابعة منه، إلا أن عددا من العروض استعان بأجزاء من المرويات المسجلة والأكثر شعبية وتأثيرا في الجمهور لتصبح جزءا من متن العروض، إذن لِما يستعين بأجزاء من المرويات التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، قام بإعادة سرد هذه السير مرة أخرى كما هي وهو ما يضع علامات استفهام حول مفهوم الأصالة ذاك، هل الأصالة هي اجترار الماضي! والحقيقة، إن إعادة إنتاج ثيمات شعبية كنوع من الأصالة ليس إلا شرك، لأن الأصالة بهذا المعنى ليست إلا جثة من الماضي، ويتحول المسرح إلى سؤال جامد لأنه يستمد قيمته من لحظة زمنية بائدة، مما يجعل العمل المسرحي في مستوى فوقي على المسرح وعلى الحاضر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن البحث عن مسرح للجمهور بقيم جمالية تلائمه لا يعنى الانسحاق للمخيلة الجمالية الشعبية التي تصيغ تبريرات لوجودها وممارساتها في السير الشعبية وغيرها من الفنون الشعبية ذات المضمون الخطابي.
وفيما كان الراوي الملحمي الشعبي يسرد ملحمته بما يسمح للجمهور بالخيال وما في ذلك من متعة لا تفوقها متعة لأنها تسمح لكل ذات مستمعة أن تخط مشهديتها، بالإضافة إلى أن الجمهور يجد ضالته في الفن الشعبي بشكل عام، ذلك لأنه ينبع بشكل تلقائي من رغبة في تبرير الوجود والممارسة وتسويغ التشريع المجتمعي للفعل الاجتماعي, هذا ما يجعلنا نقف أمام تساؤلات كثيرة في مسألة إعادة الثيمات الشعبية، التي هي مكتفية جماليا بذاتها بالنسبة لجمهورها، والتي تحدد قيمها الثقافية برضا ووضوح لمجتمعها، فهل نعيد تقديم هذه الثيمات الشعبية في عروض ونحن منسحقون لجماليتها، وهنا تفشل مسرحيا بالطبع لأنها تعبر عن محاولة انتحال كائن هو المسرح لكائن حي ناجح هو السير الشعبية، إذن ولماذا نعيد تأليفها وإنتاجها مرارا؟! يبدو أننا نقترب بها من المخيلة العامة للذات المجتمعية، ولأنه ربما نجد بالفعل ضالتنا بها، ولأنها هي الوجه الحقيقي للذهنية الجماعية، ولكنها بمجرد أن تصبح دراما وليست مرويات أو ملاحم شعبية عليها أن تكون أكثر جدارة بصورتها الجديدة عليها أن تتسم بفرادة نوعية جديدة وتحديد حاسم لوجودها، وأكثر صلابة وألا تستجلب معرفتها الشعبية، فعندما نعدها للمسرح فإننا نعلن للجمهور أنه يعرف الحكاية تماما، ومع ذلك هو لا يعرفها البتة، ولذلك عليه أن يمكث ليختبر معرفته السالفة حتى آخر لحظة بالعرض، والمعرفة التي ينتجها المسرح من الموضوعات الشعبية جوهرها لا يكمن في تحريف الحكاية، ولكن في إعادة فكها وتركيبها بحيث تستولد أسئلة خفية، بحيث تعيد صياغة علاقات العلية والسببية فيها بصورة مغايرة للأصل الشعبي؛ إذ إن الحكاية هي واقعة واحدة تتخذ موقعها الجمالي والنوعي من شبكة العلاقات السببية التي تتجلى عبر البنية، وإعادة ترتيب سلسلة الأحداث باعتبارها وحدات، كلعبة المكعبات يمكن إنتاج أشكال لامتناهية منها وانتقاء الحدث المركزي والهامشي، فيمكن تناولها في عدد لانهائي من المرات، ولكن الفارق الأساسي بين كل مرة وأخرى هو نوعية العلاقات العلية والسببية التي تنتج هذه الواقعة وتنتج عنها، فمن المشين أن أجد عرضا مسرحيا يفتح تناصا مع السير باستدعاء تسجيلاتها المعروفة لدى الجمهور التي يحفظها عن ظهر قلب وكأنه يصك بذلك اعترافا مذلا للجمهور بأنه يمتلك المعرفة والحقيقة وليس هناك ما يمكن أن يقال.
هذه الملاحظات العامة قد تكون ذات قيمة، وربما لا، ولكن الأكيد أنها تولدت من أمل ما ولد بغته في هذه الوجوه التي طلت من أسوار المواقع بعيون متطلعة وقلوب شغوفة ومؤمنة بما تقوم به سواء فنانين أو أطفال تعلقوا على سور المسرح باحثين عن خلاصهم بالأمل.
 


ليليت فهمي