الناقد الجزائري مفتاح خلوف

الناقد الجزائري مفتاح خلوف

العدد 546 صدر بتاريخ 12فبراير2018

المسرح يقتضي احتواء الماضي الحاضر والمستقبل
 أثناء زيارته الأخيرة لمصر كضيف ضمن احتفالية ثقافية عربية، احتفى فيها النقاد الجزائريون والعرب بالكاتب الروائي والمسرحي السيد حافظ، في لقاء ثقافي نقدي أقامه ملتقى السرد العربي بمؤسسة (إيثار)، وحول بعض قضايا المسرح العربي وتطور الحركة النقدية في الجزائر وتأثر المسرح الجزائري بالمسرح الفرنسي، كان لنا هذا الحوار مع الناقد الجزائري د. مفتاح خلوف، وهو أستاذ محاضر لمقياس النقد المسرحي والدراما بجامعة محمد بوضيف بالمسيلة بالجزائر، حاصل على ماجيستير في النقد المسرحي تخصص سيميولوجيا المسرح، وعلى الدكتوراه في موضوع شعرية الحوار في النص المسرحي.

هناك من يدعون أن المسرح العربي في أزمة، لكن شباب المسرحيين يصرون على أنه لا توجد أزمة بل ويؤكدون أن المسرح الآن يعيش نهضة حقيقية على أيديهم.. ما رأيك؟
للإجابة عن هذا السؤال يجدر بي أن أعود إلى الوراء قليلا في مسرحية كتبها ميخائيل نعيمة عنوانها (الآباء والبنون)، صراع بين جيلين، بين جيل أبوي يرى ما أنجزه هو فقط، وجيل «ابنوي» يرى أن الذي أنتجه أفضل مما مضى. إذن نحن الآن بين حقبتين اثنتين، بين جيل شاخ وهرم وما زال يعتقد بأن المسرح هو ما كان، وبين جيل يافع يقبل اليوم على الحبكة المسرحية في الواقع ويقبل على صراع الركح في الواقع وهو من يحمل مشعل هذا العمل، ناهيك بأن الأعمال المسرحية الآن ليس فيها أزمة، لا من حيث الإخراج ولا من حيث النصوص ولا الأداء ولا النقد المسرحي، كل ما في الأمر أن القوالب المسرحية تغيرت، كان المسرح كلاسيكيا فقط وصار الآن يوجد اختيارات متعددة، يوجد المسرح التجريبي ومسرح العبث ومسرح اللا معقول والمسرح الحر والمسرح الفقير ومسرح الشارع، إن من يدعي أن ليس هناك مسرح يمارس الإقصاء، ولا يمكن إنكار أن هناك جهود، نعم هذه الجهود لا تشبه الجهود السابقة ومن العيب أن نقارن بين ظاهرتين مختلفتين تماما، فالأدب المقارن يقول إنه لكي نقارن بين ظاهرتين أدبيتين على الأقل يجب أن تكون نقاط الاتفاق أكثر من نقاط الاختلاف. لكن عندما نقارن بين مسرح اليوم ومسرح الأمس فنحن نقارن بين ضفتين مختلفتين في التكوين.

المسرح العربي مذبذب بين التجريب والتأصيل.. فهل التجريب ينفي التأصيل؟
لماذا علينا دوما أن نختار طرفا من الطرفين؟ فلماذا نقول التأصيل والتجريب في آن معا، فلماذا لا نشتغل على خيطين اثنين؟ التأصيل والتجريب. فمن كان له خيوط في التأصيل وأراد أن يؤصل للمسرح العربي فله ذلك. ومن أراد أن يختار التجريب ويندمج في الواقع الجديد وفي الصراع الحضاري الجديد وفي الفكر الجديد فله ذلك، ورحم الله الإمام علي بن أبي طالب عندما قال: «أعدوا أبناءكم لزمن غير زمانكم»، يجب أن لا نأخذ هذه الأشياء دوما بمنطق المقارنة ومنطق الاختيار ومنطق السيف المرفوع الذي هو إما أن تكون أنا وإما أن تكون أنت، فالمسرح يقتضي منا أن نحتوي الماضي والحاضر والمستقبل. نحتوي الماضي بأن نؤسس لمسرح عربي أصيل، ونحتوي الحاضر ونتحدث عن همومنا، ونحتوي المستقبل ونجرب ونمارس اللامعقول ونمارس كل شيء، فهذا لا ينفي ذاك.

من أين نبدأ وكيف نواصل؟
نحن في التجربة الجزائرية بدأ التجريب من الموروث، فعلى سبيل المثال رائد التجريب في الجزائر ولد عبد الرحمن كاكي عندما مارس التجريب سنة 1966 في مسرحية (كل واحد وحكمه) أو في مسرحية (الجرَّاب والصالحين)، هي مسرحيات مارس فيها التجريب اعتمادا على الماضي من نصيحة أستاذه الفراس الذي كان يدرسه الدراما قال له: أنا لا أعلمك مسرحا ولكن أعلمك فنيات المسرح، أما مسرحكم فهو موجود في الأسواق وموجود في الشارع. هذه الفكرة جرته إلى أن يذهب مباشرة إلى الأسواق والساحات العامة ويلاحظ ما هي المظاهر الطقوسية التي تشبه المسرح، ما يسمى المظاهر المسرحية في الحياة الشعبية العامة وأخذ منها فكرة وأنجز منها مسرحا متميزا ذا هوية جزائرية. إذن فالتجريب لا يبنى على الفراغ، لا يبنى على اللا شيء وإنما يبنى على الماضي، نأخذ أفكارنا من الماضي، نثبت وجودنا بالماضي ثم ننطلق إلى المستقبل. الآن أكبر مخرج مسرحي في العالم بيتر بروك نفدت لديه الأفكار الطقسية التي يبني عليها المسرح وذهب مباشرة بعدما استنفد مسرح النو في اليابان والمسرح الكهني في أمريكا اللاتينية، هو الآن اتجه إلى جنوب الجزائر إلى الأهجار إلى ولاية تماراس وأنتج ما يسمى مسرح التاركي. إذن فالتجريب لا ينطلق من فراغ إنما يؤسس للأدب المسرحي وينطلق منه. والحال نفسه عند عبد القادر علولة عندما أنتج ثلاث مسرحيات تجريبية هي (اللثام) و(الأجواد) و(الأجوال) وهي كلها مسرحيات تجريبية وهو يعترف بأن التجريب عنده لا ينطلق من فراغ. نعم تأثر ببريخت في ألمانيا، نعم تأثر بفلان وعلان وما إلى ذلك، لكنه يعترف منذ البداية أن المسرح في الأساس هو الحياة الشعبية العامة.

لماذا اختفى ما يسمى بالبحث عن هوية للمسرح العربي مع سيطرة الانفتاح الثقافي العالمي؟
هل الهوية في المضمون أم في الفكرة أم في طبيعة الصراع، أم في المغزى العام الذي نريد أن نبثه من خلال المسرح؟ فالهوية متعددة. أنت الآن شئت أم أبيت في وسط صراع الثقافات، إما أن تثبت ثقافتك وإما تتلقى ثقافة الآخر، فعندما نقول إنه في الولايات المتحدة الأمريكية يعتمدون على بعض المظاهر المسرحية من الصحراء الجزائرية من الأهجار، وفي فرنسا أو إنجلترا يأخذون بعض الأفكار المسرحية من المسرح المصري القديم، فهل وجد اعتراضا من أن يعتمد هذه الأشياء؟ لا، إذن فهي العولمة والتبادل الحضاري. ففي زمن معين تأثرت الحضارة العربية الإسلامية بالثقافة اليونانية، ثم فيما بعد تأثرت الثقافة الغربية الحديثة بالثقافة العربية والإسلامية، والآن نحن على دور آخر، نحن نتأثر بهم وهم فيما بعد يتأثرون بنا. فهذا التبادل الحضاري لا يلغي هوية المسرح.

وأين المحاولات القديمة للتوصل لصيغة خاصة بالمسرح العربي؟
هذه المحاولات لم تجد من يعيد بعثها من جديد، والعيب ليس في الجمهور وإنما فيمن يوصل هذه الفكرة. فلا ننتظر اليوم أن الحكواتي يلبس لباسه التقليدي وأفكاره القديمة ويأتي إلى ناطحة سحاب ويحكي حكاياه. فهذا لا يتلاءم مع شكله ولا فكره ومقامه الذي يحكي فيه هذه الحكاية، فنحن يجب أن نستثمر الآن المالتيميديا وتقنيات التواصل الجديدة من أجل بعث هذا الحكواتي، لماذا لا يكون هذا الحكواتي على الفيسبوك، على النت على «تويتر»، لماذا ننتظر دوما أن يظهر هذا الحكواتي في شكله القديم يجلس أمام شيء مثل فرن قديم ويجلس أمامه صبية يحكي لهم شيئا. إذن يجب أن نعيد بعث المسرح وأن نعطيه روحا جديدة، نعم نسميه الحكواتي لكن نسميه الحكواتي بتقاليد جديدة، إذن نحن لا ننفي الحكواتي ولكن ننفي الطريقة القديمة في التعامل مع المسرح.

ما موقع الحركة النقدية الجزائرية من الحركات النقدية في معظم الدول العربية الأخرى؟
أسهمت الجزائر في تطوير الفكر النقدي المسرحي في الجزائر أو في العالم العربي بسبب ازدواجية اللغة، وما كان يعتبر لفظا للهوية الجزائرية بتوظيف اللغة الفرنسية صار مكسبا في اكتساب العلوم، فانفتاح النقاد الجزائريين على ثقافة الآخر وقربهم من أوروبا وتعاملهم مباشرة مع منابع الفكر السيميائي والبنويوي ونظرية التلقي وجماليات التلقي ونظريات القراءة أعانهم على عمل طفرة في النقد، في الجزائر لم نعد ندرس المناهج التقليدية التي تدرس في المشرق، المنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي، هذه تجاوزها الزمن، فنحن الآن في مناهج ما بعد الحداثة، ليس الحداثة وإنما مناهج ما بعد الحداثة، ولذلك فالركب الجزائري دوما متجدد ودوما ذو صلة بالفكر الأوروبي فلذلك شهد هذه النقلة النوعية.

هل الحركة النقدية تواكب الحركة الإنتاجية والإبداعية في المسرح؟
نعم، فنحن في الجزائر ألفنا تقليدا فكل عمل فني يتبعه النقد، ففي المهرجانات الوطنية والدولية سواء مهرجان المسرح المحترف أو المسرح الدولي المحترف أو مسرح الهواة أو المسرح الأمازيغي أو مسرح الشباب أو المسرح الحر أو المسرح الفكاهي، كلها مسابقات لا يقل نشاطها عن خمسة عشر يوما يعرض في كل يوم عرضين خاضعة للمسابقة مسبقا أو للانتقاء، فعندما تعرض هذه العروض تتبع دوما بساعة أو ساعتين من النقاش، إضافة إلى أنه ستقام في الغد دراسات أو محكمة تسمى محكمة المسرح، حيث تجلس مجموعة من النقاد ليحاكموا المخرج والمؤلف والسينوغراف ويحاكمون كل من كان له إسهام في هذا العمل، فالعمل قبل أن يخرج على الجمهور يقرأه الجمهور مرة بعينيه عندما يشاهده ثم يقرأه في الجرائد بأعين النقاد. لذلك ما زالت الأعمال المسرحية مواكبة للدراسات النقدية بل في كثير من المواقف المخرجون لا يخرجون أعمالهم إلا بعد أن يحضروا نقادا يدرسونها قبل إخراجها.

بين المسرح الفرنسي والمسرح العربي؟ أين يقف المسرح الجزائري؟
المسرح الجزائري ليس مزدوج الهوية، فهو مسرح عالمي، تتقاذفه مجموعة من التيارات، إذا أتينا إليه من حيث الأداء نجد أنه مسرحا من العلبة الإيطالية، وإذا أتينا إليه من حيث النصوص وتركيبة النصوص فهو مسرح جزائري، ومن حيث الإخراج نجد أنه مسرحا ملحميا ألمانيا، وعندما نأتي إليه من حيث التأثر بالثقافة الفرنسية نجد أنه مسرحا فرنسيا، وإذا أتينا إليه من حيث تركيبة النص الدرامي نجد أنه مسرحا روسيا على اعتبار أن كثيرا من المسرحيين الجزائريين تكونوا في دول الاتحاد السوفياتي سابقا. فالمسرح الجزائري إن شئنا أن نسميه هو مسرح عالمي منفتح على كل الأفكار والتيارات والأشكال المسرحية.

هل توجد سمات واضحة ومحددة تميز المسرح الجزائري عن باقي المسارح العربية؟
نعم المسرح الجزائري يميزه النصوص، حيث يوجد ظاهرة لدينا تسمى ظاهرة التأليف الجماعي ليست موجودة عند كثير من المسرحيين العرب، ففي بعض الأحيان يكفي أن يجتمع مجموعة من المسرحيين على خشبة معينة ويتفقون على فكرة معينة وكل يدلي بدلوه فتخرج المسرحية بعد يومين أو ثلاث، هي شبيهة بالورشة المسرحية، تسمى بالمسرح الارتجالي ويسمى التأليف الجماعي، وقد تنجح المسرحية وتعرض أكثر من مائتي عرض ولكنك عندما تبحث لها عن نص مؤَلف مكتوب لا تجده، الأمر الثاني يتعلق بالهوية، فأنت عندما تحضر إلى الجزائر وتشاهد مجموعة من العروض فأنت تشاهد مجموعة من الثقافات، لو آتيت إلى المسرح المحترف تجد المسرح التاركي وتجد المسرح القبائلي والمسرح الأمازيغي والمسرح الميظابي والمسرح العربي، كل هذه المنابع المسرحية تعكس الثقافة الجزائرية، أضف إلى ذلك أنهم في كل أعمالهم يوظفون التراث ويعودون إلى مسرح الحلقة الذي هو جزائري بامتياز.

هل المهرجانات المسرحية كافية للتواصل ولماذا يحجم عنها الجمهور؟
هذه المهرجانات عندما نقيم نجاحها من عدمه فنحن نقيمها من زوايا مختلفة، إما من زوايا الدراسات النقدية وما كتب عنها، وهي المقياس الأول وإما من زوايا الحضور الجماهيري وهي المقياس الثاني، وإما من زاوية تأثيرها في الناس وهي المقياس الثالث، فإذا أتينا لها من حيث الأول فللأسف الشديد كثيرة هي المهرجانات التي تقام ويخاف أصحابها من أن يستدعوا النقاد لحضور الأعمال، وإن استدعوا يستدعون فقط بعض الأقلام المأجورة التي تداهنهم وتقول عن كل شيء إنه جميل، والأمر الثاني الخاص بالجماهير فهناك خطأ يقع فيه المبرمجون للمهرجانات المسرحية إما للظروف الجوية أو النفسية أو الواقعية أو اختيار الزمن، فبعض المهرجانات في الجزائر فشلت لماذا؟ لأنه لا يختار لها الوقت المناسب، فعادة ما تقام في أيام العمل وأيام العمل يحجم الجمهور، لأنه منشغل بالعمل، لكن عندما تقام هذه المسرحيات في أيام العطلة الرسمية والعطلة المدرسية، سيكون لها تأثير بالغ لأن الأبناء والطلبة والآباء متفرغون. أضف إلى ذلك توقيت عرض المسرحية فعندما تعرض في أوقات العمل فسيحضرها فقط المعنيين بالمسرح فيتحول المسرح من شعبي إلى نخبوي. إن سبب نجاح المسرحيات الكلاسيكية أنها تعرض ليلا وعادة في نهاية الأسبوع، إذن فيجب مراعاة ظروف المتلقي حتى يحضر.

أين المسرح العربي من المسرح التفاعلي المعتمد على تقنيات الإبهار؟
من المؤسف أن نتحدث عن هذا المسرح إذا كان النت ضعيفا، إذا كنا لا نستطيع أن نجري مكالمة، إذا كنا لا نستطيع أن نفتح ماسنجر صافيا، إذا كنا لا نستطيع أن نتواصل بآليات بسيطة، فكيف لنا أن نتبادل أفكارا مسرحية ونمارس ما يسمى المسرح التفاعلي لأنه يشترك فيه كثير من الأطراف عبر النت وينتجون عملا متواصلا وعملا مشتركا وعملا متداخلا بين ثقافات مختلفة وأفكار مختلفة وتيارات مختلفة إذن قبل أن نبحث في هذه الفكرة يجب أن نوفر لها الظروف الملائمة التي تكفل لها النجاح.

 


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏