قابل للاشتعال.. حاجز الأسر البشري

قابل للاشتعال.. حاجز الأسر البشري

العدد 527 صدر بتاريخ 2أكتوبر2017

أفكار وجودية شديدة القوة تضع النفس البشرية أمام مرآة مقعرة لترى حقيقتها في أشد حالاتها ضعفًا وتشوهًا، كما تطرح الأسئلة الأكثر قسوة وتعصبًا وغلوًّا: أين؟ كيف؟ لماذا؟
في تجربة ذاتية لنادي مسرح الأنفوشي كتبها وأخرجها أشرف علي، وشارك بها ضمن فعاليات المهرجان الختامي السادس والعشرين لنوادي المسرح والمقامة بأرض السامر بالقاهرة، بدأ العرض بشاب في صدر شبابه يرتدي الملابس البيضاء الزاهية ليقابل اثنين من المرتدين الملابس السوداء، وبعد صراع تعبيري يبدأ بالكلمات بعد تقمص مرتدي الملابس السوداء للملكين (ناكر ونكير) هؤلاء الذين يقابلهم الميت في قبره في الثقافة الدينية الإسلامية ليبدأ معه السؤال عن الاسم والدين والرسول والإله وتجيء ردود الشاب ردودًا لا تخلو من الشطط والشك وانعدام القيمة والهدف والأمل والرجاء.
تبدأ حكاية الشاب من نهايتها حيث يصاب بالشك المرضي بكل القيم والمثل وحقيقة الوجود، نظرًا لموت أمه السيدة التي كانت له سندًا في حياته، وعند مرضها تضرع الشاب للإله أن يحميها ويحفظها من السوء، ولما حق القول على الأم وحلت ساعتها وانتقلت إلى الرفيق الأعلى، بدأ الشاب رحلة الشطط والشرك إلى اللاعودة واستحل التلذذ باللامعرفة ليعرف واللاوجود ليوجد واللاانتماء لينتمي، ولأن عقله لم يحتمل فحاول الوثوق في طبيبه الذي حاول إثناءه تارة ومطاوعته تارة أخرى، وعندما ابتعد الشاب عن الطبيب ليبدأ رحلته إلى الانتهاء فوجئ الطبيب في نهاية العرض بشاب آخر يبدأ رحلة اللاعودة ليتساءل (كيف يكون للأشياء معنى إن لم تكن من لحم ودم حقيقيين؟؟!!).
قسم المخرج بطله الشاب إلى اثنين متماثلين في الجسد والملبس مختلفين في المرحلة العمرية والشكل المادي، أحدهما شاب في مقتبل شبابه تشبث بأمه حتى ماتت والآخر شاب في صدر شبابه تعامل مع الملكين الشرير ودفان الموتى، وقسم – من ثم – المخرج مسرحه إلى بؤر تم تأطيرها عن طريق الإضاءة أحيانًا وخطوط الميزانسين أحيانًا عدة، وما لبثت هذه التقسيمات أن تداخلت تداخلاً مقصودًا في الزمان والمكان ليحدث خلخلة فيهما فيتحدان لينقلا حالة التشتت والغلواء المسيطرة على الشاب، وعلينا من تلك الأفكار الصادمة التي ألقيت من فوق منصة التمثيل واقتحمت الآذان والافئدة والعقول عمدًا وقسرًا لتفرض أسئلة وجودة شديدة التعقيد تنقل اليقين للمتيقن وتزيد ارتباك المتشكك.
ولأن مكان الأحداث تم تحييده وكذا زمان الأحداث لمحاولة تصدير فكرة هنا/ الآن، فقد نجحت سينوغرافيا العرض في نقل الحالة الشعورية والوجدانية للشاب المتأرجح، وذلك باعتماد التكوينات الحجرية لموتيف أساسي للعرض المسرحي قابل للاشتعال، فتراصت الصخور وتفرقت وتجمعت وابتعدت في تكوين عشوائي منظم، فضلاً عن إصرار خلق حاجز صخري بين أبطال منصة التمثيل وأبطال جمهور النظارة لخلق حالة من الترقب والوصول إلى جوهر الحدث والحديث، فيراقب المتلقي الممثل عن كثب ويتلصص على ما كان علّ ما كان يصبح تحذيرًا لما قد يكون من جراء اعتناق تلك الأفكار المتأرجحة بين الخطأ والصلف، ليقع الإنسان في بؤرة اللايقين واللاعودة إلى الفطرة.
جاء التمثيل متوافقًا مع الرؤية الذاتية للعرض المسرحي “قابل للاشتعال” ذلك أن حالة (الفضفضة) التي لا تخلو من التجاوز فكريًّا ومحاولة الخروج عن الأفكار المقولبة في نظر من يحاول كسرها والأفكار الفطرية في نظر من يحاول تقديسها لتظل حالة التجاذب والتوافق والتنافر متوازية مع الأفكار المطروحة، ذلك أن سبيل وصول تلك الأفكار وأدوات توصيلها إلى الجمهور كان الكثير من المواهب التمثيلية التي أيقنت ضرورة الخوض في غمار تلك المعركة الوجودية، بل والتصريح بما منع عنه التلميح به سابقًا، ولأنهم طاقات تمثيلية لا تخلو من الموهبة فقد أخذت الأفكار تنطلق من فوق شفاههم كالسهام الواضحة الهدف والمبتغى، فتحققت الرسالة وتحقق الهدف فبرع الشيطان والشاب المكلوم والأم ناعمة الإحساس والدفان الساعي للاستقرار النفسي.
اعتمد المخرج/ المؤلف فكرة الحواجز التي وضعت عمدًا لوضع الإنسان أمام ذاته في المرآة/ أمام شبيهه في الحياة، مستغلاً طاقات تمثيلية راقية وطاقات سينوغرافية لا تقل رقيًّا، فاتخذ الحاجز الحجري ليفصل بين المنصة والجمهور فاتحدا، واستخدم الحاجز المعنوي ليفصل بين ما يحدث في عقل الممثل/ الشاب والمتفرج/ المتلقي، فحاول المتفرج أن ينأى بنفسه عن التماهي مع الأفكار المطروحة أو التوحد والتفاعل معها، وإن تشكك واستخدم الحاجز الزمني عن طريق الإضاءة، وتقسيم خشبة المسرح التي عمد إلى تضييق وتحييد وتداخل المسافات بينها ليعلن عن وعي بمفردات الإخراج ومفردات خشبة المسرح، ليتجلى في النهاية الحاجز الأكثر قسوة والأكثر صلفًا، وذلك الحاجز هو حاجز الأسر البشري الذي جعل الإنسان – طواعية - أسيرًا لمعتقدات توارثها وآمن بحقيقتها بفعل التوارث وليس بفعل اليقين والمعرفة، فأصبح العامة قطيعًا منساقًا وراء قطيع، ولم ينجُ من التبعية إلا من آمن إيمانًا صادقًا بحقيقة الوجود وآمن بجوهر الأشياء وحق الحق بالاتباع وهو خالق الوجود.
تجربة “قابل للاشتعال” هي تجربة ذاتية للمخرج كتبها بقلمه ونفذها بنفسه لينقل أفكاره عن تصور جوهر الأشياء وعرض أزمة الهوية وأزمة اليقين وأزمة الخطاب وأزمة التلقي، وهي أزمات محل جدل وشد وجذب، معتمدًا على طاقات تمثيلية مميزة نقلت القضية بأمانة الموهوب وتمكن الواثق.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏